في علاقة الرّبّ يسوع بتلاميذه
الأرشمندريت توما بيطار
باسم الآب والابن والرّوح القدس، الإله الواحد، آمين.
يا إخوة، في هذا الإنجيل الّذي سمعتموه، ثلاث أفكار مرتبطة الواحدة بالأخرى، تحدّد علاقة الرّبّ يسوع بتلاميذه، وتحدّد، أيضًا، مهمّة التّلاميذ. أوّلاً، الرّبّ أعطى الرّسل الاثني عشر قوّة وسلطانًا على جميع الشّياطين وعلى شفاء الأمراض. هذا يعني أنّه أعطاهم كلّ السّلاح اللاّزم، حتّى يتمكّنوا من أن يقوموا بالمهمّة الّتي يريدها لهم. والتّركيز، هنا، بالحديث عن الشّياطين، يعني، في الحقيقة، أنّ الرّبّ يريد أن يعرف التّلاميذُ أنّ كلّ الخطايا الّتي يرتكبها النّاس، في العالم، تكمن وراءها الشّياطين، الّتي تتحكّم بالإنسان المتعامل معها، إذا ما سلك في الخطيئة. فحين يقول الرّبّ إنّه أعطى التّلاميذ سلطانًا على جميع الشّياطين وعلى شفاء الأمراض، فهذا يعني أنّه أعطاهم كلّ ما يلزم للخلاص؛ إذ إنّ البشر يحتاجون إلى أن يخلصوا، في الدّرجة الأولى، من تسلّط الشّياطين عليهم. إذًا، التّلاميذ قادرون، بنعمة الله، على أن يغفروا الخطايا، باسم الرّبّ يسوع؛ وعلى تحرير النّاس، أيضًا، من ألاعيب الشّياطين، وتأثيرهم، وخباثاتهم. بالإضافة إلى ذلك، الرّبّ أعطاهم قوّة وسلطانًا على شفاء الأمراض، الّتي هي، بمعنى من المعاني، نتيجة عمل الشّياطين في النّاس وتعاونهم معها. إذًا، القوّة هي قوّة خلاصيّة وقوّة شفائيّة، لا تتناول فقط ما هو في مستوى الرّوحيّات، بل أيضًا ما هو في مستوى الجسديّات والنّفسيّات. هذه هي الفكرة الأولى.
أمّا الفكرة الثّانية، فهي أنّه حدّد لهم في أيّ إطار يمكنهم أن يتعاطوا قوّة الله وسلطانه. طبعًا، الرّبّ لا يعطيهم هذا السّلطان حتّى يتصرّفوا به كما يحلو لهم، أو حتّى يقوموا باستعراضات قدّام النّاس. المطلوب هو أن تُستَعمل قوّة الله وسلطانه في إطار الرّسالة الّتي أوكل الرّبّ يسوع تلاميذه بها، وهي أن “يكرزوا بملكوت الله ويبرئوا المرضى”. لفظة “ملكوت” تعني “مملكة”. لكنّ النّاس يعرفون الممالك الّتي هي من هذا الدّهر وفي هذا الدّهر، وفيها يتسلّط النّاس بعضهم على بعضهم الآخر. أمّا الكرازة بملكوت الله، فتعني أنّ المطلوب هو أن يُسَيِّدَ النّاسُ اللهَ على حياتهم، فيصير هو الملك. عليهم أن يقتبلوه بمثابة السّيّد، والملك، والمعلّم. إذا لم يقتبلوا، إراديًّا، هذا الأمر، فإنّ السّيّد لا يكون سيّدًا عليهم. طبعًا، الرّبّ قال: “لا تدعوا لكم سيّدًا على الأرض، لأنّ سيّدكم واحد في السّموات؛ ولا تدعوا لكم معلّمًا على الأرض، لأنّ معلّمكم واحد في السّموات” (متّى23: 8- 11). إذًا، المطلوب أن نرسّخ سيادة الله بين النّاس. هذا يعني أنّ النّاس، إذا أرادوا، قادرون على أن ينتموا إلى ملكوت السّموات الّذي يعطيه الله، وهو غير منظور، لكنّه ملكوت روحيّ حقيقيّ جدًّا. الله لا يفرض نفسه على أحد؛ ومن ثمّ لا نصيب لأحد في ملكوت السّموات، إلاّ إذا أراد ذلك! المطلوب، إذًا، ملكوت السّموات الّذي له وصايا وقواعد وأصول: “وصيّة جديدة أعطيكم: أن تحبّوا بعضكم بعضًا” (يو13: 34). هناك وصايا على التّلاميذ أن ينشروها بين النّاس، وهي أساس الانتماء إلى الله، إلى هذه العلاقة الخاصّة المميّزة بالله، في إطار الملكوت السّماويّ. الموضوع الأساسيّ، إذًا، هو الملكوت: “اطلبوا أوّلاً ملكوت السّموات، وكلّ ما عدا ذلك يُزاد لكم” (لو12: 31)؛ لماذا، هنا، يريدهم أن يبرئوا المرضى؟! لأنّ الرّحمة هي من مفاعيل ملكوت السّموات؛ الّذي هو، في الوقت نفسه، ملكوت غير منظور؛ والنّاس غير معتادين كثيرًا على تعاطي الأمور الرّوحيّة غير المنظورة الّتي هي حقيقيّة جدًّا، وتفوق مدارك البشر. هذه الأمور، بالنّسبة إلى النّاس، تصير مقبولة، إذا تمكّن المرء من أن يعطيهم البرهان الحسّيّ على أنّ ملكوت السّموات حقيقيّ. إذا قلنا للفقير، مثلاً، إنّ الله محبّة، فهذا أمر صحيح. لكنّنا، إذا لم نقدّم إليه الطّعام، فإنّه لا يصدّق، ولا يؤمن بأنّ الله محبّة. محبّة الله وملكوت السّموات يحتاجان إلى ترجمة؛ وهي، هنا، إبراء المرضى. لهذا السّبب، الرّبّ يسوع قال، مرّة، لمفلوج: “مغفورة لك خطاياك” (مر2: 5). هذا أمر غير منظور، لكنّه حقيقيّ جدًّا. فصار النّاس يقولون: “مَن هو هذا الّذي يغفر الخطايا” (مر2: 7)؟! فقال لهم الرّبّ يسوع: “لكي تعلموا أنّ لابن الإنسان سلطانًا على الأرض أن يغفر الخطايا، قال للمفلوج: قم احمل سريرك، واذهب إلى بيتك” (مر2: 10- 11). إذًا، إبراء المرضى هو عمل رحمة، وفي آن معًا، علامة تدلّ على حقيقيّة ملكوت السّموات. لهذا السّبب، الرّسالة الّتي كلفّ الرّبّ يسوع تلاميذه بها تتركّز في ملكوت السّموات، ويُعبَّر عنها حسّيًّا بإبراء المرضى.
الفكرة الثّالثة تتمحور في قوله لهم: “لا تحملوا في الطّريق شيئًا: لا عصًا، ولا مزودًا، ولا خبزًا، ولا فضّة، ولا يكن للواحد منكم ثوبان…”. إذًا، أوّلاً، أعطاهم القوّة والسّلطان. وثانيًا، حدّد لهم المهمّة الموكلة إليهم. وثالثًا، حدّد لهم كيفيّة السّلوك والتّصرّف مع النّاس. فهم لا يستطيعون أن يتصرّفوا كما يحلو لهم؛ ولا نستطيع أن نقول، أبدًا، إنّ الغاية تبرّر الوسيلة، إذ إنّ الإنسان المكلّف بالكرازة بملكوت السّموات لا يستطيع أن يتصرّف بطريقة لا تليق، ولا يرضى عنها الله! سلوكه ينبغي أن يكون الإطار الّذي يتعاطى فيه الكرازة بملكوت السّموات. لذلك، الّذين يتعاطون التّعليم والكرازة، عمليًّا، يجب أن يكونوا قدّيسين، لا محترفين؛ لأنّ الاحتراف هو أمر دهريّ، بينما الكرازة هي أمر إلهيّ. حتّى يستطيع المرء أن يمارس هذه الأمور الّتي يقول عنها الرّبّ، يجب أن يكون، في قرارة نفسه، أمينًا للوصايا الإلهيّة. إذا لم يكن كذلك، فلا يمكنه أن يكون كارزًا بالملكوت. لاحظوا ما يقول: “لا تحملوا في الطّريق شيئًا: لا عصًا، ولا مزودًا، ولا خبزًا، ولا فضّة، ولا يكن للواحد منكم ثوبان…”. هذا معناه أنّ مَن أراد أن يكرز بملكوت السّموات، يجب أن يكون فقيرًا، إراديًّا، لا بمعنى أنّه لا يملك شيئًا، بل بمعنى أنّه لا يريد أن يعتمد على شيء آخر غير الرّبّ الّذي يرسله وهو يؤمّن له كلّ شيء. أوّلاً، التّلاميذ لا يحتاجون، أبدًا، إلى أن يحملوا معهم عصًا؛ لأنّ الإنسان، يحتاج، بشريًّا، إلى العصا من أجل أن يتّكئ عليها، ويدافع عن نفسه بها حين يكون هناك خطر عليه… لكنْ، هنا، هم ليسوا في حاجة إلى حماية من هذا النّوع، ولا إلى أن يطلبوا راحة ولا حماية، لأنّ الرّبّ هو يريحهم ويحميهم. ثانيًا، الإنسان يحمل معه، عادة، المزود من أجل البهائم الّتي يستعملها للسّفر. هنا، الرّبّ يطلب إليهم ألاّ يخافوا ماذا ستأكل بهائمهم، لأنّه، هنا أيضًا، يؤمّن لها حاجتها. الرّبّ يريدنا أن نعتمد عليه بالكامل، لأنّه يريدنا أن نكون خدّامًا له بالكامل. ثالثًا، يطلب إليهم ألاّ يهتمّوا بكمّية الخبز الّتي سيأخذونها معهم، لأنّ الرّبّ يؤمّن لهم كلّ شيء؛ وألاّ يأخذوا فضّة، لأنّهم لا يحتاجون إلى أن يكون معهم مال ليؤمّنوا على أنفسهم، إذا كانوا معلّمين للرّبّ يسوع، وكارزين بملكوت السّموات، إذ إنّ الله يهتمّ بكلّ تفصيل يخصّهم. رابعًا، “ولا يكن للواحد منكم ثوبان”. لماذا؟! عادة، في تلك المناطق، على الإنسان أن يسافر ليلاً ونهارًا، وهذا يعني أنّ هناك أوقاتًا فيها برد، يحتاج فيها المرء إلى ثوب سميك؛ وأوقاتًا أخرى فيها حرّ، يحتاج فيها المرء إلى ثوب رقيق. كلّ هذا يطلب الرّبّ من تلاميذه ألاّ يهتمّوا به، ولا يخافوه، لأنّه هو يعطيهم الدّفء حين يكونون في حاجة إليه، ويعطيهم لطافة الجوّ حين يكونون في حاجة إلى جوّ لطيف. إذًا، هو يجرّدهم من كلّ ما يمكن أن يكون مصدر خوف لهم في شأن السّفر.
“وأيّ بيت دخلتموه، فهناك امكثوا، ومن هناك اخرجوا”. ربّما يمكنهم أن يناموا، في الطّريق، تحت شجرة ما، والرّبّ يؤمّن لهم الحماية. لكن، بما أنّهم ذاهبون للكرازة بين النّاس، لا للسّفر فقط، فعليهم أن يدخلوا البيوت؛ وطبعًا، النّاس سيستقبلونهم. عادة، حين يكون المرء آتيًّا من مكان بعيد، لا يدعوه النّاس إلى فنجان قهوة، كاليوم، بل إلى المبيت عندهم. وعامّة، الأصول، عند القدامى، كانت استقبال الغريب، الآتي من مكان بعيد، على الأقلّ يومًا، وعلى الأكثر ثلاثة أيّام. أمّا إذا أراد أن يبقى أكثر من ثلاثة أيّام، فتكون نيّته غير نقيّة. إذًا، الرّبّ يطلب إليهم أن يدخلوا البيوت، ويقضوا حاجاتهم فيها ممّا يؤمّنه لهم أصحابها، من دون أن يطلبوا هم شيئًا، لأنّ هؤلاء النّاس، الّذين يستضيفونهم هم، في الحقيقة، رسل من عنده. “ومَن لا يقبلكم، ففي خروجكم من تلك المدينة، انفضوا أيضًا غبار أرجلكم”. إذًا، مهمّة التّلاميذ هي الكرازة بملكوت الله وإبراء المرضى؛ ومن ثمّ يطلب إليهم الرّبّ أن يدخلوا بيوت مَن يقبلونهم، ويباركوهم بوجودهم عندهم، ويحدّثوهم بملكوت السّموات. أمّا مَن لا يقبلهم، ومَن يشكّك فيهم، ولا يعجبه كلامهم، فليس المطلوب منهم، أبدًا، أن يقنعوه. الكرازة وَقْفٌ على رغبة النّاس، إذا كانوا يريدون أن يسمعوا أو لا. “ومَن لا يقبلكم، ففي خروجكم من تلك المدينة، انفضوا أيضًا غبار أرجلكم شهادة عليه”. أي إنّ الّذي لا يقبلهم لا يقبله، والّذي لا يقبله يأخذ دينونة، لأنّ الرّبّ الإله يكون قد أرسل إليه فرصة للخلاص والشّفاء، لكنّه لم ينتفع منها.
إذًا، هذه الأفكار الثّلاثة، الّتي تكلّمنا عليها، مرتبطة بعضها ببعضها الآخر. لا نستطيع أن نأخذ فكرة واحدة، إلاّ في سياق الأخرى. أي إنّ القوّة والسّلطان الإلهيّين يُمارَسان في إطار الكرازة بملكوت الله وإبراء المرضى؛ والكرازةُ بملكوت الله وإبراءُ المرضى يكونان في إطار هذا الاتّكال الكامل، بالسّلوك والتّصرّف والسّفر، على الرّبّ الإله، من دون أن يدخل الإنسان في صراع مع أحد من البشر. “فخرجوا وطافوا في القرى، يبشّرون ويشفون في كلّ موضع”. هذا، في الحقيقة، هو ما أعطاه الرّبّ يسوع للتّلاميذ الاثني عشر. والرّبّ، عمليًّا، بشكل أو بآخر، ضِمْنَ الواقع الّذي نعيش فيه، يريدنا أن نتابع عمل التّلاميذ الاثني عشر، أي أن نكرز، دائمًا، بالملكوت، بقدر ما نعرف، وأن نكون متّكلين عليه بالكامل، ونصلّي من أجل الآخرين. وإذا ما فعلنا ذلك، وسلكنا في هذا المسير؛ فإنّنا نصير شركاء للرّسل في ما فعلوا. وبهذا، نكون مساهمين في عمل الله، وأيضًا بالكرازة بملكوت الله.
آمين.
عظة في السّبت 7 تشرين الثّاني 2009، حول لوقا9: 1- 6.