فتور الجماعة*
الأب أنطوان ملكي
الفتور الروحي تجربة تحدّث عنها الإنجيل والآباء القديسون كثيراً. والمؤمن، في مختلف مراحل تقدمه الروحي، معرّض لهذه التجربة التي تعيق تقدّمَه لا بل تعيده إلى الخلف. والفتور عكس الحرارة، لهذا الحرارة مطلوبة من المؤمن فيما الفتور مرذول. نرى الرسول بولس في رسالته إلى روما (الإصحاح 12)، يدعو المؤمنين إلى العطاء والرحمة والمحبة وكره الشر والالتصاق بالخير والفرح والشركة ويطلب منهم أن يكونوا “غَيْرَ مُتَكَاسِلِينَ فِي الاجْتِهَادِ، حَارِّينَ فِي الرُّوحِ، عَابِدِينَ الرَّبَّ” (الآية 11). فالله لم يخلق الناس ولا الملائكة ليكونوا فاترين، وهذا ما نكرره يومياً في مزمور الغروب “الصانع ملائكته أرواحاً وخدّامه ناراً تلتهب” (4:103). وهذه الحرارة شرط لمعرفة الرب، كما يظهر من تساؤل لوقا وكلاوبا في عمواس: “أَلَمْ يَكُنْ قَلْبُنَا مُلْتَهِبًا فِينَا إِذْ كَانَ يُكَلِّمُنَا فِي الطَّرِيقِ وَيُوضِحُ لَنَا الْكُتُبَ؟” (لوقا 32:24). ولهذا يرفض الربُّ الفاترين “لأَنَّكَ فَاتِرٌ، وَلَسْتَ بَارِدًا وَلاَ حَارًّا، أَنَا مُزْمِعٌ أَنْ أَتَقَيَّأَكَ مِنْ فَمِي” (رؤيا 16:3).
وظاهرة الفتور قد تصيب الفرد والجماعة. لا يمكن تحديد الفتور أو قياسه بالكمية، فقد تمتلئ الكنائس بالحضور ويصير كل الناس ممسكين بأصول الترتيل ويُسَدّ النقص في عدد الكهنة وتتحوّل الرعايا إلى مؤسسات منتجة مكتفية بما تنتج وما لديها من مشاريع ونشاطات. لكن كل هذه المظاهر لا تدلّ على الحرارة الروحية، فالبشر معرّضون، بحسب ما يصف الرسول في رسالته الثانية إلى تيموثاوس (5:3) لأن يكونوا “لَهُمْ صُورَةُ التَّقْوَى، وَلكِنَّهُمْ مُنْكِرُونَ قُوَّتَهَا”. إن إنكار قوة التقوى هو الفتور الذي يحوّل الكنيسة إلى روتين، ويخضع كلّ شيء فيها للعقلانية، ويركّز على فضائل الجسد بدلاً من فضائل الروح، ويكتفي بالانشغال بالناس بدلاً من الانشغال بالله. باختصار، الفتور الروحي هو تعاطي القداسة من الخارج لا من الداخل.
ما هي مظاهر فتور الجماعة الروحي؟ الجماعة الفاترة تفتقد النماذج الحيّة، تعليمها هزيل وسطحي، الجري وراء الأموال فضيلة يتسابق أعضاؤها إليها، ويُسَخِّرون العمر والصحة والممتلكات لتحصيل العلوم، ويصير الصلاة والصوم والاعتراف والمناولة مجرّد بنود في جدول أعمال ينفّذونه فيشعرون براحة الضمير عند انتهائه، يكثر الكتّاب والمؤلّفون والنشرات فيها ولا مَن يقرأ، ويصير الحق والجمال والرحمة والصلاح والعفّة والحشمة قِيَم بشرية تخضع للاستنساب والملاءمة. الجماعة الفاترة جماعات يشدّها إلى بعضها التنظيم لا الروح، لذا لا يحمل بعضها أحمال بعض، ولا يحسّ غنيّها بفقيرها، ولا يسأل كبيرها عن صغيرها. الرعاية في الجماعة الفاترة لا تتخطّى الاجتماعيات، ورعاتها ناشطون إجتماعيون، وكنيستها مؤسسة لتنظيم أحوال الأفراد الشخصية وإيواء مناسباتهم. الجماعة الفاترة رمال تتحرّك فتخنق الإنسان الحارّ ذا القلب المضطرم والضمير الحي الذي لا ترى فيه إلا إنساناً متزمّتاً متطرّفاً.
كيف تتخطّى الجماعة الفتور؟ أولاً بتخطي كل واحد فتوره، وهذا لا يتمّ إلا بالتوبة والمحبة اللتين لا تتحققان إلا بالجهاد والتعب فيعود الله ليكون الشغل الأساسي لكل واحد، فلا يكتفي أحد بالماديات بل يطلب من لدن الله ما هو أفضل، فتصير حركته نحو الله وإليه. من ثمّ يترافق الواحد مع الآخر فتتحرّك الجماعة ومن حركتها تتولّد الحرارة، مقدّمة “كُلَّ فِكْرٍ إِلَى طَاعَةِ الْمَسِيحِ” (2كورنثوس 5:10). مفتاح الحرارة، عند الفرد أو الجماعة، هو طاعة المسيح. أمّا المحاباة واسترضاء الناس ومجاراتهم في التدبير على حساب الدقّة فإنّما تعطّل هذا المفتاح، فلا الفرد يصير حاراً ولا الجماعة تتحرّك.
* عن نشرة الكرمة