هل القداسة عملية في أيامنا؟
الراهب موسى الأثوسي
نقلها إلى العربية الأب أنطوان ملكي
كلّ القديسين “جاهدوا الجهاد الحسن وحفظوا الإيمان”.
القديسون هم مجاهدون غالبون معترفون باسلون. لقد زارهم الروح القدس وحلّت عليهم النعمة. لم يكونوا صالحين ونبلاء ومشرقين وأخلاقيين وحَسْب، بل كانوا أيقونات للمسيح. إنهم الذين اتّحدوا بشكل لا فكاك فيه بالمسيح وهم يكشفون المسيح للعالم ويقودون الناس إليه. يثبت لنا القديسون أنّ الإنجيل قابل للتنفيذ وعملي عبر العصور، وأننا إذا رغبنا يمكننا أن نسعى إلى الاتّحاد بالمسيح. بقبولهم المسيح في حياتهم بدون تحفّظ، صاروا على شبهه ومتوشحين به ومعاينين له. بهذه الطريقة، يشهدون له ويعترفون به ويعظون عنه ويقدّمونه في كل مكان وزمان. لا يستطيعون أن يحيوا من دون المسيح، فهو لهم كل شيء.
غالباً ما يُتاح لنا أن نعترف بالمسيح، فأحياناً نقوم بذلك بسرعة وسرور، وأحياناً بصعوبة وأحياناً بخوف وأحياناً بخجل. المؤمن الحقيقي يعترف بالمسيح دائماً بلا خوف لأنّه يحيا في التوبة والاتضاع. يشعر بالخوف لكنه يؤمن إيماناً كاملاً بالمسيح ويتقوّى به بغنى. يعترف بالمسيح الذي فيه. أحياناً من الصعب الاعتراف بالمسيح حتّى للذين هم مقربين منّا وأعزاء لنا. من ثمّ، بحسب الإنجيل، يصيرون “أعداء الرجل أهل بيته”. يحدث أنّ أناسنا لا يفهموننا، لكن أليس حرياً بنا أن نحاول بتروٍّ أن نتكلّم عن المسيح؟ أو أن نذهب أحياناً إلى الطرف الآخر، أي أن نحدّثهم كثيراً عن المسيح حتى نتعبهم ونسبب لهم المرض والضغط، حتى لا يعيدوا يطيقون سماع أي كلام عن المسيح. لا يمكننا أن ندفع أياً كان إلى اتّباع المسيح ولا أن نتسلّط عليه أو نلزمه، حتّى وتحديداً خاصّتنا.
المسيح هو الحرية والمحبة. إنّه لا يشجع ولا يطلب أي ابتزاز. نحن مدعوون إلى إلهام الناس على محبة المسيح. عندما يسلّم الإنسان نفسه لسجن “الأنا” القادرة، ويعاني من الأنانية والفردية ومحبة الذات والكبرياء، من الصعب أن يحب الآخرين، وأكثر من ذلك الله. وهكذا هو عاجز عن الاعتراف أمام الناس. مَن لا يعترف علناً يعني أنّه لا يمتلك المحبة. مَن لا يحب يحكم على نفسه بوحدة جليدية تبدأ في هذه الحياة وتستمر إلى الأبدية. الأناني المحب لذاته يشعر بمحبة الله ناراً، ولا يستطيع مقاومتها، ولا يريد ذلك، وهي تزعجه وتحرقه.
يوجد اليوم مسيحيون يحبّون القديسين ويدرسون سيَرَهم ويسرعون إلى أعيادهم ويضيئون قناديل الزيت تكريماً لأيقوناتهم، ويبنون الهياكل على شرفهم، كما المزارات والأيقونات والقناديل والقرابين والتقدمات والقمح المسلوق وغيرها. كما يوجد اليوم مَن لا يحبّون القديسين، ولا أتكلّم هنا عن الملحدين وفاقدي للتقوى وغير المتدينين، بل عن المتأثّرين بالعقلانية واللاهوت الفكري الحديث الذي يعتبر كلّ هذه الأمور مرضاً وتقوى شعبية غير لاهوتية. للأسف، كثيرون من المسيحيين لا يدركون قيمة القديسين العظيمة وأهميتهم في حياتنا.
لم يختفِ في أيامنا تقوى المؤمنين محبّي القديسين ولا توقيرهم ولا حماستهم. يمكن للمرء أن يرى ويفرح بالبيوت الملأى بالأيقونات مع قناديل الزيت التي لا تبهت والشموع التي لا تُطفأ والمباخر، والجدّات يتحدثن مع دموع عن حضور القديسين في حياتهن، متأمّلات بأنّ شفاعة القديسين ووالدة الإله سوف تخلّصهن وتساعدهن على دخول الملكوت. محبّو القديسين هم أولئك الذين، حتّى اليوم، يطلبون أن يجدوا قديسين حقيقيين ليتأيدوا بهم ويستفيدوا. إنهم لا يختلقون قديسين خياليين، ولا يتبعون أولئك الذين يلعبون دور الإله أو القديس الزائف، بل هم يركعون للقداسة الصحيحة الأصيلة. محبّة القديسين هو خيرة الجماعة في الرعايا. إنّهم يكملون التقليد، ويوقّرون تذكارات قدّيسينا، لا يروّعهم القديسون الزائفون بسهولة، ولا هم يتأثّرون أو يعانون بالفضائح في الكنيسة، سواء كانت صحيحة أم لا. عندما يكونون في ظروف صعبة، كوقوعهم تحت نظام استبدادي، فهم يتحمّلون بشجاعة، متأمّلين ومنتصرين.
القديسون دائمو الاتضاع، لأنّهم مقتنعون بأن كل ما هو صالح هو مُعطى من فوق، وليس من غنائمهم. فهم لا يمكنهم أن يتباهوا بمواهبهم، لأنّها من لدن أبي الأنوار. قديسونا، في وعيهم الكامل لمواهبهم، يقدّمون كل التمجيد والإكرام والسجود لله المعطي. عندما يمدحهم الناس يمدحون مصدر كل صلاح، الله الكلي صلاحه. بقدر ما يرى الله أنّ الإنسان يواضع نفسه، يمنحه بالأكثر بركة ونعمة، لأنّه دائماً “يعطي المتواضع نعمة”. إن استعمل الموهوب مواهبه لمجده ولمنفعته الشخصيين، سوف يفقدها بالطبع، ويظهر بشكل بائس أمام الشعب الذي استغلّه. ابتداءً من هذه الحياة سوف يكون مشوش الفكر، حائراً وبائساً، يتوقّع النار الأبدية.
أيها الأحباء، يوجد في هذه الأيام المضطربة الكثيرُ من القداسة المخبّأة. ليس فقط بين العائشين كرهبان بلا اسم، مجهولين، مغمورين في الصحارى والأديرة، ولكن أيضاً في العالم. الزوجات اللواتي يحتملن استقالة أزواجهم وتقلّبهم وسكرَهم، وحيدات مهانات ومتروكات، دون أن يقودهم الأمر إلى الطلاق، بل يحتملن ويأملن ويصلين ويرجون أن يتركن مثالاً حسناً لأولادهن. إن موقف الأمّ يعلّم الأولاد، فهي مثال ممتاز، ودافِع إلى الفضيلة. هذا الدرس لا ينسونه في كل حياتهم. هذا التعاطي البطولي قادر على تحويل الزوج العنيف ويعطي المرأة إكليل الصبر. نحن نعرف بطلات نادرات في الإيمان عشن لسنوات كثيرة حياة رعب وعذاب بصمت، وصبر وصلاة ودموع واتّضاع وثقة بالله ورجاء به. كيف لله ألا يهب النعمة لهذه النفوس الجميلة؟
كما ترون، للقداسة أوجه كثيرة. الذين في العالم لن يُحاكَموا لأنّهم لم يقوموا بصلوات كثيرة، مع أنّ بعضهم يتفوّق على الرهبان في ذلك. قال القديس يوحنا الذهبي الفم: الشعب سوف يخلص بأعمال الخير. الحَسَنات تظهِر نفساً متواضعة تعرف كيف تحبّ. في هذا الزمن الشرير الضاغط، مَن يكون متواضعاً بريئاً نقياً شريفاً صادقاً عادلاً بارّاً وحكيماً يكون له الكثير في الملكوت.