حول إنجيل المخلّع*
القديس غريغوريوس بالاماس
إن الذي يستسلم للملذات هو مفلوج نفسياً قابع على سرير محبة اللذة، معتقد بأنه هكذا يكون في راحة جسدية. لكن عند اقتناعه بالنصائح الإنجيلية وعند اعترافه يظفر على خطاياه، وهكذا يداوي شلل النفس. عندها يُحمَل من قِبَل أربعة، على مثال المخلّع: دينونته الحاصة لنفسه، اعترافه بخطاياه السابقة، وعده بالابتعاد في المستقبل عن كل شر، وابتهاله إلى الله الرحيم. ولكن هذه الأربعة لا تستطيع ان تقرّبنا إلى الله إن لم ننبش السقف مزيلين القرميد والتراب والمواد الأخرى. السقف بالنسبة لنا هو القسم العاقل من النفس لأنّه أسمى ما يوجد فيها. هذا القسم فيه مواد كثيرة تغطّيه، وله صلةٌ وثيقة بالأرضيّات وبالأهواء المختلفة. عندما تنكشف هذه المواد وتزول عن طريق العناصر الأربعة المذكورة أعلاه، عندها نستطيع بالفعل أن نتوجّه إلى الربّ أي أن نتواضع في الحقيقة، أن نسجد ونقترب إلى الرب ونطلب منه الحصول على الشفاء.
لكن متى تحصل مثل أعمال التوبة هذه؟ عندما جاء يسوع إلى مدينته أي عندما أتى إلى العالم كإنسان. والعالم هذا هو خاصته لأنّه من إبداعه كما يقول الإنجيلي يوحنا: “إلى خاصته أتى وخاصته لم تقبله. وأمّا كل الذين قبلوه فأعطاهم سلطاناً أن يصيروا أولاد الله أي المؤمنون باسمه” (يوحنا 11:1-12). هكذا عندما يسجد الذهن الذي عانى الشلل بإيمان يسمع للحال الربّ يدعوه “يا بنيّ”، ويتقبّل منه الغفران والشفاء ليس فقط هذا، بل أيضاً يحصل على القدرة التي تجعله ينهض ويحمل سريره عل كتفه، السرير الذي كان مستلقياً عليه. أعني بالسرير الجسد المادي المرتبط به والذي به يتمّم الذهن الخاضع للشهوات الجسدية أعمال الخطيئة.
لكن بعد الشفاء يسود الذهن على الجسد ويرشده، فيصبح الجسد خاضعاً له. ويظهر الذهن عن طريق الجسد ثمار التوبة وأعماله حتى أن الشهود على كل ذلك يمجّدون الله عندما يرون اليوم إنجيلياً كان بالأمس عشاراً، رسولاً كان مضطهداً، لاهوتياً كان لصاً، ابن الآب السماوي مَن كان بالأمس يعيش ويتصرّف مع الخنازير. فتراه إن شئتَ يحقق مصاعد في قلبه ويرتقي من مجد إلى مجد، ويتقدّم كل يوم نحو الأفضل. لذلك قال الرب لتلاميذه: “فليضئ نوركم هكذا قدّام الناس لكي يروا أعمالكم الصالحة ويمجّدوا أباكم الذي في السماوات” (متى 16:5).
لا يقول الرب هذا لتلاميذه لكي يظهروا أنفسهم بل لكي يتصرّفوا بطريقة لائقة مرضية لله. كما أن النور بدون جهد يجذب أعين الناس كذلك السيرة الحسنة المرضية لله تجذب إليها العينين مع الذهن أيضاً. وكما أنه بالنسبة لنور الشمس لا نمتدح الهواء الذي يشترك في ضياء النور بل الشمس نفسها التي تعطي ضوءها (وإن كنّا نمتدح الهواء فكم بالأحرى يجب علينا أن نمتدح الشمس؟)، كذلك الشيء نفسه يحصل مع الذي، عن طريق أعمال الفضيلة، يُظهر لمعان شمس العدل. أي أنّ هذا الإنسان يرفع ذهن المشاهدين إلى مجد الآب السماوي، مجد شمس العدل، مجد المسيح.
عندما أكون معكم في الكنيسة أمام الله يجول نظري فأرى أولئك الذين بخشوع وتقوى يرسلون التسابيح والطلبات إلى الله، وأرى مَن يقف صامتاً مصغياً بإمعان إلى القداس الإلهي، فأمتلئ للحال حماسة وتمتلئ نفسي امتناناً وشكراً فأمجّد المسيح الذي بدونه لا يستطيع أحد أن يفعل شيئاً صالحاً وعن طريقه يفعل الناس كلّ شيء صالح.
لكن ماذا نقول عن أولئك الذين في الكنيسة لا يصمتون ولا يشتركون في التسابيح بل يتكلّمون فيما بينهم ويخلطون بين العبادة العقلية وأحاديثهم، فلا يسمعون الأقوال الشريفة الملهَمة من الله ويمنعون في الوقت نفسه أولئك الذين يريدون أن يسمعوها؟ يقول لهم إيليا النبي: “إلى متى أنتم تعرجون بين الجانبين؟” (3ملوك 21:18). تريدون في الوقت نفسه أن تتبعوا الصلاة وأن تتباحثوا في مواضيع باطلة دنيوية، فلا تنجزون أياً من الأمرين بل تهدمونهما كليهما وتصبحون عثرة للآخرين. ترى متى تتخلّون عن هذه الأقوال الباطلة التي بها تحوّلون بيت الصلاة إلى بيت تجارة تسود فيه شتّى الأهواء؟
فلنجعل مَن يرانا يمجّد الله عالِمين أنّ هذا البيت يحوي في داخله المسيح الذي يشفي النفسَ المخلَعة بالخطايا الكثيرة ويحثنا على أن نوجّه حواسنا الجسدية ومعقولنا نحوه، بذهن روحي محبّ لله دون أن تسيطر علينا شهواتنا الجسدية. هكذا نتوجّه إلى بيتنا الحقيقي، إلى وطننا السماوي حيث المسيح ميراثنا ونصيبنا الذي يليق به كل مجد وقوة وإكرام وسجود مع أبيه الذي لا بدء له وروحه الكلي قدسه الصالح والصانع الحياة الآن وكل أوان وإلى دهر الداهرين، ىمين.
* من كتاب “أناجيل الآحاد. الصوم الكبير والقيامة”. دير مار ميخائيل. منشورات النور. 1995