أحكام الله
إعداد راهبات دير مار يعقوب الفارسي المقطّع، دده – الكورة
ابتهل شيخ قدّيس إلى الله لكي يكشف له: لماذا معظم الصدّيقين والأتقياء فقراء يشقون ويُظلمون، فيما العديد من الخطأة والظالمين أغنياء يتنعّمون؟ وكيف تُترجم أحكام الله هذه؟ وإذ أراد الله أن يكشف له سؤال قلبه أوحى إليه أن “اذهب إلى العالم وسوف ترى تدبير الله”.
قام الشيخ دونما إبطاء وانطلق للحال باتّجاه العالم، فوجد نفسه يسلك طريقاً واسعاً يعبره الناس بكثرة، وكان هناك مرج فسيح وصنبور ماء عذب. اختبأ الشيخ في جوف إحدى أشجار المرج مترقّباً منتظراً.
وبعد هنيهة مرّ بالمكان رجل غنيّ، فترجّل عن حصانه وجلس ليأكل. ثمّ أخرج كيس نقود يحوي مائة ليرة ذهبيّة وأخذ يعدّها. ولمّا انتهى من عدّها ظنّ نفسه أنّه أعادها إلى مكانها بين طيّات ثيابه بيد أنّها سقطت على الأرض دون أن يلاحظها لعجلته، ثمّ امتطى جواده من جديد وانطلق في طريقه مخلّفاً وراءه ذهبيّاته الثمينة.
لم يمضِ زمن قليل حتّى مرّ بالموضع نفسه عابر سبيل آخر، هذا وجد النقود على الأرض، فالتقطها وحثّ خطاه مبتعداً. وبعد ذلك أتى ثالث وكان فقيراً متعَباً ينوء تحت حمله الثقيل، يسير على قدميه متمّهلاً، فجلس هو أيضاً هناك ليرتاح. وفيما هو يخرج خبزة يابسة ليأكلها، جاء الغنيّ ووقع عليه قائلاً بغضب: “أسرع وأعطني النقود التي وجدتها”. فأجاب الفقير بيمين معظّمة بأنّه لم يجد شيئاً. فضربه الغنيّ بسير حصانه على رأسه ضربة أردته صريعاً، ثمّ شرع يفتّش ثياب الفقير وأغراضه، ولمّا لم يعثر على شيء ذهب والندم يتأكّله.
أمّا الأب الشيخ الذي كان يشاهد كلّ شيء، فأخذ ينتحب من جرّاء القتل الجائر، متوسّلاً إلى الربّ: “يا ترى ما هي مشيئتك، وكيف يحتمل صلاحك هذا الأمر؟!” للحين حضره ملاك خاطبه قائلاً: “لا تحزن أيّها الشيخ، لأنّ ما يحصل إنّما بتدبير الله من أجل التأديب والخلاص. اعلم أنّ الذي أضاع المال هو جارٌ لذاك الذي وجدها. هذا الأخير هو صاحب بستان يساوي مائة ليرة ذهبيّة، وقد أخذه منه الغنيّ الجشع بخمسين فقط وبطريقة غير قانونيّة. وبما أنّ الجار الفقير توسّل إلى الربّ أن يأخذ العدل مجراه، شاء الله أن ينال مطلبه مضاعفاً إذ حصل على مائة بدل الخمسين. أمّا ذاك الذي قُتل ظلماً، فكان ارتكب جريمة قتل هو نفسه في الماضي، فإذ أراد الله أن يخلّصه ويطهّره من خطيئة القتل دبّر أن يُقتَل هو ظلماً لتخلص نفسه. أمّا الجشع الطمّاع الذي سبّب القتل، فقد كان مزمعاً أن ينتهي أمره في الجحيم بسبب محبّته للفضّة. لذا سمح الله أن يقع في خطيئة القتل لكي تتوجّع روحه فيطلب التوبة والرحمة. وها هو الآن قد ترك العالم، وذهب يطرق باب أحد الأديار ليترهّب ويبكي خطاياه. أمّا أنت، فعد الآن إلى قلاّيتك، ولا تكثر من فحص أحكام الله لأنّها بعيدة عن الكشف والتنقيب.
إنّنا نحن معاشر البشر نحاول أن نبحث عن أمور تفوق قدراتنا. فحيث يضع الله نقطة، مثلاً، لا نستطيع نحن أن نستبدلها بعلامة استفهام. وكخاتمة، فلنسمع القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم يدعونا قائلاً: “الأحزان تولّد الصبر، ومحبّة الله تعرف مقدار تحمّلنا للأحزان. العناية الإلهيّة لا تفسَّر واهتمامه بنا لا يدرَك. إنّ أحكام الله عميقة جدّاً”.