الصوم الكبير
الأرشمندريت توما بيطار
هذا صوم الأصوام وموسم المواسم. فيه نتهيّأ للفرح السنوي الأكبر. كلُّ أيام السنة تهيئة وفرح لأنّ الزمن الجديد فصحي كله. قِبلتُنا الفصح أبداً، كل يوم، كل أسبوع، كل سنة. لا حزن في الصوم. ما نفعله يعبِّر، في الصوم، عن الفرح بالفرح الآتي: “لا تكونوا عابسين كالمرائين فإنّهم يغيِّرون وجوههم… أما أنت فمتى صمت فادهن رأسك واغسل وجهك…” (مت 6: 16 – 17). في الصوم الكبير تَعَبٌ ولكنْ مفرِح. إن لم يرتحل ذهنك، في هذا الموسم، إلى الفصح الآتي فلا يمكنك أن تصوم صوماً لائقاً. المسيح قام. هذا وحده الجديد. كل جديد منه ومن دونه كل تفصيل عتيق. “ليس تحت الشمس جديد” (جا 1: 9). كل شيء بغير الفصح مُعترىً بالموت. في الصوم الكبير نتجدّد إلى حياة أبدية. إذا كان الفصح قد حصل مرّة في تاريخ البشريّة فإنّه بالروح القدس قد انفتح زماناً جديداً على البشريّة من فوق. كل شيء في الكنيسة ينشر رائحة الفصح. لم نعد في مستوى البشرة. ارتقينا إلى صعيد البشرة المتألّهة. نتعاطى الإلهيات في الجسد. حياتنا كلها سرّيةً أسراريةً غَدَتْ. لذا نصوم لندخل في سرّ الله الذي تجلّى في حياتنا.
في الصوم الكبير، لنا لسان حال أوحد أن “نطّرح عنا كل اهتمام دنيوي كوننا مزمعين أن نستقبل ملك الكل”. ما للإنسان ينبغي أن يُفسِح في المجال لما هو لله، لابن الله المتجسِّد، الناهض من بين الأموات. لنخرجْ، إذاً، من ذواتنا، من اهتماماتنا. “لنودع أنفسنا وبعضنا بعضاً وكل حياتنا المسيح الإله”. هكذا يمسي كل ما لنا مطرحاً للتجلّي الإلهي. طعامنا، شرابنا، لباسنا، مقتنياتنا، علاقاتنا، أفكارنا، أعمالنا، أقوالنا. كل ما لنا يستحيل حشا للكلمة. “والكلمة صار جسداً وحلّ فينا”.
في الصوم الكبير، نختبر شيئاً من الموت المحيي. لا نموت فقط عن خطايانا. هذا تحصيل حاصل. نرتحل عن أهوائنا لنتنقّى. لا نجانب الحرام وحسب بل الحلال أيضاً. ننقطع عما هو مسموح به لأن حياتنا في المسيح لم تعد مما انقطعنا عنه. ما للطبيعة نُسكِتُه إلى حدّه الأدنى كما لنقول: المسيحُ حياتنا! “ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان بل بكل كلمة تخرج من فم الله”. نطلب أن نذوق الموت طوعاً سؤلاً لحياة جديدة. لا نسأل راحة في الصوم الكبير بل روحاً. نرتاح إلى التعب لنكون في عداد من دعاهم السيّد: “تعالوا إليّ يا جميع المتعَبين والثقيلي الأحمال وأنا أريحكم”.
في الصوم الكبير، أولاً، نعمل لنصير آلة صلاة. الصوم مدخل إلى الصلاة. المبتغى هو عِشرة يسوع. “وجهك يا ربّ أنا ألتمس”. أن نقف في حضرته. أن نذوق طيب إلفته. الجدّة في الصلاة إليه أنّه لم يعد بعيداً. ولا حتى نخاطبه عن قرب. صرنا فيه لأنّه اتّخذنا وجسَدَنا. أتْحَدَ نفسه بنا وأعطانا أن نعرفه كَمِنْهُ. لذا لا نقربه كسيّد كما السيادات في هذا الدهر بل كمَن خدمنا بالمحبّة كَخِلٍّ لنا. في نهاية المطاف هو يصلّي فينا بروحه. الصلاة وإن كانت، بمعنى، مسعى بشرياً، فهي، بالأَولى، نعمة من لدن العليّ. لغة يسوع، قرباه، منّة منه. في الصلاة، إذاً، ننفتح عليه، وهو يحرّك أحشاءنا إليه.
وفي الصوم الكبير إعلان صامت ولكنْ عميق أننا فقراء إلى رحمة الله. هذا نؤدّيه متى صار الفقير لدينا لا اهتماماً وحسب بل هاجساً. كلّما جعلنا ذواتنا خدّاماً للفقير كلّما اختبرنا خدمة الربّ يسوع لنا للخلاص. خدمة الفقير روح وتبثّ روحاً.
وفي الصوم الكبير، أيضاً، يكون لنا بعض من خبرة الصليب. نذوق حلاوة مرارته. “مَن أراد أن يتبعني فليأتِ ورائي حاملاً الصليب”. الصليب يحدّث عن الفصح. قبل القيامة الصليب. صليب المسيح كلُّه قيامة وإلا استحال حَملُه. لذا بالصليب أتى الفرح إلى كل العالم. الصليب أخذٌ وعطاء في آن. “أعطِ دماً وخذ روحاً”.
في الصوم الكبير وفي الفصح ندخل في زمن جديد، في حياة جديدة، في فرح لا يخبو. نعطي موتاً فنأخذ حياة، نعطي تعباً فنأخذ راحة، نعطي بذلاً فنأخذ مسيحاً مصلوباً مُقاماً. لذا في كل خطرة، في كل كلمة، في مسير الصوم، إطلالة على المسيح الناهض من بين الأموات. الكل مجبول بحضرة يسوع، ينضح بأنعامه. نتعاطى يسوع في سيرته، في مقالته، في روحه. يمثل حيّاً أمام عيوننا. يبثّنا نَفَسَهُ والنور. يخرجنا من ذواتنا، من العالم المائت، إلى ذاته، إلى الملكوت. نسير معه من فرح إلى فرح إلى الفرح ومن مجد إلى مجد إلى المجد. يصير فيه كل شيء جديداً.
أما بعد فحكاية الصوم الكبير حكاية الكنيسة الناهدة أبداً بالألم إلى الفرح، بالموت عن النفس إلى الحياة بالسيّد، بالنسك إلى المعاينة الإلهية. كل مؤمن صائمٌ مصلٍّ أو يبقى خارجاً. نصيبُه الفرحُ المُنْزَل عليه من عند أبي الأنوار.
هوذا عيد الأعياد وموسم المواسم ممدود لنا بالبركات حتى لا يبقى أحد يائساً ولا يموت بائساً!
* عن نقاط على الحروف، العدد 112008، 16 آذار 2008.