القــداســـة
للأستاذ جورج خضر (متروبوليت الجبل حاليّاً)
عن النّور لعام 1950
أعدته راهبات مار يعقوب – دده، الكورة
إنّ ابتغاء القداسة يعني أمراً واحداً، أن ننظر بجدّ إلى المسيحيّة فتنقلب عوائدنا خلقاً، وانتظامنا في الأشكال اتحاداً ودوراننا طريقاً. عندئذ تتمزّق الأنسجة النّفسيّة التي حاكتها كبرياؤنا ليحوك الله في قلوبنا نسيج محبّته من جديد. القداسة تحكم في كلّ شيء وفي العقل نفسه لأنّ طرقي غير طرقكم يقول الرّبّ.
القداسة لله وحده، ولكن منذ أن سكن الكلمة بين النّاس (يو 14:1) ورثنا الألوهة وصار عهد من الله للنّاس جديد وأصبحت قداسة الله قداسة بشريّة تنبع من الثّالوث في الكنيسة لتروّي كلّ من اعتمد باسمه.
الكنيسة مقدّسة بالمسيح الذي يسكن فيها بالرّوح القدس، والقداسة هي الإسم الذي أعلن به الأقنوم الثّالث.
قداسة المسيح ورثناها كجماعة. إنّها صفة ملازمة للكنيسة (أفسس 25:5-27) فما وردت نعتاً للبشر في العهد الجديد إلا بصورة الجمع وقلّما جاءت بصيغة المفرد للدّلالة على من أُفرز لعمل خاصّ، فجرت نسبتها للأسقف في رسائل بولس الرّعائيّة. الكنيسة مقدّسة لأنّها صارت عروساً للقدّوس ولأنّها اقتبلت روحه فكانت مكاناً روحيّاً للمجد الذي كان يسطع في قدس الأقداس في هيكل أورشليم، وهذا بلا ريب المعنى الذي قصده بولس الرّسول في تسميته المسيحيّين هيكل الرّوح القدس. هل لاحظنا في الفصل الذي يُتلى من أفسس في خدمة الإكليل (22:5-33) إنّ الزّواج يشبَّه باتحاد المسيح مع الكنيسة لا بالعكس؟ غالباً يشبّه المعقول بالمحسوس ولكنّ قداسة الكنيسة وحقيقة اتحادها بالرّبّ أكثر واقعية في ذهن بولس الرّسول من الزّواج البشري.
مسيحيّة المسيح تبتغي القداسة والنّاس يقولون حسبنا في هذا العصر ألا نكذب وألا نسرق إلى ما هنالك من نواهٍ. هؤلاء النّاس هم دون الطّور الموسوي من الإعلان الإلهي ولكنّهم يطعنون المسيحيّة في الصّميم ويجحدونها. هم يقبلون القداسة في نصوص الإنجيل ولا يريدونها في حياتهم. العهد القديم نفسه أوصى بالمحبّة والتّشبّه بالله وهم يأبون أن يزيد برّنا على الكتبة والفرّيسيّين. كثيراً ما يظنّ النّاس أنّ ما يميّز المسيحيّة هو تعليمها الخلقي ولكنّهم ينسون أنّ الموعظة على الجبل كانت ما هي عليه لأنّ يسوع فتح فاه وعلّمهم. أظنّ أنّ سرّ الموعظة هو في “فتح فاه”، الخصال الحميدة إن هي إلا نتائج لمشاهدتنا قداسة يسوع وتنزّهه عن كلّ شبه شرّ. ما أبدعت المسيحيّة وما كانت غايتها أن تبدع نظاماً خلقيّاً كما صنع فلاسفة العالم، ولم تربط الكنيسة أيّ تعليم بعلم الهيأة أو علم السّياسة كما فعل الإغريق. لم تبحث كما بحث علماء الأخلاق في حفظ هذا العالم وترتيب شؤون الجماعة على الأرض، بل كثيراً ما كانت المسيحيّة عنصر انحلال وانفكاك في الحضارات التي دخلت إليها، وهي دائماً تفرّق الابن عن أبيه والزّوج عن زوجه وهي دائماً في هذا المجتمع سيف ونار. الحياة المسيحيّة تُنتج مناقب كما تُنتج أدباً وحضارة، ولكن المسيحيّة ليست بالمناقب ولا بالفنّ ولا بالفلسفة ولا بالاجتماع. المسيحيّة بالمسيح. لا أريد أن أنكر البتّة خطورة التّربية وتدريب الأحداث على الخصال الحميدة عن طريق ترويض الإرادة، ولكن هذا التّهذيب كثيراً ما يكون مسيحيّاً بغير مسيح. الإرادة البشريّة والتّربية العائليّة التي تميّزنا، ورقّة الشّعور واستقبالنا آفاق الدّنيا، كلّ تلك الصّفات التي يتميّز بها المجتمع المسيحي والتي شهد لها أخوان الصّفا مثلاً إن لم تتّحد بالمسيح اتحاداً واعياً هي نحاس يطنّ وصنج يرنّ. ليست المسيحيّة في نكران الأخلاق ولكنّها أسمى من الأخلاق كما أنّها أسمى من ناموس موسى. ومن فهم المسيحيّة كمجموعة وصايا خلقيّة أو فرائض شرعيّة لم يفهم منها شيئاً. “كلّ الأشياء تحلّ لي لكن ليست كلّ الأشياء توافق. كلّ الأشياء تحلّ لي ولكن لا يتسلّط عليّ شيء” هذه هي قاعدة الحياة للذين أطلقهم يسوع من كلّ قيد وعبوديّة، المدعوّين إلى حرّيته وحقّه. ولكن بسبب الخوف الصّادر عن فقدان المحبّة، وبسبب الجبن والمحافظة على راحتنا المتكاسلة، في حين أنّ يسوع جاء ليلقي ناراً على الأرض، بسبب هذا كلّه تعوّدنا أن نعلّم النّاس فرائض خارجيّة، وأن نردّ قلوبهم عن اشتهاء القداسة.
تُنسب القداسة لوالدة الإله والأبرار الذين تمجّدوا ولكن ليس ذلك من باب الحصر ولم يكن ذلك نكراناً لقداسة المسيحيّين العائشين على الأرض. القداسة إذا نُسبت للبشر لا تعني إطلاقاً التّنزيه عن الإثم بل اشتراكاً بقداسة المسيح والكنيسة عن طريق الإيمان والمحبّة والأسرار. لفظة القدّيس ليست عكس لفظة خاطئ، وقد كتب بولس الرّسول رسالته إلى القدّيسين في كورنثوس وكلّها توبيخ على خطاياهم، وفي مؤلَّف قديم وردت عبارة “القدّيسين الذين خطئوا”.
لقد وصل بنا الانحدار إلى حيث ندعو هازئين كلّ أخ ورع قدّيساً. نعم أنتم قرّائي جميعاً قدّيسون لأنّنا دُفنّا معه في الموت ولأنّ شفاهنا لامست جسده المقدّس ودمه الكريم. وهذا ليس أجراً لنا بل نعمة وهذا افتخار ليس بذواتنا بل بفادينا لأنّنا به قدّيسون.
الحياة في الله تُحدث تحوّلاً في النفس وكشفاً لله. هي أن نذوق وننظر ما أطيب الرّبّ، وقد تكلّم العهد القديم عن العرس الإلهي بين الرّبّ والنّفس البشريّة ولكنّ العهد الجديد قلّما يتكلّم عن هذه الأحوال، ومهما يكن من أمر فالمواضيع الكتابيّة التي تتكلّم عن هذا الاتحاد السّرّي غريبة عن كلّ ما يمتّ إلى الصّدمة النّفسيّة والانفعال والطّرب. وإذا ما تحدّث بولس الرّسول أو يوحنّا اللاهوتي عن الاتحاد الإلهي نرى أنّ ما يطلبان هو هذا الكائن المتعالي الذي يتمّ الاتحاد به غير مكترثين بالنّتائج النّفسيّة والملذّات الرّوحيّة في الكيان البشري. وعلى هذا النّهج سلك الآباء القدّيسون في الشّرق، فوضعوا أسس الوصول إلى الله ولم يهتمّوا بالواصل بمقدار اهتمامهم بمن نصل إليه وعلى الغالب لم يقولوا عن أنفسهم شيئاً. إنّ حياتهم الذّاتيّة لم تكن عندهم ذات شأن. الأصل ليس من يحيا بل من تحيا معه. يقول العامّة عندنا آمن بالحجر تبرأ. هذا خطأ فادح لأنّ الإيمان ليس بما يجري في نفسك من ظاهر وتأثّر وليس المهمّ الذّات التي تؤمن بل موضوع إيمانك كما يقول الفلاسفة. ليس السّؤال إذاً أتؤمن بل بماذا تؤمن فلا تقاس القداسة بالاختبار الدّيني أو بالشّعور. يجب أن نحترز من نظريّات الاختبار التي روّجتها منذ بضع عشرات من السّنين بعض الأوساط البروتستانتيّة، ذلك لأنّ الحياة المسيحيّة تصطحب كثيراً ما يسمّونه حالة الجفاف الرّوحي فيكون المؤمن كخشبة خالياً من أيّ شعور أثناء الصّلاة وكثيراً ما يكون الجفاف الرّوحي نعمة من الله. فلكي نعرف ما هي القداسة يجب أن ننطلق لا من موجاتنا الرّوحيّة وتقلّباتنا الدّاخليّة بل من المسيح القدّوس وحده إذ لا يستطيع أحد أن يبني على غير الأساس الموضوع.
القداسة هي اشتراك بموت الرّبّ وقيامته، إكمال للمعموديّة، دخول في حادث الفداء وسرّه. غير أنّ المسيح صعد إلى السّماء وهو حيّ لله. ولذلك تكون الحياة في المسيح حياة في الله. “في المسيح” عبارة لها معنى مكاني عند بولس الرّسول. الاتحاد بالمسيح ليس ذا معنى نظري ولكنّ المسيح مركز واقعي حقيقي. أن نحيا في المسيح منذ المعموديّة هو بالتّالي أن لا نحيا في ذواتنا، في جوّنا، بل في ذات المسيح الجالس عن يمين العظمة. إنّها غير حياتنا على الأرض. ليس المسيح إذاً غاية حياتنا وكفى ولكنّه أيضاً حياتنا ذاتها فهو يحيا فينا بالرّوح القدس.
الحياة المسيحيّة معطاة لنا بالمعموديّة ولكنّها مستترة مع المسيح في الله ولن تُعلن بكمالها إلا عندما نظهر مع المسيح في المجد. القداسة المعطاة لنا تدفعنا نحو الزّمان الأخير والملكوت الآتي. هذه الحياة الجديدة تتحقّق أثناء وجودنا على الأرض ولكنّها توتّر دائم. لقد متنا للجسد ولكنّنا لا نزال نحيا في الجسد. لقد تحرّرنا غير أنّ قّوّات الجحيم لم تخضع بعد. إنّ ظفر المسيح قد تمّ وهو ظافر إلى الأبد ولكنّ العدوّ في تقهقره لا يزال يرمي آخر سهامه. وبعد أن لبسنا المسيح بالعماد يبقى علينا أن ننمو فيه في الكنيسة. ولكن لنا اليقين ومنه لنا فرح لن ينزع منّا أنّ يسوع قابض على زمام هذا النّمو. نحن عالمون نقطة انطلاقنا ونقطة وصولنا بالرّجاء وعالمون ألفنا وياءنا. ومع ذلك يجب أن نعلم أيضاً “أنّ الذين يركضون في الميدان جميعهم يركضون ولكنّ واحداً يأخذ الجعالة. هكذا اركضوا لكي تنالوا” (1كو 24:9). ” أمّا الذي يركض فإنّه يتدرّب على أن يقمع جسده ويستعبده” (1كو 27:9) وهو يجاهد من أجل الله والإخوة. القداسة هي رسالة الله للنّاس بواسطة نفس محبّة له ولهم. إنّها ارتداد النّفس إلى الله وصعود وانفصال عن العالم وسكنى في ديار الرّبّ. منذ يصبح الله كنزنا يكون قلبنا عنده. وهذا حادث من حوادث الحياة الرّوحيّة إنّنا نستطيع أن ننظر إلى الله بعينين جديدتين. هناك وقت في حياتنا نفكّر فيه للمرّة الأولى بالله حقيقة ونكتشفه ونعرفه. وقد لا يأتي هذا الوقت عند كثيرين فكيف نستطيع الرّقاد؟! وكلّما تسلّقنا سلّم معرفته تعالى يتّضح لنا شقاؤنا وضعتنا، ويجب عندئذ أن نغتسل بدموعنا وأن نلبس مسوح التّوبة والخضوع والانسحاق، وإذا توصّل أحد أن يسحق كلّ شهوات الجسد يجرّبه الشّيطان بالكبرياء، ولكنّ المؤمن لا يستطيع إلا أن يقول مع الرّسول “ليس في جسدي شيء صالح”. إنّه يرتاب بنفسه وبقوّته لا بل إنّه لا يثق إلا بالمخلّص. يجب أن نتأكّد من شيئين من حقارتنا ومن ضعفنا أوّلاً ومن عظمة الله ومن قوّته ثانياً. وإن فهمنا أنّنا لسنا بشيء وأنّه الكلّ نستطيع عندئذ أن نصرخ وأن نسأل هذا الكلّ أن يملأ هذا العدم. عندئذ لا نطلب سوى جمال بيته ولا يهمّنا إلا أن نكون حيث يكون.
القداسة التي نلناها بالمعموديّة تزداد بمقدار تعلّقنا بذاك الذي قال عنه عظيم من العظماء في معرفته (باسكال): “إنّه لم يأت باختراع ولم يكن ملكاً لكنّه كان متواضعاً، صبوراً، قدّوساً لله، مرهباً للشّياطين، بغير خطيئة”.