الرعية والكنيسة
المتقدّم في الكهنة ألكسندر شميمن
نقلها إلى العربية الأب أنطوان ملكي
هذه المقالة التي تعود لأكثر من نصف قرن ما تزال قابلة للتطبيق خاصةً في الكرسي الأنطاكي المقيم حيث القوانين لا قيمة لها ويعطي كل من الأساقفة والكهنة وحتّى أعضاء مجالس الرعايا لأنفسهم الحرية في وضع القوانين التي تحلو لهم، ما يعرّض الكنيسة وحياتها لنتائج مدمّرة. (المترجم)
1. إن الجدل حول النظام الأساسي للكنيسة الروسية الأرثوذكسية الجامعة في أميركا الذي تمّ تبنّيه في المجمع العام التاسع لأميركا في 1955، ليست “تقنية”، بل لها أهمية عميقة من حيث المبدأ. إنّها تتضمّن أسئلة أساسية تتعلّق بحياة الكنيسة وتنظيمها. تظهِر الخصيصة العاطفية لهذه الحجج بشكل واضح أن ما نواجهه ليس وضعين عمليين مختلفين متضاربين في ما بينهما وحَسب، بل مفهومين مختلفين لبنية الكنيسة القانونية. في الكنيسة، التي هي كائن حي نامٍ، هناك مجال للنقاش. من لمنطقي البحث عن الحقيقة والسعي إلى الإجابات الصحيحة لمشاكل الحياة المعاصرة. لكن هذه النقاشات لا تثمر ولا تنفع إلا إذا قَبِل الطرفان قبولاً غير مشروط بأن تكون أرضيتهم المشتركة ونقطة انطلاقهم تعليمَ الكنيسة الأرثوذكسية الأزلي الثابت، كما يُعبَّر عنه في عقائدها وقوانينها. إن عقائد وشرائع الكنيسة لا تخضع للمراجعة، إن هكذا “مراجعة” ستكون بمثابة “السقوط” للكنيسة، ورفض الأرثوذكسية. نود أنّ يحفظ كل الذين يجادلون في النظام الأساسي هذا الأمر دائما في الاعتبار، وأن يفهموا أن القضية هي إذا ما كنّا نريد أن نبقى أرثوذكس، أو أن ينمو، تحت اسم “العقيدة”، شيء غريب عن الكنيسة، شيء يعادل الخيانة التي من شأنها أن تجعل كل المناقشات حول تنظيم الكنيسة بلا معنى ولا جدوى.
2. عملياً، كل المناقشات حول النظام الأساسي تتركّز حول مسألة الرعية وتهتمّ بالأسئلة التالية: مَن سوف يكون رأس الرعية؟ كيف ينبغي تنظيم الرعية وإدارتها؟ العديد من النقاط الحاسمة في هذه المناقشة تتطلّب التوضيح. غاية هذه الورقة هو تقديم تحليل مختَصَر لهذه النقاط التي يمكننا بوضوح أن نكشف خروجاً صارخاً عن المبادئ الأساسية لتقليد الأرثوذكسية القانوني والعقائدي. لقد استعملنا عمداً عبارة التقليد “العقائدي”، إذ بالرغم من انتشار المفهوم القائل بأنّ حقلي العقيدة والإدارة غير مرتبطين ببعضهما، فقد اعتبرت الكنيسة بشكل ثابت أن كلا الحقلين أجزاء غير منفصلة من تقليد واحد أوحد قائم على المبادئ العقائدية نفسها. إن تنظيم الكنيسة وإدارته محددان كليّاً بإيمانها، أي بالعقيدة التي تحفظها الكنيسة عن نفسها. وعليه، فمن الخطأ التفكير بأنه يمكن الحفاظ على إيمان الكنيسة إذا كانت مؤسستها الأبرشية والرعوية مبنية على أسس إدارية وقانونية دهرية صرف. أنا لا أقترح أن ألامس في هذه الورقة مسألة من هو المسؤول عن الوضع الذي يُستعمَل دائماً لتبرير ضرورة وجود أشكال ومقاييس جديدة في الكنيسة. هذا سؤال كبير ومعقّد. ولكن كائناً مَن كان الذي يحمل المسؤولية ومهما كانت الجِدّة في الوضع الحالي، لا يمكن لمبادئ تنظيم الكنيسة الأساسية أن تقوم عليهما. النقاط التالية جوهرية، حتّى أنّ أي ابتعاد عن معناها القانوني الأصلي سوف يكون، كما سبق ذكره، بمثابة الخروج على التقليد الأرثوذكسي.
3. أولى هذه النقاط هي مسألة العلاقة بين الرعية من جهة وسلطات الأبرشية، بشكل أكثر عمومية الكنسية، من جهة أخرى.
في الممارسة، هذا إشارة إلى ما يُسمّى “رعايا مستقلّة”، أي تلك الرعايا التي تحدّد علاقتها بالسلطات الكنسية من جانب واحد. الميل الرئيسي هو في ادّعاء أنّ المفهوم التقليدي للرعية كجزء من كائن أوسع (الأبرشية أو الكنيسة) يتعارض مع قانون الولايات المتّحدة (المترجم: والواقع في أنّه يتعارض في أماكن أخرى مع الجو العام القائم على الفردية وتفادي الالتزام)، وبخاصة القوانين المتعلّقة بالشركات. فالرعية، بحسب هذه الحجة، تندمج بحسب قوانين الدولة، وهذا بحكم الضرورة يجعل الرعية مستقلة إدارياً وذاتية الحكم. مع هذا، فإنّه جليّ لمَن يملك بعض المعرفة في التشريع الأميركي، وبخاصة التشريع المتعلّق بالدين، أنّ هذا التوكيد يقوم على الجهل أو يُقَدَّم بنية شريرة. 1) المبدأ الأميركي لفصل الكنيسة عن الدولة يؤهّل كل جماعة دينية لتنظيم حياتها الخاصّة بحسب تعاليم إيمانها ومبادئه. 2) اندماج الرعية لا يجعلها بأي شكل من الأشكال “مستقلّة” و”ذاتية الاكتفاء”، لأن الأمر برمّته يتوقّف على نوع المجتمع الذي يؤسّس من خلالها. وبالتالي، ليس الاندماج هو ما يحدد بنية المجتمع، بل على العكس، بنية المجتمع ومبادئه الأولية هي ما تحدد شكل الاندماج. بتعبير آخر، كل الأمر يتوقّف على كيف ترى الرعية وتحدد ذاتها، وكل إشارة إلى القانون الأميركي في هذا النطاق هي بلا معنى، إذ إن الهدف الوحيد من القانون هو حماية وتشريع حق تقرير المصير لدى أي مجموعة من المؤمنين. إن القانون المدني يبقى صامتاً عمّا يتعلّق بتنظيم الكنيسة الأرثوذكسية الأميركية وإدارتها.
وعليه، فإن فكرة “الرعية المستقلّة” تقوم على مفهوم مشوّه للكنيسة وهي ثورة ضد أعرافها الأساسية. فلنتذكّر هذه الأعراف بشكل مختصر:
أ. قانونياً، وبالتالي إدارياً، الرعية جزء من الكنيسة وشأن كل شيء في الكنيسة تخضع للرئاسات الكنسية، وأولاً للأسقف. رعية “مستقلّة” أو رعية لا تعترف إلا بسلطة “روحية” للأسقف، وليس بالمعنى الإداري، هي سخافة كنسية.
ب. لأسقف الأبرشية السلطة التالية في الرعية: يعيّن إكليريكييها ويشرف بشكل ثابت على كامل حياة الرعية ونشاطاتها إما شخصياً أو عِبر إكليريكييها. هذا لا يؤدّي إلى حكم مطلَق ولا إلى التعسف، لأنّ قوانين الكنيسة الأرثوذكسية كما نظام 1955 يحددان بدقة تامّة الوسائل التي من خلالها يمارس السقف سلطته. أمّا انتقاء أحد أصعدة حياة الرعية والادّعاء بأن هذا الصعيد يدخل خارج اختصاص الرئاسة الكنسية وسلطتها الشرعية، فيتعارض مع فكرة الكنيسة بحد ذاتها كما يعبّر عنها القديس اغناطيوس المتوشّح بالله: “في الكنيسة لا شيء يقوم من دون الأسقف”.
ج. من وجهة النظر هذه، القسّ هو ممثل الأسقف وسلطته في الرعية. حقوق القس وواجباته محددة بشكل واضح في قوانين الكنيسة ونظامها الأساسي. من الضروري التشديد على أن فكرة أن الكاهن هو مستَخدَم خاضع لطلب مستخدِميه ومعتمداً على شروطهم، ليست فكرة خاطئة وحسب بل هي هرطقة. ينبغي أن نتذكّر أن كاهن الرعية، والرعية جزء من الكنيسة، يمثّل الكنيسة بذاتها، تقاليدها، تعاليمها وتراتبيتها. الكاهن ليس تابعاً لأبناء رعيته، بل الطرفان خاضعان لغايات الكنيسة ووظائفها ومصالحها. والكاهن يرى مصالح الرعية على ضوء هذه العلاقة بين الرعية والكنيسة ككل.
د. يؤكّد التعليم الأرثوذكسي حول الكنيسة إمكانية وضرورة التعاون بين الإكليريكيين والعلمانيين على كافة المستويات وفي كل الأطر في حياة الكنيسة (المجمع، مجمع الأبرشية، مجلس الرعية، ولجنة الكنيسة). بالتالي، ترفض العقيدة الأرثوذكسية لا احتكار السلطة من قِبَل الإكليروس وحسب (الإكليريكانية الكاثوليكية) بل حتّى التمييز بين صعيد يخضع لسلطة الإكليريكيين وصعيد آخر خارجها (البروتستانتية). في الكنيسة الأرثوذكسية، كلّ شيء يصير بالشركة، في الوحدة بين الإكليروس والشعب. لكن عبارة “الشركة” تعني أولاً أن الأسقف والكاهن يشتركان بحق في كل أصعدة حياة الرعية، وثانياً، يعود إليهما بحسب مبدأ التراتبية الحق والواجب الدينيين بإقرار كل النشاطات أو رفضها. لا شيء في الكنيسة يمكن أن يقوم من دون الرئاسات أو ضدها، إذ بطبيعة الأمور، كل أمور الكنيسة، بما فيها المادية والمالية والاقتصادية، تخضع للغاية الدينية للكنيسة. لا تبني الرعية كنيسة أو مدرسة أو أي بناء ىخر، ولا تجمع مالاً فقط لتغتني. كل هذا يتمّ لتحمل تعليم المسيح وتعزّز خير الكنيسة. وعليه، كل أصعدة نشاط الرعية هي بطبيعتها خاضعة للغايات الدينية وينبغي تفحصها وتقديرها على ضوء هذه الأهداف. وبالتالي فإن القيادة الناشطة والمشاركة في حياة الكنيسة وفي إدارتها من قِبَل الرأس الروحي ضرورية وبديهية.
على ضوء هذه المبادئ علينا أـن ندين، من دون قيد أو شرط، كل المحاولات:
1) لجعل الرعية مستقلّة عن الأبرشية وغيرها من الأنظمة المشكلّة قانونياً من قِبَل الرئاسة الروحية
2) لتأسيس الرعية في ما يتعارض مع المبادئ المذكورة أعلاه
3) للتمييز بين “الروحي” و”المادي” في نشاطات الرعية
4) لمعاملة كاهن الرعية بإذلال وكأنّه شخص يمكن استخدامه أو الاستغناءعن خدماته بقرار من لجنة الكنيسة
5) لحرمان الكاهن من حقّه في القيادة في كل أوجه حياة الكنيسة.
برأينا، عدم القبول بهذه النقاط يساوي الانتهاك لمبادئ الأرثوذكسية الأساسية. ينبغي لفت انتباه الشعب الأرثوذكسي لهذا الخطر الذي نعرضه.
Published by: Committee on Convocation of the 10th All-American Church Sobor of the Russian Orthodox Greek Catholic Church of America [NY], 1959.