اللاهوت والمنهج العلمي
الأب يوحنا رومانيدس
نقلها إلى العربية بتصرّف الأب أنطوان ملكي
إذا كان أحد الطلاب مهتماً بعلم الفلك، فسوف يقرأ كتباً عن الأجسام السماوية ومن ثمّ يراقب النجوم في السماء. عندما ينمو، إذا رغب في دراسة النجوم بشكل أكثر تفصيلاً والتعرّف إليها عن كثب، يذهب إلى الجامعة ويدرس النجوم عبر مقراب (telescope) ويرى ما يُرى بالعين المجرّدة. هذا بالتحديد ما يجري في الحياة الروحية. المسيحي الذي يرغب برؤية مجد الله، عليه أن يعبر بعض المراحل أو الخبرات التي يتقدّم روحياً من خلالها. كما ذكرنا سابقاً، هذه الحالات هي التطهر، الاستنارة والتمجيد. تأتي حالة الاستنارة الشاملة عندما تصير الصلاة النوسية غير المنقطعة ناشطة في القلب البشري. من ثمّ، يصير الإنسان في الحقيقة هيكلاً للروح القدس.
بالرغم من هذا التشابه، أيٌ من العلوم، بما فيها العلوم الصارمة (hard sciences اي تلك القائمة على الاختبار)، لا يملك أي خبرة خاصة وحاسمة على علاقة بحالة الاستنارة. فقط في العلوم المحددة يوجد حالة على علاقة بالتألّه وتسمح لنا بالمماثلة. كما أن مَن هو في حالة التمجيد يمكنه أن يرى مجد الله، كذلك عالم يمتلك الأدوات المناسبة لعلمه (المجهر أو المرقاب مثلاً) يمكنه أن يرى الشيء المنشود لكي يراقبه ويدرسه. ما أن تأخذ علماً طبيعياً، حتى تستطيع أن ترى الشيء الذي تتعلّم عنه وتدخل في تماسٍ مباشر معه.
ما يعاينه العلماء يكون مصدر إلهامهم. عالم البيولوجيا تلهمه الحيوانات والنباتات التي يراقبها. عالم الجراثيم تلهمه الكائنات المجهرية التي يراها بمجهره. إذاً، عالم الجراثيم هو ملهَم جرثومياً، إذا صح التعبير. عالم الفلك ملهَم فلكياً. العلماء من كل الفئات ملهَمون بموضوع بحثهم. إذاً، ماذا ينبغي أن تكون الحالة المرادفة التي تلهم اللاهوتي؟ (اللاهوتي هنا ليس مَن يحمل شهادة في اللاهوت، بل هو المستحق لمعاينة الله) بشكل طبيعي، يجب أن يكون اللاهوتي ملهَماً من الله. لكن مَن هو الملهَم من الله؟ إنه مَن رأى الله.
السؤال الآن: لماذا نسمّي مَن بلغ الاستنارة “مستنيراً”؟ إنه مستنير لأن الروح القدس يسكن فيه ويعلّمه. وكيف يعلّمه الروح القدس؟ من خلال الصلاة النوسية. بالصلاة في قلب هذا الإنسان يعلّمه الروح القدس ويعرّفه ماذا ينبغي أن يقول أو أن يفعل. مَن يكون في هذه الحالة يتلقّى رؤى بشكل مستمر حول ما هي إرادة الله في أي موضوع. إذاً، الروح القدس عينه هو معلّم هذا الإنسان في فن الصلاة. في اللاهوت، الله ليس موضوع البحث البشري وحسْب، بل هو أيضاً معلّم الإنسان الذي يقوده إلى المعرفة، معرفة الله، التي ليست شيئاً أقلّ من معاينة النور غير المخلوق.
كيف يحقق الطالب موقعه الملائم في حقله العلمي بين العلوم الدقيقة؟ ألا يحتاج إلى مَن يعلّمه هذا العلم؟ أهو يتعلّم من الكتب فقط أم من علماء أحياء؟ بالطبع، يجب أن يتعلّم من علماء أكفاء. عليه أن يذهب إلى الجامعة ويرتبط بأستاذ يلمّ بالمادة التي يهتمّ بها هو. بهذه الطريقة أيضاً، تتكوّن قناعة الطالب بأن أستاذه هو عالم بالفعل بما يرغب هو بتعلّمه. بالطبع، يدرك الطالب أن معلّمه لا يعرف كلّ شيء. هذا يتعلّمه من الأستاذ نفسه. إن العلاّمة الثابت والحسن السمعة يكشف لتلميذه ما يعرف في اختصاصه. وهكذا، يتعلّم الطالب من معلّمه ما يبقى مجهولاً بالإضافة إلى ما هو معروف في الحقل العلمي الذي اختاره. فوق هذا، هو يتعلّم الطريقة أو الطرق العلمية لاكتساب المعرفة. بتعبير آخر، إنه يتدرّب على طرق البحث، إذ يتّم تعليمه التمييز بين المعلوم والمجهول كما غربلة المعرفة النافعة من المعلومات التي لا جدوى منها. كذلك، يتعلّم كيفية توسيع تركيز دراسته أو تحقيقه عن طريق المزيد من البحوث. فإذا كان الأستاذ صريحاً تماماً مع تلميذه وأطلعه على ما يعرف وما لا يعرف، وإذا علّمه كيف يقوم بالبحث، ينمو التلميذ تدريجياً إلى اختصاصي في حقله تماماً مثل معلّمه.
من كل هذه التفاصيل المتعلّقة بأسئلة حيوية حول المنهجية يمكننا أن نرى أن الطريقة الاختبارية بتعلّم علم ما تلائم اللاهوت، وهي الطريقة الآبائية لاكتساب معرفة الله. يمكننا أن نرى أيضاً أن الاستنارة والتألّه هما حالتان اختباريتان منفصلتان كلياً عن الماورائيات أو التفكّر الفلسفي. من حيث المنهجية، ولوج حالة الاستنارة ليس مختلفاً عن إدخال الطلاب إلى أي من العلوم الدقيقة. لبلوغ حالة الاستنارة، عليك أن تمضي وترتبط بأبٍ روحي قد سبق وبلغ هذه الحالة، وهو مستعد لأن يعلّمك طريقة اكتساب معرفة الله ويرغب في مساعدتك للتقدم روحياً.