ذكر الله من خلال صلاة يسوع عند القديس ذياذوخوس أسقف فوتيكي
إعداد الخورية سميرة عوض ملكي
القديس ذياذوخوس أسقف فوتيكي هو من رواد صلاة اسم الرب يسوع. وقد اكتسب شعبية كبيرة في عالم روحانية الصحراء البيزنطي. في كتابه “مئة مقالة في المعرفة الروحية” ينصح بتطهير القلب وبذكر اسم يسوع، وليس الله فقط. وهو الكاتب الأول الذي يشير إلى ذكر اسم يسوع دون أن يقترح شكلاً محدداً لهذه الصلاة. فهو يشدد على ذكر الله ذكراً داخلياً مستديماً. فالذكر المدعوم بالصمت يحفظ حرارة النفس وتجمّعَها وخشوعها ويأتي بالقلب إلى التوجع والوداعة. إن الذكر (ذكر الله والخير والمحبة الروحية، ذكر الذهن والقلب) يرد مراراً وتكراراً عند ذياذوخوس. وذكر الله بحرارة ينبع الشوق إلى الله من أعماق القلب. ويحدد ذكر الله بذكر الرب يسوع أو اسم يسوع وهو السلاح الأكبر ضد أوهام الشياطين ووسيلة البلوغ إلى رؤية النفس ورؤية النعمة في النفس. كما يلاحظ ذياذوخوس اقتران كلمة صلاة بكلمة انتباه أو يقظة ولهذا السبب ينقاد مفسرو كتاباته وكتابات غيره من الهدوئيين إلى إيراد كلمة انتباه مكان كلمة صلاة استناداً إلى بعض المخطوطات، خاصةً أن الكلمتين متقاربتين جداً في اليونانية. وهو يعلّم كثيراً عن ذكر الله إذ هو يحمي من الميل إلى الشر: “ينبغي أن نعرض دائماً عن الميل الذي فينا إلى الشر بدأبنا على ذكر الله”، “حواء… حين… استسلمت للهوى… أشركت آدم في خطيئتها… إذ لا يمكن للذهن البشري في حالة كهذه أن يذكر الله ووصاياه إلا بصعوبة. أمّا نحن فلنشخصنّ بنظرنا دائماً إلى أعماق قلوبنا ذاكرين الله ذكراً لا ينقطع…” إضافةً إلى أن هذا الذكر هو مصدر المعرفة التي لا تخطئ: “نعرف دون خطأ، الحالة التي تلازم الحديث الإلهي إذا كنّا في الأوقات التي لا نتكلم فيها ننصرف، في صمت خالٍ من أي اهتمام آخر، إلى ذكر الله ذكراً حاراً”. وهو مصدر التعزية الحقيقية: “تحصل التعزية الصالحة حين يكون الجسد ساهراً، أو حتى عندما تبدأ فتظهر عليه علامات نعاس قريب فيما نحن ملتصقون بحب الله في ذكر له حار. أمّا التعزية الوهمية فهي على العكس من ذلك تحصل دائماً حين يكون المجاهد قد دخل في سبات خفيف وهو يذكر الله بفتور. فمن عادة التعزية الأولى ما دامت صادرة عن الله، أن تدعو جلياً نفوس أبطال التقوى إلى حبه في انسكاب للنفس كبيرة. أمّا التعزية الأخرى التي اعتادت أن تهيّج النفس ريح مضلّة فتحاول استغلال نوم الجسد لتسلب الذهن خبرة حسه المحتفظ بذكر الله تاماً. فإذا ما صادفت هذه التجربة الذهن متحداً بذكر الرب يسوع بانتباه ويقظة كما سبق القول فهو يبدّد ريح العدو الزائفة العذوبة ويبادر بفرح إلى محاربته متسلحاً إلى جانب سلاح النعمة الأول بفخر خبرته.” ويضيف أنّ بدون ذكر الله لا يستطيع الذهن أن يتبيّن زلاته: “قليلون جداً هم الذين يتبيّنون بدقة كل زلاتهم. فإن هذا فقط شأن الذين لا يتيحون لذهنهم الاقلاع أبداً عن ذكر الله”. “سوف نفلت من شعور الفتور والجبن إن حصرنا فكرنا في حدود ضيقة ووجهّنا نظرنا إلى ذكر الله وحده. هكذا فقط يعود الذهن سريعاً إلى حرارته ويمكنه التحرر من هذا التشتت الغاشم.” ويستفيض في تشديده على أن يكون ذكر الله الشغل الشاغل للإنسان حتى لا يتراخى ويفقد حبه للفضيلة: “مَن يتوخى تنقية قلبه فليلهبه دائماً بذكر الرب يسوع جاعلاً من هذا الذكر وحده دراسته وممارسته الدائمين… كذلك مَن لا يذكر الله إلاّ من وقت إلى آخر يفقد بتراخيه ما يظن أنه قد اكتسبه بالصلاة… إن خاصة الإنسان المحب للفضيلة هي أن يحرق دائماً بذكر الله ما هو أرضي في قلبه حتى يبيد الشر شيئاً فشيئاً بنار ذكر الصلاح، وتعود النفس تماماً إلى ضيائها الطبيعي بمزيد من البهاء”. وقد يقترن هذا الذكر بأمور أخرى تثبته كالتفكير بالموت: “لأن ذكر انحلال الجسد يستطيع لوحده ضبط نوعي الأرواح الشريرة (اللطيفة والمادية) عن طريق ذكر الله”. ويرى أنّ الذكر يؤدي إلى الفرح إذ تكون النفس قد تنقّت: “بعد أن يكون التبكيت الإلهي قد محّصها تمحيص الأتون تكتسب النفس في ذكر حار لله قوة فرح خالٍ من التصورات.” هذا ويؤكد أنّ الذكر يكون باستدعاء اسم يسوع من خلال الصلاة المعروفة باسمه: “عندما نُغلق على الذهن كلّ مخارجه بذكر الله يتطلب منا قطعاً عملاً يرضي حاجته إلى العمل. فيقتضي إذاً إعطاؤه “الرب يسوع” عملاً وحيداً يلبّي غايته بصورة كاملة… لكن عليه أن لا يتأمّل على الدوام في كنوزه الداخلية سوى هذه العبارة فقط دون غيرها فلا يحيد عنها إطلاقاً إلى أي تصوّر كان. فإن جميع الذين يتأملون في أعماق قلوبهم بهذا الاسم الجليل الأقدس وبدون انقطاع، هؤلاء يستطيعون يوماً مشاهدة نور ذهنهم عينه أيضاً. لأنه إذا أُبقي اسم يسوع بالذكر في أعماق القلب باهتمام شديد فهو يحرق، في شعور حاد، كل الدنس الذي يغشى سطح النفس… بعد ذلك يدعو الرب النفس إلى محبة مجده محبةً عظيمة لأن ذلك الاسم الجليل والمشوق إليه جداً، إذا ما ثبت بواسطة ذاكرة الذهن في حرارة القلب، يرسّخ فينا عادة محبة صلاحه دون أن يعارضها شيء فيما بعد.” ولكن استدعاء ام يسوع وصلاته بحاجة إلى تحرر من الأهواء: “عندما تكون النفس مضطربة بالغضب أو مشوشة بالسكر أو مثقلة باليأس، لا يقدر الذهن، مهما عنف، أن يضبط ذكر الرب يسوع… أمّا إذا كانت ذاكرة الذهن بالعكس حرة من الأهواء… فإن الذهن يعود سريعاً إلى عمله ويستولي بحرارة على تلك الغنيمة الخلاصية المشتهاة. لأن النفس حينذاك تضبط النعمة نفسها التي تتأمل معها وتصرخ صلاة “الرب يسوع”. وفي النهاية يتطرق ذياذوخوس إلى كيفية ممارسة صلاة يسوع مشدداً على عدم الإكثار من الكلمات غير التي في صلاة يسوع: “إذا ما استسلمت النفس إلى رغبتها في كثرة الكلام، حتى وإن كان كل ما تقوله حسناً، فإنها تبدد ذكرها لله من باب الكلام”. وبغض النظر عن كون هذه الصلاة بصوت عالٍ أو سرية ينبغي أن يشترك القلب فيها وأن تنتهي بصمت الصوت الذي يعطي حرارة للقلب: “حين تكون النفس راتعة في وفرة ثمارها الطبيعية ترفع ترتيلها عالياً وتبتغي المزيد من الصلاة الصوتية. أمّا إذا كان الروح القدس يفعل فيها فإنها ترتل وتصلّي في سر القلب بكثير من التسليم والعذوبة. الحالة الأولى يرافقها فرح سريع التخيل، أمّا الثانية فترافقها دموع داخلية روحية مع نشوة توّاقة إلى الصمت. لأن ذكر الله الذي يحفظ حرارتها عن طريق سكوت الصوت يعدّ القلب لأن يطفح بخواطر توجّع ووداعة.
كل الاقتباسات في هذا النص من كتاب “مائة مقالة في المعرفة الروحية للقديس ذياذوخوس أسقف فوتيكي”تعريب رهبنة دير الحرف. بيروت: منشورات التراث الآبائي. 1992.