روحية الآباء القديسين
حديث روحي
الأرشمندريت افرام كرياكوس
قراءة كتابات الآباء القديسين
“قل لي من تعاشر أقول لك من أنت”. معاشرة القدّيس (الحديث والإلفة معه) تجلبان القداسة.
“مع البار تكون باراً، مع الوديع تكون وديعاً ومع القويم تكون قويماً” (مز17: 25-26).
إن اكتسب الواحد فكر الآباء وروحيّتهم عن طريق مطالعة كتاباتهم، يصل إلى هدفهم الذي هو الخلاص. هكذا نصبح أبناءهم. كتابات الآباء القدّيسين مكتوبة بإلهام الروح القدس. كتابات الآباء كلّها موحدّة بالإنجيل.
الكاتب القدّيس يعبر بتعابير مخلوقة من خبرته الإنسانية الإلهية غير المخلوقة أي المطعّمة بالنعمة الإلهية غير المخلوقة، هذه الخبرة هي تحقيق لكلمات الإنجيل. حياة القدّيس، خبرته، كتاباته كلّها دليلٌ حيّ لصحّة كلمات الإنجيل.
من هنا أهمية حياة القدّيسين وكتاباتهم.
قراءة الإنجيل، وحياة القدّيسين وكتابات الآباء تتطلب قلباً نقياً. هذه الكتابات تسمح فقط للمتواضعين أن يدخلوا إلى أعماقها، إلى روحها.
في عصرنا قلّ وجود الآباء الروحيّين، لذا أضحت كتابات الآباء القدّيسين معيناً أساسياً للّذين يبتغون الخلاص والوصول إلى الكمال المسيحيّ. صوت الآباء يكشف مكائد الشرّير. صوت الآباء يكشف عن ضعفات النفس ويمنحها في الوقت نفسه الأدوية الشافية.
من هم الآباء؟
هم الذين نقلوا تعليم الرسل القويم، هذا “الإيمان المسلّم مرة واحدة للقدّيسين” (يهوذا 3).
عبارة “الآباء” كانت معروفة في زمن المجامع المسكونيّة. كانت تشير إلى معلميّ الكنيسة الأولى، بعد ذلك، اُطلقت على الأساقفة الأعضاء في المجامع. لنلاحظ أن الآباء ليسوا معلمين فحسب بل وأيضاً شهوداً في حياتهم لكلمة البشارة الرسوليّة السارة. بمقياسنا العالمي تظهر تعابير الكتاب المقدّس وكتابات الآباء قديمة. لكنّ القدّيس إيريناوس يقول: “ليست الكنيسة متحفاً للودائع الميتة، سوف أعلّم أبناء عصري بالعقائد نفسها أي بيسوع المسيح المصلوب والقائم من بين الأموات”.
ويضيف الأب فلورفكسي: “إنّ مؤلّفات الآباء أكثر حداثة لمشاكل عصرنا الحاضر من نتاج اللاهوتيين المعاصرين”. والسبب لذلك عائدٌ إلى أنّ الآباء القدّيسين لا يعطون على غرار الفلاسفة تحديداّ ما ورائياًMetaphysique لوجود الله بل تحديداً وجوديّاً إيمانيّاً. فالله ليس قوةً مهيمنةً على الكون من بعيد بل بإفراغ الله لذاته، لمجده، أصبح شخصاً تاريخياً وله علاقة شخصية مع الإنسان. الإيمان عندهم خبرة ومعاينة.
ما هو مقياس الحقيقة؟
عند محاكمة يسوع من بيلاطس سأله الحاكم لماذا جئت؟ فأجاب يسوع “جئتُ إلى العالم لأشهد للحق… قال له بيلاطس وما هو الحق؟” (يو18: 37-38) ولم يجب الرب يسوع لأنه قال في مكان آخر “أنا هو الطريق والحق والحياة” (يو14: 6)، وفي مكان آخر: “إن ثبتّم في كلامي فبالحقيقة تكونون تلاميذي وتعرفون الحق والحق يحرّركم” (يو8: 32).
مقياس الحق إذاً هو المسيح وتعاليمه: إذا كنّا نعتمد أولاً على كلمة الله، تبقى مشكلة التفسير. هل سلطة الآباء مساوية لسلطة الكتاب المقدّس؟ نعم بقدر ما هي ملهَمة من الروح القدس. لذلك فإن كتاباتهم ليست ذات سلطة مطلقة. يقول القدّيس ايريناوس: “السلطة (العصمة) هي في النهاية للكنيسة. لا بالمعنى القانوني بل بالمعنى المواهبي. لأنّ هذه السلطة تقوم على مؤازرة الروح القدس”.
فكر الكنيسة الجامعة يعتمد على “إجماع الآباء”: “فظهرت حسنةً للروح القدس ولنا”.
الإيمان القويم مبنيّ إذاً على الكتاب المقدّس، كلمة الله والبشارة السارة، وأيضاً على كتابات الآباء القدّيسين الشارحين للكتاب. فهم المعلّمون الحقيقيون Docteurs de l’Eglise بقدر ما هم شهودٌ للمسيح ولوصاياه.
ملاحظة شخصية
هذه الملاحظة قابلة للنقاش: يقوم اليوم صراعٌ حاد بين التقليد المقدّس والنقد الحديث، بين الإيمان المسلَّم والعلم: هل نعتمد على كتابات الآباء القدّيسين دون الاستفادة من دراسات النقد الحديث؟ أو نعتمد على معارف الدراسات النقديّة الحديثة دون تعاليم الآباء القدّيسين وتقليد الكنيسة؟
الجهد العقليّ يساهم في عمل الخلاص شرط أن يكون بناءً في الكنيسة مرافقاً بالتواضع، كما ذكرنا سابقاً، لا يقصي تقليد الكنيسة المقدّس. لذلك، إن المسعى المبارك هو في التزاوج بين التقليد الشريف والنقد الحديث البناء في الكنيسة والمحتكم إليها لا الفرديّ individualist .
خلاصة
الإحتكام إلى الآباء القدّيسين يجد تبريره في استمرار عمل الروح القدس في الكنيسة. سلطة الآباء القدّيسين تعود إلى سلطة الروح القدس الفاعلة فيهم. لا تعتمد روحيّتهم على مقاربة عقليّة فردانيّة بل على روح منسحق متواضع يبحث في إطار مناخ الكنيسة وتقليدها المقدّس ويعبّر تأليفاً وجودياً شهادةً مسيحيةً معاصرة (بلغة العصر).
“إتباع الآباء القدّيسين”
ذُكرت هذه العبارة رسمياً في قرارات المجمع المسكوني الرابع والمجمع المسكوني السابع المتعلّق بالأيقونات المقدّسة، حيث نقرأ “إننا نتبّع تعليم الآباء القدّيسين الذي أوحى به الله ونتبّع تقليد الكنيسة الجامعة”. يشرح القدّيس إيريناوس معنى ذلك بقوله: التقليد الحقيقي هو التقليد الحيّ traditio veritatis ، وهو ليس مجرّد استمرار للعادات القديمة وليس شريعةً ميتة بل هو “وديعةٌ حيّة”. إنّه استمرار لحضور الروح القدس في الكنيسة، وهو في الوقت نفسه احتكامٌ إلى شهود قدّيسين. نحن لا نحتكم إلى مجرّد قرارات وعقائد بل إلى شهادة آباء قدّيسين.”
الكنيسة رسوليّة ولكنّها آبائية أيضاً. هي “كنيسة الآباء”، ولكونها آبائية فهي رسولية حقاً. إليكم ترنيمة من خدمة الأقمار الثلاثة: “إنكم بكلمة المعرفة ألّفتم العقائد التي وضعها الصيّادون قبلاً بكلام بسيط عبر المعرفة بقوّة الروح…”. إن تعليم الآباء وعقيدة الكنيسة ما زالا “الرسالة البسيطة” نفسها التي سلّمها الرسل مرّة والى الأبد.
الخاتمة: روحيّة الآباء القدّيسين
بتعبير حديث نستطيع أن نقول إنّ روحيّة الآباء وجوديّةٌ existentielle . يقول القدّيس غريغوريوس اللاهوتي “تكلّم الآباء على طريقة الصيّادين لا على طريقة أرسطو” (العظة23: 12) فبقي كلامهم بشارةً لأن مرجعهم الأخير كان الرؤية الإيمانية والخبرة الروحيّة. إذا فُصل الكلام اللاهوتي عن حياة الإيمان يتحول إلى ديالكتيك (Dialectique جدلية) فارغ، إلى كلام كثير باطل. لا يمكن فصل اللاهوت عن حياة الصلاة وعن ممارسة الفضيلة. يقول القدّيس يوحنا السلّمي: “قمّة الطهارة هي أساسُ اللاهوت” (السلم الدرجة30) يبقى المرجعُ الرؤية الإيمانية” إننا نعلن ما رأيناه وسمعناه”.
اليوم لا يمكن أن نقبل أن “عصر الآباء” قد انتهى. وأن ننظر إليه على أنه “عتيقٌ وميتٌ”. فقد ألِف الناس اعتبار القدّيس يوحنا الدمشقي آخرَ أب في الشرق. لكن لا يمكننا أن نهملَ القدّيس سمعان اللاهوتي الحديث، القدّيس غريغوريوس بالاماس، آباء الفيلوكاليا، القدّيس نيقوديموس الآثوسي وغيرهم. فكرُ الآباء يبقى قائماً في عصرنا ويشكل موقفاً وجودياً هاماً.