قوّة صلاة يسوع
إعداد راهبات دير مار يعقوب الفارسي المقطع، دده – الكورة
انتهت الخدمة الطقسيّة الصباحيّة في الساعة الخامسة صباحًا، فهرولت إلى قلاّيتي لأنال قسطًا من الراحة، وإذا برؤيا مروّعة تحدث لي: “رأيت نفسي في سان بطرسبرج، وبالتحديد في جزيرة فاسيلييف، متوجّهة لحضور القدّاس الإلهيّ في كاتدرائيّة القدّيس نيقولاوس، وأنا ألبس إسكيمي الرهبانيّ، وأجلس في عربة صغيرة.
وفجأة، وجدت نفسي في ساحة مظلمة، خائفة، تتملّكني الرعدة، أركض في اتّجاهات مختلفة بحثًا عن مخرج من هذا الساحة الرهيبة. وللحال رأيت مئات الأشخاص قادمين نحوي بوجوههم الحزينة المظلمة. فسألتهم: “من أنتم؟”. فأجابوني: “إنّنا أناس عبروا إلى الحياة الأبديّة، كما عبرت أنت تمامًا”. ما شعرت به، في تلك اللحظة، يفوق الوصف! لقد تسرّب الخوف والهلع إلى كياني كلّه، وقد فهمت أنّي كنت قد تركت خلفي حياتي على الأرض، ودخلت إلى الحياة التي بعد الموت، ولكن من دون أن أتوقّع ذلك أو استعدّ له. ثمّ ما لبث أن جاء شابّ مشعّ، حجب نورُه ملامحَه عنّي، فتقدّم نحوي وقال: “اتبعيني”. وأخذني إلى المكان الذي تحاكَم فيه الأرواح. سرنا فوق الغابات والمباني والسهول التي لا نهاية لها. ثمّ قادني إلى حجرة حيث اجتمع فيها الكثير من العلمانيّين، من رجال ونساء وأولاد بالغين، وقد لفّهم الحزن جميعًا. ولاحظت سيّدة تجلس إلى طاولة كبيرة في منتصف الحجرة، فأخذت تحدّق إليّ وهي تقول: “إنّ هذا المكان مُعَدّ لك حتّى المجيء الثاني للربّ”.
أمّا أنا، فمن اضطرابي لم أردّ لها جوابًا، بل نظرت إلى الناس المجتمعين هناك، وسألتهم: “ماذا تفعلون هنا؟ هل تصلّون إلى الله في هذا المكان؟”. فأجابوني بحسرة: “نحن لا نستطيع أن نصلّي في الحياة الأبديّة، وبما أنّنا أمضينا حياتنا الأرضيّة بالتراخي واللاّمبالاة، فليس لدينا، الآن، الجرأة الكافية لندعو باسم الربّ. لقد كانت حياتنا الأرضيّة فرصة لنهتمّ بخلاص نفوسنا وتنقيتها، غير أنّنا لم ندرك قيمة تلك الفرصة. كثيرًا ما قرأنا مقولة الرسول بولس: “صلّوا بلا انقطاع” (تسا 5: 17)، وأدركنا أنّه من واجبنا أن نصلّي صلاة يسوع كلّ أيّام حياتنا، ومع كلّ نفس نستنشقه، بيد أنّنا لم نعر الأمر اهتمامًا. وهكذا، فكما أنّه يستحيل على المرء أن يعيش من دون هواء، هكذا أخذت أرواحنا تجفّ، وتموت، من دون الصلاة الدائمة. نعم، كنّا نعيش بشكل صحيح، ونتمّم جميع واجباتنا إلاّ الأمر الأهمّ ألا وهو الصلاة”.
ما إن سمعت هذا، حتّى بدأت، للحال، بالصلاة ورسم إشارة الصليب، فماذا حدث للوقت؟! يا للهول!!! أحسست وكأنّ صوتي يعود إليّ! نظرت حولي، فرأيت سقفًا معدنيًّا، وجدرانًا وأرضيّة خشبيّة مطليّة، فدبّ الذعر في أوصالي لعلمي باستحالة الهرب من هذا الوضع التعيس. ثمّ سمعت الناس من حولي يقولون: “هنا في الحياة الأبديّة، لا راحة لنا إلاّ عندما يذكرنا أولئك الذين مازالوا على قيد الحياة أمام الربّ”.
ثمّ أخذت، بعد ذلك، تلك السيّدة تتحدّث إليّ قائلة: “هؤلاء الناس، الذين تشاهدينهم، كانوا مسيحيّين صالحين. أحبّوا الربّ، وخدموا القريب، لكنّهم استخفّوا ببعض النواحي الروحيّة، فآل بهم المصير إلى هنا”. فصرخت: “آه، كم أتعذّب وأعاني، وكأنّ نارًا تحرقني، لا بل أنّ عظامي تتفكّك!”. فاقتربت السيّدة منّي، وسألتني: “تُرى، أيّ نوع من الحياة كنت تتمنّين؟”. فأجبت، وأنا أرتجف: “آه، يا سيّدتي، كنت أتمنّى أن أتمتّع بالحياة الأبديّة، ورؤية الله ووالدة الإله وكلّ الطغمات السماويّة”. فابتسمت السيّدة وقالت: “إنّ القدّيسين، فقط، الذين جاهدوا في حياتهم، لاقتناء الصلاة الدائمة عبر صلاة يسوع، والتي تؤهّلهم ليغدوا مسكنًا لله يستريح فيه، يتمتّعون بما ذكرت. أمّا أنت، وعلى الرغم من أنّك راهبة، إلاّ أنّك لم تماثليهم. واعلمي، جيّدًا، أنّه بواسطة هذه الصلاة، تسكن نعمة الله في الإنسان، وعندما تنفصل روحه عن جسده، لا يشعر بهذه الرعدة التي تتملّكك الآن لأنّه يكون مع المسيح. الفردوس هو داخل قلوب الناس، لأنّه حيث يكون الربّ، فهناك الفردوس أيضًا. عليك أن تروي رؤيتك لجميع المسيحيّين من رهبان وعلمانيّين، وأن تنذريهم بأنّ إهمالهم سيقودهم إلى الهلاك لا محالة. لا تتكلّمي عنها لغير المؤمنين وأصحاب الإيمان الضعيف. الله قادر على إقامة ميت منذ مئات السنين، ليشهد بأنّ هناك حياة بعد الموت، ولكنّهم لن يصدّقوه ويقتلوه”.
بينما كانت السيّدة تنطق بهذه الكلمات، شعرت ببعض الأمل بعودتي إلى الأرض، فصار كلّ الموجودين في الحجرة المعدنيّة يرمقونني بنظراتهم الساخطة المرّة، ثمّ التفتوا نحو السيّدة وهم يزمجرون: “حسنًا، هل تنوين إخراجها من هذه الحجرة المليئة بالخوف والعذاب؟”. وأمّا السيّدة، فلم تلتفت إليهم، بل واصلت حديثها قائلة: “إذا مات أحدهم وهو يردّد صلاة يسوع، لا يخشى من المثول بحضرة الربّ، بل ولن ينفصل عنه إلى الأبد. وكذلك الأمر لمن يردّد: “أيّتها الفائق قدسها والدة الإله خلّصينا”، لن ينفصل عن والدة الإله. وإذا مات أحدهم، ولم يستطع أن ينطق ولو بكلمة واحدة، ولكنّه جاهد ليحافظ على هذه الصلاة أثناء حياته على الأرض، فإنّ روحه تردّدها بدلاً منه وهو على فراش الموت. لا يوجد توبة بعد الموت، وهذا أمر بديهيّ، وإنّما التوبة والتغيير الروحيّ يحصلان للإنسان وهو على الأرض”.
ثمّ أضافت: “أيّها الرهبان!! أيّها الرهبان!! إنّكم تدعون أنفسكم رهبانًا وراهبات، قائلين إنّكم تخلّيتم عن الأشياء الدنيويّة، ولكن كيف تعيشون؟ إنّكم لا تكلون بمشاكلكم إلى والدة الإله، بل تنشغلون بتأمين حاجيّاتكم الزمنيّة قائلين: “أنا بحاجة إلى هذا أو ذاك، وأنا لا أستطيع العيش من دون هذا الشيء أو ذاك”. اعلموا أنّ والدة الإله لا تعتني بهكذا رهبان، سواء في هذه الحياة أو في الحياة الأخرى. إنّها تعتني بمن يعهدون إليها بجميع مشاكلهم، والذين يتحمّلون الضيقات والفقر والمرض، واثقين بأنّ ما يعرض لهم إنّما يحصل بإرادة الله، وهم يتحمّلونها حبًّا به وبملكة السماء. هل تريدينني أن أريك إهمال الرهبان؟ انظري”.
ورأيت، فإذا ببعض الراهبات قادمات صوبي كانوا خادمات المذبح، وقد استجزن لأنفسهنّ بالاحتفاظ ببعض الأموال المقدّمة كإحسان، ولذلك يحملن بأيديهنّ قطعة من الورق مذكور عليها أسماء الناس التي تعود الأموال إليهم. ثمّ تبعتهنّ أخريات كنّ يرتّلن في الكنيسة، ولم يحافظن على عفّتهنّ ونقاوتهنّ، ولذلك يكسو الأسى وجوههنّ. فقلت لهنّ: “كم أتشّوق لسماع ترنيمة لوالدة الإله، فهل تسمعنني شيئًا؟”. فأجببني: “لم تعد لدينا الجرأة للترتيل، لأنّنا عندما كنّا نعيش في الدير، لم نخدمها بقلوب نقيّة”. ثمّ بكين بمرارة، وهن يقلن: “نعم، بسبب تغافلنا وتهاوننا حُرمنا نعمة الترتيل لله ولوالدته الكلّيّة القداسة”.
وبعد هذا رأيت الشابّ الذي كان قد أخذني إلى حجرة المحاكمة قد أتى قائلاً: “سنعود الآن إلى المكان الذي فصلت فيه روحك عن جسدك”.
استيقظت، لأجد نفسي في سريري أرتعد هلعًا. رسمت إشارة الصليب، وحاولت أن أصلّي وأنا أجول بنظراتي في كلّ أنحاء القلاّية، ثمّ تمتمت: “الحمد لله كان مجرّد حلم”. وما إن نطقت بهذه الكلمات، حتّى وجدت نفسي، مرّة أخرى، في الحياة الثانية أمام الشابّ نفسه الذي قال لي: “لا تظنّي أنّك كنت تحلمين، بل كنت، حقيقة، في الحياة التي بعد الموت”.
– ركعت أمامه قائلة: الويل لي أنا تعيسة!! لقد عدت إلى هنا مرّة أخرى. كم أتمنّى لو أستطيع الهرب بعيدًا!
– اتبعيني. سنزور الكثير من الأماكن لعشرين يومًا، وبعدها سوف نعود إلى المكان الذي أعدّ لك لتبقي فيه حتّى المجيء الثاني للربّ.
– بكيت، ولم أكن أقوى على المشي. فاستدار، ونظر إلي بعطف، فسألته: هل أنت ملاكي الحارس؟
– نعم.
– صلّ إلى الله عساه يرحمني، وأعدني أنت إلى الأرض، لأقدّم فيها توبة نصوحًا عن أفعالي وزلاّتي.
– سوف أعيدك شرط أن تخبري بكلّ ما رأيت وسمعت هنا.
ركعت، ووعدت بأن أفعل كلّ هذا. فقال لي الملاك: “لا يملك الله على كلّ قلبك بعد، فإنّه لا يزال منقسمًا، ولكنّك وعدت بالجهاد من أجل هذا. أخبري بما رأيت، ولا تخافي. سأكون معك، وسألاحظك وأنت تفين بما وعدت”.
وللحال عدت إلى سريري، فرأيت الشابّ يقف قربه. أسرعت إلى رفيقاتي الراهبات اللواتي يشاركنني القلاّية وأنا أهتف: “كنت في الحياة الأخرى”. وبعدها هرولت نحو الباب لأخبر كلّ من ألتقي به من دون أن أخفي شيئًا، وأنا في حالة من النشوة والابتهاج غير العاديّين، فاختفى الشابّ، عندها، عبر الحائط.
سارعت الأخوات، وأحطن بي وهنّ مندهشات من التغيّر الفجائي الذي طرأ عليّ في فترة قصيرة جدًّا. فلقد شاهدنني هادئة منذ عشرين دقيقة، وأنا أشارك في الخدمة الكنسيّة. فركعت أمامهنّ، وأخبرتهنّ بعزمي على التغيّر ابتداء من هذه اللحظة، إذ لا يمكن مقارنة أيّ فزع على الأرض بالرعب الذي تعرّضت له في الحياة بعد الموت. ولازلت، حتّى يومنا الحاضر، أتكلّم مع الجميع باستمرار، ومن دون أيّ تردّد، أو إحراج، عمّا رأيت.
عن الترجمة اليونانيّة للكتاب الروسيّ “معجزات أورثوذكسيّة في القرن العشرين”. صفحة 305-311.