مسيحيّة يسوع وعيش اللاعنف
ماريا قبارة
ظهرت في الأوساط المسيحيّة مؤخراً آراء ومواقف مثبتة ومفاهيم سطحية بما يحيط بموضوع العنف، والتي بَنَت لها أساساً على خلفيّات سياسيّة لا علاقة لها بالالتزام والتعاليم المسيحيّة ولا حتى باللاهوت.
دعا البعض المسيحيّ إلى استعمال العنف كوسيلة ليدافع بها عن نفسه مستشهداً بالمسيح عندما غضب وطرد باعة الهيكل بالسوط (مت 15:11). ورفضَ البعض الآخر استعمال العنف مستشهداً بقول المسيح “أمّا أنا فأقول أحبّوا أعداءكم. باركوا لاعنيكم. أحسنوا إلى مبغضيكم. وصلّوا إلى الذين يسيئون إليكم ويطردونكم“(مت44:5)، و “لا تقاوموا الشرّ. بل من لطمك على خدّك الأيمن فحوّل له الآخر أيضاً” (مت39:5). أمّا الأكثرية من المسيحيين، فطرحوا موضوع العنف كمشكلة تجابه إيمانهم وضميرهم والتزامهم المسيحي بصدقٍ ومعاناة.
لقد عاشت الكنيسة الأولى في محيط كَثُر فيه العنف بين اليهود والرومان من جهة، وبين مختلف المجتمع اليهودي نفسه من جهة ثانية. فهيرودوس الملك اتّبع سياسة القمع ليثبت للرومان أنّه الوحيد القادر أن يجعل المملكة تستقر في الأمن والأمان. أمّا السّلطة الدينية التي كانت المستهدف الرئيس من هذه السياسة القمعيّة فاتبعت سياسة المساومة تجاه الملك والسّلطة الرومانية، فضعفت سلطتها وفقدت مصداقيتها وهيبتها تجاه الشعب. وهذا ما جعل ظهور حركات رافضة للسّلطة السياسيّة منها والدينية؛ فكانت منها العنفيّة كحركة المقاومين، والروحية كحركة جماعة قمران والحسانيين…الخ، مطالبة بالتغيير الجذري في مجتمعهم على الصعيد السياسي والديني.
وفي هذا الإطار الاجتماعي ظهرت “حركة يسوع” والتي تميزت برسالتها وأهدافها عن باقي الحركات، مطالبة بالتغيير الجذري أيضاً ولكن انطلاقاً من تغيير الذات ومن تغيير السلطة والنظام الحياتي الاجتماعي. فأساءَ اليهود فهم رسالة وجوهر حركة يسوع، وتكاتفوا جميعاً وتواطؤوا في الحكم عليه، وصلبوه، انطلاقاً من خلفياتهم المختلفة. فقد رأى فيه بيلاطس خطراً محدقاً بالقيصر. أمّا الكهنة والفريسيون فقد رأوه خطراً على نفوذهم، فاتهموه دينياً بالتجديف، وسياسياً بالثورة على القيصر. وباختصار، ألقى اليهود على عاتق الرومان عِبء صلبه وموته، وألقى الرومان على اليهود عِبء أسباب الحكم عليه. وبالنتيجة كلاهما كانا يرغبان بالتخلص منه.
لم يأتِ يسوع ليعطي دروساً في المشاكل الاجتماعية والسياسية، بل ليجعل الإنسان ابناً لله، وليزيل الشرّ والعنف. فمواقف يسوع من العنف كانت واضحة، ولكن الالتباس عند بعض المسيحيين يأتي من فهمهم الخاطئ لمسألة العنف.
والعنف بكلّ مظاهره الاجتماعية والمادية والنفسية موضوع متشعب ولا يكفي منه اتخاذ موقف ما، سلباً أو إيجاباً، أو الاعتماد على آية من هنا، وكلمة وموقف من هناك. وعلى كلّ مسيحيّ أن يتفهمه بإطار شامل وبأبعاده الاجتماعية وظروفه التاريخية وليس من وجهة نظر روحية مطلقة.
أمّا حصر العنف بالعنف المادي فقط، الذي يؤذي الآخرين إمّا على الصعيد الفردي (كالتعذيب والقتل…) أو على الصعيد الجماعي (بالثورات والحروب)، له نتائج خطيرة، فقد يستعمله البعض تبريراً لأيّ عنف وظلم وتعسف واحتلال، وبالتالي هذا يكون أيضاً ضدّ كرامة الإنسان وحقوقه.
هناك أنواع كثيرة من العنف، كالعنف النفسي والسياسي (كبت الحريات بمنع فئات من الناس ممارسة حقوقها والاجتماعية والدينية والسياسية…)، وهناك العنف الكلامي بالآراء والمبادئ والمواقف. فكلّ ما يمارَس ضدّ الذات البشرية والمجتمع وخيرات الأرض والممتلكات والمؤسسات والثروات تسمى عنفاً. ولا يمكن للمسيحي أن يفهم معنى العنف باتخاذه موقفاً صريحاً منه، إلاّ إذا ربطه بمفهوم الدفاع عن الذات والكرامة الإنسانية.
جاءَ يسوع يشهد للإنسان المظلوم والمتألم والبائس ويدافع عنه، إنّ حركة يسوع اختصرت التوراة والأنبياء بالوصية الأولى والعظمى “أحببْ قريبَك حبّك لنفسك”. فقتل الإنسان نوع من قتل الله، واحتقاره واضطهاده هو اضطهاد واحتقار لله نفسه. “أنا يسوع الناصريّ الذي تضطهده” أجاب عندما سأله شاول “من أنت يا ربّ؟”.
وعندما نمثل أمامه، تبقى محبة القريب وحدها الوصية التي تديننا ” تعالوا يا مباركي أبي رِثُوا الملكوت المعدَّ لكم، لأنّي جُعت فأطعمتموني، عطشت فسقيتموني. كنت غريباً فآويتموني. عرياناً فكسوتموني. مريضاً فزرتموني. محبوساً فأتيتم إليّ ” (مت34:25-36)