الشيخ والقطار
إعداد راهبات دير القديس يعقوب الفارسي المقطع
أُطلقت صفّارة القطار مؤذنة بموعد الرحيل، فصعد كلّ الركّاب إلى القطار فيما عدا شيخ كبير السنّ وصل متأخّرًا. ولكن من حسن حظّه أنّ القطار لم يتحرّك بعد. فلمّا صعد ذلك الشيخ الوقور إلى القطار، وجد كلّ الركّاب قد أخذوا الأمكنة كلّها، ولم يعد هناك مكان خالٍ للجلوس. توجّه الشيخ إلى العربة الأولى، فوجد فيها شبابًا يلعبون مع بعضهم البعض الورق. فتهلّلوا لرؤية ذلك العجوز ووجهه الذي يشعّ هيبة ووقارًا، وقالوا له: “أهلاً أيّها الشيخ، لقد سعدنا برؤيتك”. فسألهم: “هل تسمحون لي بالجلوس؟”. فأجابوه: “نحن شباب نمرح مع بعضنا البعض، ونخشى ألاّ تجد راحتك معنا، كما أنّ وجودك معنا قد يقيّد حرّيّتنا. اذهب إلى العربة التالية، لعلّك تجد فيها مكانًا خاليًا فالكلّ يودّ استقابلك”.
فتوجّه الشيخ إلى العربة الثانية ليجد فيها طلاّب دراسة يبدو أنّهم في آخر مرحلتهم الدراسيّة، وهم في نقاش حارّ عن النظريّات الفيزيائيّة والرياضيّات، فسلّم عليهم. فرحوا برؤيته، ورحّبوا به. فسألهم: “هل تسمحون لي بالجولس؟”. فأجابوه: “لنا كلّ الشرف بذلك، ولكنّنا مشغولون بالحديث عن الامتحانات والدراسة، فأحيانًا يغلبنا الحماس وترتفع أصواتنا، ونخشى أن نزعجك فلا ترتاح معنا. ولكن توجّه إلى العربة التي تلينا، علّك تجد مكانًا تجلس فيه. فكلّ من يرى وجهك الوضّاء يتوق لنيل شرف الجلوس معك”.
فمضى الشيخ ليجد في العربة التالية شابًّا وزوجته في شهر العسل، يتبادلان الكلمات العاطفيّة، والضحكات والمشاعر المتدفّقة بالحبّ والحنان. فألقى عليهما الشيخ سلامًا دافئًا، فتهلّلا لرؤيته، فسألهما إن كانا يسمحان له بالجلوس معهما. فأجاباه قائلين: “إنّنا نتوق لنيل شرف مجالستك، ولكن كما ترى نحن زوجان في شهر العسل، وجوّنا جوّ عاطفيّ، ونخشى ألاّ تشعر بالراحة معنا، فحبّذا لو قصدت عربة أخرى عسى تجد مكانًا خاليًا تجلس فيه بقيّة رحلتك، فكلّ من في القطار يتمنّى أن تشاركهم الجلوس”.
مرّة أخرى توجّه الشيخ إلى العربة التي بعدها، فوجد مجموعة من الشباب يتبادلون وجهات النظر حول خططهم المستقبليّة لتوسيع تجارتهم، فألقى عليهم سلامًا وسألهم إن كانوا يسمحون له بالجلوس. فقالوا له: “كم نودّ ذلك، ولكن كما ترى نحن في بداية تجارتنا، وفكرنا مشغول بتحقيق ما نحلم به من نجاح، وحديثنا كلّه عن التجارة والمال، ونخشى أن نزعجك بهذا، فلا تشعر معنا بالراحة. اذهب إلى العربة التي تلينا، فكلّ الركّاب يتمنّون مجالستك”.
وهكذا تنقّل الشيخ، حتّى وصل إلى آخر عربة في القطار، وهناك وجد عائلة مكوّنة من أب وأم والأولاد، ولم يكن في العربة أيّ مكان شاغر للجلوس، فألقى عليهم سلامًا. وهنا استقبله الجميع بالسلام الحارّ.
وقبل أن يسألهم السماح له بالجلوس، طلبوا منه أن يتكرّم عليهم ويشاركهم جلستهم. وهرع الأب إلى إصدار أوامره، فأمر ابنه الأصغر بالجلوس في حضن أخيه الأكبر، وأزاح الجميع الحقائب، وأفسحوا مكانًا للشيخ الوقور ليجلس معهم. وأخيرًا جلس الشيخ على الكرسيّ بعد ما عاناه من كثرة التنقّل في القطار.
وبعد قليل توقّف القطار في إحدى المحطّات، وصعد إليه بائع الأطعمة، فناداه الشيخ، وطلب منه أن يعطي أفراد العائلة التي سمحت له بالجلوس معهم كلّ ما يشتهون. وأكل معهم وسط نظرات ركّاب القطار الذين كانوا يتحسّرون على عدم ترحيبهم بجلوس ذلك الشيخ معهم.
ثمّ صعد بائع العصير إلى القطار، فناداه الشيخ وطلب منه أن يعطي أفراد العائلة ما يريدون من العصير والمشروبات على حسابه وشرب معهم. وبدأت نظرات ركّاب القطار تحيط بهم أكثر فأكثر، وبدأوا يندمون على تفريطهم في الترحيب به! ثمّ صعد بائع الصحف والمجلاّت إلى القطار، فناداه الشيخ، وطلب منه أن يعطي مجلّة لكلّ فرد من أفراد العائلة لكي يستمتعوا برحلتهم. وما زالت نظرات الحسرة على وجوه الركّاب… ولكن لم تكن هذه هي حسرتهم العظمى. فقد توقّف القطار في المدينة المنشودة، واندهش كلّ الركّاب للاستقبال الحافل الذي حظي به هذا الشيخ الوقور… فقد طُلب من جميع الركّاب بأن يلبثوا في أماكنهم حتّى ينزل هذا الضيف الموقّر من القطار… وعندما طُلب منه النزول رفض أن ينزل إلاّ بصحبة العائلة التي استضافته!! وهنا تحسّر الركّاب على أنفسهم تحسّرًا عظيمًا!!
تُرى من كان هذا الشيخ؟!! لقد كان محافظ البلد الجديد!!
أحبّاءنا، إنّ هذه القصّة تخصّ كلّ واحد منّا. فكلّنا قد مرّ بموقف من مواقفها. الشيخ الوقور يشير إلى الربّ يسوع المسيح مخلّص البشريّة، والجميع مشغولون عنه: بالدراسة والواجبات والامتحانات والعمل والزواج…
العمر يمضي ونحن نردّد: “غدًا، سأهتمّ بحياتي الروحيّة وخلاصي، أو بعد أن أفرغ من هذا العمل الذي باشرت به، أو بعد أن أنتهي من الصفقة التي بدأتها ولا أستطيع التراجع عنها، أو سأهتمّ بخلاصي بعد أن أكبر وأتفرّغ لأمور الله، أو بعد أن أحصل على وظيفة… أو… أو…”.
بعد أن… بعد أن… بعد أن…
لكن… احذر أن يضيع العمر ويصل القطار إلى المحطّة الأبديّة، من دون أن تقابل السيّد الربّ، وتفرح بصحبته…