كونوا كاملين…
الأرشمندريت توما بيطار
باسم الآب والابن والرّوح القدس، الإله الواحد، آمين
يا إخوة، الشّابّ الّذي أتى إلى الرّبّ يسوع سأل سؤالاً واضحًا وبسيطًا: “ماذا أعمل من الصّلاح لتكون لي الحياة الأبديّة”؟! إذا لم يكن عند الإنسان هاجس الحياة الأبديّة، فمن المؤكّد أنّه لا يستطيع أن يسلك في الوصايا الإلهيّة. إذا كان مكتفيًا بما هو فيه على الأرض، فمن المؤكّد أنّ الإنجيل لن يعني له الكثير. ميزة المؤمنين بالرّبّ يسوع المسيح أنّ اهتمامهم الأوّل والأخير هو بملكوت السّموات. لهذا السّبب، قال الرّبّ يسوع: “اطلبوا أوّلاً ملكوت السّموات وبرّه، وكلّ ما عدا ذلك يُزاد لكم”. إذًا، كلّ ما يمكن اعتباره اهتمامات من هذا الدّهر، هذا لا يجوز أن يحتلّ الموقع الأوّل في حياتنا. الموقع الأوّل في حياتنا هو لملكوت السّموات، أي للحياة الأبديّة. وعندما نتكلّم على ملكوت السّموات والحياة الأبديّة، عندما نتكلّم على الإسخاتولوجيا، أي ما ينتمي إلى الزّمن الأخير، فهذا لا يعني أن نهتمّ بأمور سوف تأتي بعد هذا الزّمان الّذي نحن فيه. هذا معناه أن نهتمّ بما هو لله، وبما هو لملكوت السّموات، وبما هو للحياة الأبديّة، منذ الآن! نحن لا نختبر ملكوت السّموات في وقت من الأوقات، في المستقبل. كذلك الأمر، نحن لا نختبر الحياة الأبديّة بعد أن نموت. نحن نختبر عطايا الله منذ الآن. إذًا، عندما نتكلّم على ملكوت السّموات وعلى الحياة الأبديّة، نتكلّم على نمط آخر من الحياة، على نوعيّة أخرى من الحياة نحيا فيها منذ الآن، ونمتدّ بها إلى الأبد.
ما يقابل الحياة الأبديّة هو الحياة الدّهريّة، أي أن يحيا الإنسان من أجل مقاصد تتوقّف عند حدود الحياة على الأرض. هذه هي الحياة الدّهريّة! عندما يهتمّ الإنسان بمصالحه، بعلمه على الأرض، بممتلكاته، بمقتنياته… عندما يهتمّ بالأهداف الآنيّة للحياة، أي ماذا يأكل، وماذا يشرب، وماذا يلبس… عندما يبقى في حدود هذه المقاصد الدّهريّة؛ إذ ذاك، يكون إنسانًا دهريًّا، يحلم كثيرًا، ولكن، لا يمكنه أن يذهب إلى أبعد من الحلم؛ لأنّ الإنسان الّذي يكتفي، من الحياة، بالمقاصد الدّهريّة الأرضيّة المنظورة، يكون غبيًّا، بحسب القاموس الإلهيّ. هذا بالضّبط ما قاله الرّبّ للإنسان الّذي أخصبت كورته وكان يفكّر كيف يمكنه أن يجمع خيراته الأرضيّة لسنين كثيرة، وخطر في باله أن يهدم مخازنه ويبني أعظم منها؛ ففي تلك اللّيلة عينها جاءه صوت يقول له: “يا غبيّ، اللّيلة تُطلَب نفسك منك، فهذه الّتي أعددتها لمَن تكون”؟! إذًا، نحن، حتّى لا نكون أغبياء، حتّى نكون حكماء في المسيح، علينا أن نسعى، في كلّ لحظة نمرّ فيها، للحياة الأبديّة. علينا أن نهتمّ، أوّلاً وأخيرًا، بملكوت السّموات، في كلّ شيء. وهذا معناه أنّ علينا أن نهتمّ بأن نكون مع المسيح، في كلّ حال، وفي كلّ شيء، وفي كلّ مكان. هذه هي الحياة الأبديّة المعطاة لنا منذ الآن، والّتي تنفتح على الأبديّة منذ الآن. إذا كان ابن الله قد تجسّد، وصار إنسانًا، وحلّ بيننا؛ فهذا معناه أنّ ما يعطينا هو إيّاه نحيا فيه منذ الآن، ونمتدّ به إلى الأبد. هذا هو هاجس الإنسان المؤمن بالرّبّ يسوع المسيح. مَن ليس عنده هذا الهاجس، فهو إنسان يعيش على الهامش، وهو إنسان غبيّ، بحسب المقاييس الإلهيّة. وإذا كان عند الإنسان هذا الهاجس، عندها يعرف في أيّ طريق عليه أن يسلك: “ماذا أعمل من الصّلاح لتكون لي الحياة الأبديّة”؟! ما من سؤال آخر مشروع يمكن الإنسان المؤمن أن يطرحه. هذا هو السّؤال فقط، ما من سؤال آخر! “ماذا أعمل من الصّلاح لتكون لي الحياة الأبديّة”؟! ولأنّ هذا الشّابّ سأل هذا السّؤال، الّذي كان قطب اهتمامه، أجابه الرّبّ يسوع بطريقة تدريجيّة، قال له: “إن كنت تريد أن تدخل الحياة، فاحفظ الوصايا”. أي إنّ عمل الصّلاح يساوي إرادة الدّخول في الحياة. ماذا عليه أن يعمل؟! – عليه أن يحفظ الوصايا. حفظ الوصايا هو الّذي من المفترض أن يكون شغلنا الشّاغل، كلّ يوم. حفظ الوصايا يعني السّلوك فيها: أن نعرف ما هي الوصايا، وأن نسلك فيها، وأن نبتعد عن كلّ ما يخالفها. وإذا شردنا، نعترف بخطايانا، ونتوب، ونعود لحفظ الوصايا والسّلوك فيها من جديد. هذا هو عملنا. فسأل الشّابّ: “ما هي الوصايا”؟ – الوصيّة، من حيث المبدأ، هي كلّ ما يطلبه الرّبّ الإله منّا. هنا، الرّبّ يردّد له بعض الوصايا. قال له: “لا تقتل، لا تزنِ، لا تسرق، لا تشهد بالزّور، أكرم أباك وأمّك، أحبب قريبك كنفسك”. الرّبّ اختار هذه الوصايا؛ لأنّ مَن يسلك فيها لا يمكنه، في الحقيقة، إلاّ أن يصل إلى وصيّة الوصايا، أي الوصيّة العظمى والكبرى.
أوّلاً، على الإنسان ألاّ يقتل. والقتل لا يعني، أبدًا، أن يحرم الإنسانُ الآخرين حياتهم فقط. القتل معناه، بالدّرجة الأولى، أن يلغي الإنسانُ الآخرين. الإنسان الّذي يكون بقربكم، مثلاً، إذا ألغيتموه من حياتكم، تكونون قد قتلتموه في نفوسكم. القتل معناه إلغاء الآخرين. إذًا، “لا تقتل”! أي لا تلغِ أحدًا! كلّ إنسان عليك أن تقيم له وزنًا كاملاً، لأنّه على صورة الله ومثاله.
ثانيًا، “لا تزنِ”! هذا معناه “ألاّ تخرج من نطاق الحبّ في علاقتك بزوجتك”. تعرفون أنّ الزّنى، في تلك الأيّام، كان يعني أن يخون الرّجل زوجته، أو الزّوجة زوجها. عندما يقول الرّبّ: “لا تزنِ”، فهذا يعني أنّ على الإنسان أن يكون أمينًا في زواجه بالكامل، أي إنّ عليه أن يحبّ زوجته، وعلى الزّوجة أن تحبّ زوجها. الزّنى هو المحبّة الزّوجيّة. حيث يكون الزّنى، لا تكون المحبّة الزّوجيّة؛ وحيث تكون المحبّة الزّوجيّة، لا يعود هناك زنى! لا تظنّوا، أبدًا، أنّ الخيانة الزّوجيّة تعني أن يعاشر الإنسانُ غيرَ شريكه أو شريكته، لا، ليس هذا فقط! الإنسان الّذي يشتهي، في قلبه، غير زوجته يكون زانيًا أيضًا، لأنّ الوصيّة تقول: “مَن تطلّع إلى امرأة ليشتهيها، فقد زنى بها في قلبه”. إذًا، الزّنى يعني، في العمق، أن يستسلم الإنسان لأفكاره، ولشهوات نفسه. وهذه الشّهوات يمكن أن تبقى في الدّاخل، ولا تخرج، بالضّرورة، إلى الخارج. القدّيس باسيليوس الكبير يقول: “أنا لست أعرف امرأة، ومع ذلك، أنا لست عفيفًا”. هذا يعني أنّه ينظر إلى الدّاخل، ينظر إلى أفكاره، ينظر إلى شهوات نفسه! إذا نظر الإنسان نظرة غير سليمة فيها شهوة، فهذا من الزّنى؛ لأنّ المرء إذا قبل أن يتطلّع إلى امرأة بشهوة زانية، فهذا معناه أنّ الزّنى صار موجودًا فيه. بعد ذلك، يكون الموضوع موضوع ظروف. إذا تسنّت له الظّروف، وكان قد قبل الزّنى في قلبه، فإنّه يقبله بالجسد بسهولة كبيرة. الموضوع، إذًا، هو في أن ينقّي الإنسان قلبه من روح الزّنى أوّلاً.
الوصيّة الثّالثة الّتي اختار الرّبّ أن يتكلّم عليها هي: “لا تسرق”. ما معنى هذا؟! – يمكن أن نقول إنّ معنى هذا هو “لا تذهب وتسرق مال النّاس، لا تسرق شيئًا ليس لك”. المعنى المُراد، هنا، أعمق من ذلك. وصيّة “لا تسرق” معناها أنّ عليك أن تكون أمينًا في ما للغير، بصورة كاملة! ما معنى ذلك؟! مثلاً، إذا كان هناك موظّف يعمل في شركة، وإذا كان يتعامل مع عمله بطريقة لا تجعل من هذا العمل عملَه هو، كأنّه له هو، أو إذا كان إنسانًا يضيّع الوقت في عمله، أو إذا كان إنسانًا يسمح لنفسه بأن يستعمل الهاتف على حساب عمله، أو إذا كان إنسانًا يسمح لنفسه بأن يقرأ الجريدة أثناء عمله، أو إذا كان إنسانًا مستعدًّا لأن يفتح أحاديث سخيفة وغير لازمة مع الآخرين أثناء عمله… فهذا الموظّف يكون سارقًا. بكلام آخر، مَن ليس أمينًا بصورة كاملة في ما هو للغير، فإنّه يكون سارقًا. على الإنسان، دائمًا، أن يتعامل مع ما هو للغير بالأمانة الّتي يتعامل فيها مع ما هو له. عليه أن يكون كاملاً في أمانته حيال ما هو للآخرين. إذ ذاك، يخرج من إطار السّرقة، ولا يكون سارقًا. الرّبّ لا يتكلّم، هنا، على أمور بحسب الظّاهر،لا! الرّبّ يلامس الأمور في جذورها، في أعماق قلب الإنسان، سواء بالنّسبة إلى القتل، أم بالنّسبة إلى الزّنى، أم بالنّسبة إلى السّرقة.
نأتي، بعد ذلك، إلى الوصيّة الرّابعة الّتي أوردها الرّبّ يسوع: “لا تشهد بالزّور”. ربّما قسمٌ كبير منّا لم يدخل المحكمة في حياته، وربّما لن يدخلها. ومع ذلك، يُطالَب بهذه الوصيّة: “لا تشهد بالزّور”. أن يشهد الإنسان بالزّور معناه ألاّ يشهد بالحقّ. وما هو الحقّ؟! – الحقّ هو أن يحبّ الإنسان الآخرين محبّة كاملة. هذا هو الحقّ عند الله! الإنسان الّذي يحبّ الآخرين محبّة كاملة، هذا يكون في الحقّ؛ وهذا، تاليًا، عندما يتكلّم على الآخرين، يشهد بالحقّ، ولا يشهد بالزّور. مثلاً، إذا كنتُ أتكلّم على إنسان، وربّما أتكلّم عليه كلامًا حسنًا، لكنّني أمرّر عنه بعض الأشياء السّيّئة، فإنّ الرّبّ الإله ينظر إلى دوافعي الدّاخليّة. أحيانًا كثيرة، أتكلّم على الآخرين بروح الغيرة والحسد! دوافعي لا تكون نقيّة؛ وبالتّالي، شهادتي عنهم تكون شهادة في غير الحقّ؛ وتاليًا، أكون شاهد زور على الآخرين. كلّ إنسان لا أحبّه محبّة كاملة، هذا إذا تكلّمت عليه، فكلامي يكون بمثابة شهادة زور في شأنه! كلّ ما يجرح محبّة الآخرين، هذا لا يكون من الحقّ؛ وبالتّالي، يكون زورًا. لذلك، “لا تشهد بالزّور”! هذا هو جذر الشّهادة بالزّور.
الوصيّة الخامسة الّتي أوردها الرّبّ هي: “أكرم أباك وأمّك”. هذه الوصيّة معناها، لا فقط أن تعطيهم مئة دولار في الشّهر، ولا فقط أن تكرمهم عندما تراهم. أن يكرم الإنسان أباه وأمّه معناه أن يطيعهما في المسيح! اليوم، المشكلة الكبيرة في مجتمعنا أنّنا لا نكرم آباءنا وأمّهاتنا! لم نعد في مستوى الطّاعة، صار كلّ واحد يعمل ما يريد! إذا فعل حسنًا، حيال أمّه أو أبيه، يعتبر أنّه قام بعمل عظيم، عمل إحسان! أن يكرم الإنسان أباه وأمّه معناه أن يطيعهما في المسيح، أي أن يحبّهما؛ لأنّه أتى بوساطتهما، وهما اللّذان، من خلالهما، استقرّ يسوع في حياته. ثمّ ليس المقصود فقط الآباء والأمّهات في الجسد، بل أيضًا الآباء والأمّهات في الرّوح. كلّ واحد منّا عنده أب وأمّ يلدانه في الجسد. لكن، عندنا أناس كثيرون يلدوننا في الرّوح. هؤلاء علينا أن نكرمهم إكرامًا جزيلاً. بصورة خاصّة، هذا يشير إلى إكرام آبائنا في كنيسة المسيح. آباء الكنيسة، الّذين رقدوا والّذين لا يزالون على قيد الحياة، نكرمهم إكرامًا جزيلاً! لذلك، لا يأنفنّ أحد إذا أتى إلى الكاهن، وضرب له مطّانيّة، وقال له: “بارك، أيّها الأب”! لأنّ بركة الله تمرّ، بفعل هذا العمل البسيط، من خلال الأب الرّوحيّ أو الأمّ الرّوحيّة إلى هذا الابن الرّوحيّ أو الابنة الرّوحيّة. إذا لم نتعلّم أن نكسر أنفسنا أمام كلّ ما له علاقة بالّذين يلدوننا للحياة، وبالّذين يمدّوننا إلى ملكوت السّموات، فإنّنا لا نكون مُكرمين لأحد؛ وتاليًا، لا يمكننا أن نكون مكرمين لله! مَن ليس مستعدًّا لأن يُكرم النّاس، فلا يمكنه أن يُكرم الله! عندما يكون الإنسان غارقًا في كرامته الشّخصيّة، وهذه يضعها فوق كلّ اعتبار، فهذا الإنسان لا يكون مُكرمًا لأحد؛ وتاليًا، لا يكون مُكرِمًا لله. علينا أن نتعلّم أن نتّضع، علينا أن نتعلّم أن نُطيع، علينا أن نتعلّم أن ننكسر أمام الآخرين، صغارًا أو كبارًا! الإكرام، في الحقيقة، يتناول الجميع، لأنّ كلّ إنسان، في هذا الدّهر، يبنيني بكلمة، فقد صار لي بمثابة أب. وكلّ واحد منّا مُعطى أن يكون ابنًا للآخرين، وأن يكون أبًا لهم في المسيح، بمعنى أنّه يتعلّم من الآخرين، ويُطيع الله في الآخرين، وفي آن معًا، يتبنّى الآخرين، ويعتبرهم خاصّةً له في المسيح، ويعتبر نفسه مسؤولاً عنهم. نحن، كبشر، أُعطينا أن يولد بعضنا من بعضنا الآخر في المسيح، وأن يكون كلّ واحد منّا أبًا وأمًّا للآخرين. إذًا، الموضوع يتخطّى موضوع الأبوّة الجسديّة والأمومة الجسديّة.
هذه كلّها توصل إلى الوصيّة السّادسة الّتي أوردها الرّبّ يسوع، وهي، بمعنى، المصبّ الّذي تصبّ فيه كلّ الوصايا الأخرى، في علاقتنا بعضنا ببعضنا الآخر. لذلك، قال الرّبّ: “أحبب قريبك كنفسك”. إذا عرف الإنسان ألاّ يقتل، وألاّ يزني، وألاّ يسرق، وألاّ يشهد بالزّور، بالمعنى الّذي عبّرت عنه، وإذا أكرم أباه وأمّه؛ فإنّه، إذ ذاك، يتمكّن من أن يحبّ قريبه كنفسه. هذا على مستوى البشر. هكذا تبدأ الأمور. لا نستطيع أن نقوم، أبدًا، باتّصال مباشر مع الرّبّ إلاّ عبر الآخرين. لذلك، كانت الوصيّة أوّلاً: “أحبّ قريبك كنفسك”. متى تعلّمنا أن نحبّ قريبنا كأنفسنا؛ فإذ ذاك، يمكننا أن نحلّق في الأجواء العليا، وأن نحبّ الله من كلّ القلب، ومن كلّ النّفس، ومن كلّ القدرة. لذلك، السّؤال الثّاني الّذي سأله هذا الشّابّ هو: “قد حفظت كلّ هذا منذ صباي، فماذا ينقصني بعد”؟! هنا، متى تعلّم الواحد أن يحبّ قريبه كنفسه، فإنّه يصل “إلى عتبة الكمال: “إذا أردت أن تكون كاملاً، فاذهب وبع كلّ شيء لك، وأعطه للمساكين؛ فيكون لك كنز في السّماء، وتعال اتبعني”! شيء مخيف! أوّلاً، “إذا أردت أن تكون كاملاً”، هذا يعني أنّ الإنسان يستطيع أن يكون كاملاً! هذا، بالضّبط، ما قاله الرّبّ يسوع: “كونوا كاملين كما أنّ أباكم السّماويّ هو كامل”! ثانيًا، “اذهب وبع كلّ شيء لك”، أي يجب ألا يكون عندك، إطلاقًا، أيّ تعلّق بشيء في هذا العالم. “وأعطه للمساكين”، بمعنى أن تفتح أحشاءك للفقراء والمساكين وفق القول المزموريّ: “بدّد وأعطى المساكين، فبرّه يدوم إلى الأبد”. عندما يفتح الإنسان أحشاءه لمساكين الله من دون تحفّظ، يكون قد أحبّ قريبه كنفسه. ومتى أحبّ قريبه كنفسه بهذا المعنى؛ إذ ذاك، يكون له كنز في السّماء، إذ ذاك، يصير تلميذًا كاملاً للرّبّ يسوع: “تعال اتبعني”. هذا هو التّعبير الأبسط عن الإيمان بالرّبّ يسوع. الإيمان بالرّبّ يسوع معناه أن يكون الإنسان زاهدًا، بصورة، كاملة في كلّ ما له علاقة بهذا الكون. لا يريد شيئًا: “وجهك، يا ربّ، أنا ألتمس، [لا أريد شيئًا إطلاقًا]”. عندما لا يعود قلب الإنسان متعلّقًا بشيء، عندما يتحرّر الإنسان من التّعلّق بأشياء هذا الدّهر والعبوديّة لها، عندما يفتح الإنسان نفسه بالكامل للآخرين، لمساكين الله – وكلّنا مساكين لله – إذ ذاك، يكون قد بلغ الإيمان، أي يكون قد سلّم نفسه لله كاملة كما سلّم الرّبّ يسوع المسيح نفسه كاملة بين يدي أبيه، عندما كان مُسَمَّرًا على الصّليب، وكان على وشك أن يلفظ نَفَسه الأخير. عندها، قال: “في يديك أستودع روحي”!
إذًا، الإنسان يصير مؤمنًا في المسيرة باتّجاه الملكوت، وينمو في الإيمان، أي يؤمّن للرّبّ، ويجعل نفسه بين يديه. نحن نقول عن أنفسنا إنّنا مؤمنون، ولكن، في الحقيقة معظمنا لا يؤمّن للرّبّ، لا يؤمّن إلاّ لنفسه. المطلوب أن يخرج الإنسان من تعلّقه بذاته. المطلوب أن يخرج الإنسان عريانًا إلى ملاقاة وجه ربّه، ليقول له عن وعيٍ وعن إرادة: “في يديك أستودع روحي”. فقط إذ ذاك، يبلغ الإنسان الكمال. وأن يبلغ الإنسان الكمال معناه أن يصير إلهًا من الإله.
فمَن له أذنان للسّمع، فليسمع.
عظة حول متّى19: 16- 24 في الأحد 30 آب 2009