الأبوة الروحية*
الميتروبوليت أفرام (كرياكوس)
يدعى الكاهن في كنيستنا أباً (أبونا). وهو الأب الروحي الذي يختلف عن الأب الجسديّ، من حيث أنه (الأب الروحيّ) الذي يولِد بالروح بروح الله. قضية هذه الأبوة قصة طويلة يجب العودة إلى القديم جداً، منذ خلق الله اللكون، وقد خلقه بوجهٍ حسن، بقلبٍ طيب.
يقول الكتاب: “خلق الله كل شيء حسناً”. إنما في الوقت ذاته شاء الرب أن يكون الإنسان حراً. وكما تعلمون تشوّه هذا الوجه فدخل الشر في العالم وأخذ الناس يتقاتلون ويتصارعون، حروب جماعية وأخرى فردية، كره حقد، سقوط في كل الإنحرافات. شوّه الإنسان الخليقة الأولى، والربّ بسبب محبته لنا لم يرد أن يترك الإنسان الذي شرد، فحاول وبشتّى الطرائق أن يسترجعه إلى الحظيرة. هناك التاريخ الذي يدرّس في المدارس، والتاريخ الآبائي الذي يُعطى في الكنيسة. كيف حاول الله أن يرمّم في الإنسان؟ الإنسان الذي خلقه على صورته ومثاله تصدّع عقله وتخلخل جسمه، وآخِرُ مرضٍ كان الموت. فالإنسان في الأصل لم يكن يموت، ولكن بسبب الخطيئة دخل الموت، وأصبح الإنسان يباطح في التاريخ محاولاً أن ينتصر على الموت، ويخترع الوسائل والأدوية إلى أن جاء المسيح. ولكن قبل المسيح كانت هناك الشرائع كما شريعة موسى، وبعدها جاء الانبياء وحاولوا أن يحذّروا الناس من إنحرافاتهم. ظهر بعض الأنبياء، وبخاصة أشعياء النبيّ الذي أشار إلى أنه سوف يأتي من يعزّي قلوب البشر، وقال: “سوف يأتي واحد كي يفتح أعين العميان وآذان الصمّ ويعزّي منكسري القلوب ويعطي فرحاً لهذا العالم”. لأن الإنسان الذي يدخل في أحزانه يحتاج إلى معزٍّ، ومهما استطاع الإنسان أن يعزي أخاه تبقى تعزيته جزئية. أمّا الله الذي يحبنا فأراد أن يعطينا تعزيةً كاملة.
كيف ظهرت محبتُه، كيف نعلم أن الله محبٌ إلى أقصى الدرجات؟ ظهرت محبةُ الله للإنسان، بالنسبة إلينا طبعاً نحن المسيحيين، في إرساله ابنه الحبيب. يقول يوحنا الإنجيلي: “ليس من حبٍّ أعظم من أن يبذل الإنسان نفسه من أجل أحبائه”. والرب أعطانا نفسه، بذل نفسه على الصليب بالموت. “الراعي الصالح هو الذي يبذل نفسه عن خرافه”.
ما هي وظيفة الأب الكاهن؟
الكاهن الأب هو استمرار لعملِ المسيح، هو صورةُ المسيح، أيقونةُ المسيح. لماذا أتى المسيح؟ أتى كي يخلّصنا. جاء الربّ يسوع وأسّس كنيسة وبعدها جاء التلاميذ وبعدهم الأساقفة والكهنة. والكنيسة إمتداد لعمل الربّ في العالم. كما قلت، المهمة هي مهمةُ التعزية. فالكنيسة موجودة في العالم حتى تعزّي الإنسان، وأكثر من ذلك، حتى تشفيه من أمراضه. في العالم اليوم إنسان مريض. كل إنسان ينظر إلى نفسه يكتشف ضعفَه حتى لو لم يكن عنده مرض، عنده ضعفات تقتضي أن يكون هناك مَن يساعدنا لنعالج هذه الضعفات والأمراض التي فينا حتى يستطيع كلّ واحد منّا أن ينمو ويتقدّم ويثمر، لأن الضعف هو عائق، بخاصة إذا كان يخفي هذا الضعف ولا يكشف عنه. كي نفهم هذا الموضوع المهمّ في الكنيسة؟ يمكن مقارنته بالضعف أو بالمرض الجسديّ. فإذا كان الإنسان يتألم بسبب مرض ولا يكشف عنه للطبيب يمكن لهذا المرض أن يتفاقم ويصل إلى حيث لا ينفع علاج. وهكذا الحال مع النفس. والآن، الطب الحديث يركّز أكثر فأكثر على الامراض النفسية، ويكتشف أكثر فأكثر ان الامراض النفسية والأمراض الروحية هي التي تؤثّر على وضع الجسد، ولذلك نحن نتساءل: عندما نكون في مرضنا إلى من نذهب طلباً للمساعدة والعلاج والدواء كي يرشدنا؟ الإنسان المريض يفكر أولاً بالطبيب، ولكن إذا كان إنساناً مؤمناً يفكر أيضاً بالكنيسة، بالكاهن، بخاصة، إذا كان داخل هذا الإنسان شيء يؤلمه، وهو يخفيه بخاصة عن أهله، لا بدّ من أن يكشف عن هذا الامر ويعبّر عنه لأحد وإذا كان مؤمناً يتحدث إلى شخص من الكنيسة، لأنّ هذا الشخص يمثّل الكنيسة وعِبْر الكنيسة يمثّل الرب يسوع. شخص الكاهن ملؤه في بهاء الكنيسة، إنّه الأب الروحي، الأب الحنون، الشخص الذي يحضن، الذي يمثل المسيح جسدياً. هذه عقيدتنا في الكنيسة. لا بدّ من أن يوجد أشخاص من لحم ودم يمثّلون المسيح وإلاّ يكون المسيح غيرَ موجود، لأنه ليس فكرةً أو حرفاً في الكتاب وغير مقتصر على التعليم فقط، هو يفترض حضوراً، يفترض بذل نفس، يفترض إحتضاناً. وهنا أحبّ أن أستشهد بجملة لبولس الرسول إلى أهل كورنثوس (1كور4: 14-16) “ليس لكي أخجلكم أكتب بهذا بل كأولادي الاحباء أنذركم. لأنه وإن كان لكم ربوات من المرشدين في المسيح لكنم ليس آباء كثيرون. لأني أنا ولدتكم في المسيح يسوع بالإنجيل. وأطلب إليكم أن تكونوا متمثلين بي”. ويقول القديس يوحنا الذهبي الفم الذي يشرح هذا المقطع: ما الفرق بين المرشد أو المعلم الأب؟ لا ينكر بولس الرسول صفةَ المرشد، ولكنه يرفع من عظمة المحبة، وقد أضاف العبارة “في المسيح” ليبيّن فضيلتهم كمرشدين يتعبون من أجل التعليم وفي الوقت عينه يبيّن هاجسه الخاص، ولم يقل ليس لكم معلمون كثيرون. لذلك، بعد ان تعب كثيراً من أجلهم مما أعطاه صفة الأب، يقول “المسيح يسوع” العمل لم يكن من عندي، لا يعيد نجاح المهمة لنفسه، ولم يقل بولس الرسول “كرزتُ بالإنجيل لديكم” بل قال “ولدتُكم بالإنجيل” وهو تعبير الطبيعة أي “اهتمّمت بكم بصورة متواصلة لكي أظهِر المحبة التي أكنّها لكم”. هنا يظهر بوضوح الفرق بين المعلّم والأب. المرشد يعلم ولو في المسيح ولكن لمرّة واحدة أو لبعض المرات ويذهب. أما الأب فيعلّم الشخص ويتابعه ويتبناه، يلد ابنه بالمسيح ويتابع مسيرة حياته ويخصّه بمحبته الصبورة الواسعة على صورة المسيح.
الكنيسة تأسست على أساس الرسل كما تعلمون. يقول بولس الرسول: “الكنيسة هي جسد المسيح والمواهب فيها متعددة وقد أعطى الله ان يكون هناك أنبياء ورسل واعطى مواهب أخرى معلّمين ومترجمين وأصحاب ألسنة…”. كانت القاعدة هي الرسل والأنبياء ثم الآباء القديسون الذين واصلوا عمل الرسل وكانت الكنيسة تختار من بينهم (في الضيعة كانوا يختارون الإنسان الأكثر تقوى وإيماناً ومحبّةً وطبعاً يعرف الكتاب فيقدّمونه ليصبح كاهناً). هناك قدّيس مهم في الكنيسة فسّر مراتب الأساقفة والكهنة والشمامسة، وقال: “إن الكاهن يتميز بثلاثة أشياء تدريجية أساسية:
أولاً: إنه يحارب أهواءه، أي على المرشد أن يكون متجرداً من أنانيته إلى حدّ كبير. ثانياً: عليه أن يكون إنساناً مستنيراً بكلمة الله. أن يكون نور الله في قلبه وعقله، عندها يفهم كلمة الله وينقلها إلى الناس لأنه يحياها. ثالثاً: أن يكون متحداً بالمسيح، واحداً مع المسيح”.
هذا تقليدُنا. نحن نؤمن بالقديسين، نحن تلاميذ المسيح والقديسين. والقديسون يسميهم السواعي، المتوشّحين بالله أو المتوشّحين بالمسيح، حاملي المسيح ولابسيه، لذا نرتّل في المعمودية: “أنتم الذين بالمسيح اعتمدتم المسيح قد لبستم”.
كيف يلبس الإنسان المسيح؟
إذا لم يوجد أناس يلبسون المسيح ويعكسون صورةَ الرب يسوع فكيف يعرف الناس الربّ، أبالخيال، بالعقل، بالدراسة؟ الناس بحاجة إلى أن يروا أشخاصاً مسيحيين لابسين المسيح ويعيشونه. هذه فكرة عمّا يُفتَرض أن يكون عليه الأب الروحي. هو يمثّل المسيح أي أنّه مثلَه يتشبه به، ولكن لاهوتياً نقول يلبسه اي يحمل نعمة الله التي تنسكب علينا ويرمز إليها البطرشيل الذي يلبسه الكاهن. تنسكب علينا نعمة الله بالمعمودية، وتنسكب على رجاء أن نعيشَها، وهذه البذرة التي تدخل قلبنا، إذا أرادها الإنسان وتجاوب، تنمو وننمو معها. كما يقول القديس باسيليوس الكبير: ” ينمو الإنسان بالروح إلى أن تصبح عيناه ونظراته تشبه عيني المسيح ونظراته، ويصبح فكرُه فكرَ المسيح كما يقول الكتاب”.
ويقول القديس بولس: “عليكم أن يكون لكم فكر المسيح”. نحن علينا أن نتدرّب هكذا على ما يدعى بالإرشاد الروحي، ونحن كما تعلمون متمسّكون بهذا التقليد، تقليد الجماعة (الكنيسة)، لأن الكنيسة شركة والإنسان لا يحيا وحده. إذا لم يكن هناك من جماعة تحيا مع بعضها البعض وتضحّي من أجل بعضِها البعض، لا وجود للمحبة. المحبة تتجسّد بشخصٍ يحيا مع الآخر ويتحمّله، كما يقول الكتاب: “إحملوا أثقالَ بعضِكم بعضاً هكذا تتمّمون ناموسَ المسيح”. في الكنيسة مرشدون لديهم خبرة يساعدوننا ويقدموننا للرب ويفسّرون لنا. ونحن لا بدّ من أن نفتح لهم قلوبنا، لا بدّ من الإعتراف لهم. آمين.