الحشمـــة
للأستاذ جورج خضر (مطران جبل لبنان الحالي)
أعدّتها للنشر راهبات دير مار يعقوب المقطّع – دده – الكورة
في جنّة عدن “كانا كلاهما عريانين آدم وامرأته وهما لا يخجلان” (تكوين 25:2) ولكن بعد ارتكابهما الخطيئة “انفتحت أعينهما وعلما أنّهما عريانان فخاطا أوراق تين وصنعا لأنفسهما مآزر” (تكوين 7:3). إنّ نوع الخطيئة غير محدّد في الكتاب وليست على الغالب خطيئة جنسيّة لأنّ الله أعدّ حوّاء لآدم منذ البدء. إنّ الكتاب المقدّس لا يعرف طريقاً للتّناسل غير التي نعرفها نحن ولذلك قول بعض الآباء كغريغوريوس أسقف نيصص بأنّ قانون التّناسل الجسدي ناتج عن الخطيئة قول لم تعتمده الكنيسة وبقي رأياً حرّاً. فهو لا يستند إلا لكون الحمل بقايين حصل بعد الخروج من الفردوس. هذا لا يعني أنّ طريق التّناسل الجنسي لم يكن بمقاصد الله. إنّ اهتمام الكاتب الملهم ليس بنوع الخطيئة بل بتحديد ماهيّة الخطيئة على الإطلاق. “قال الله لا تأكلا منه ولا تمسّاه لئلا تموتا. فقالت الحيّة للمرأة لن تموتا. بل الله عالم أنّه يوم تأكلان منه تنفتح أعينكما وتكونان كالله عارفين الخير والشّرّ” (تكوين 4:3-5). الخطيئة هي أن يحسد الإنسان مكانة الله وأن يشتهي الألوهة لنفسهن أن يفلت من قبضة الله تعالى فيصير لنفسه سيّداً غير خاضع لأوامره تعالى. الخطيئة هي أن يستقلّ الإنسان عن الله ولو لحظة واحدة استقلال الله عن كلّ ما هو دونه. الخطيئة هي أن تدع الله جانباً لتكون ما تريد أن تكون. كلّ خطيئة هي إعلان استقلالك عن النّعمة. هي أن تشتهي تحقيق نفسك دون معونة الله. هي أن تصبح إلهاً بغير الله. وكلّ مخالفة أكذباً كانت أم زنى أم كبرياء تعود إلى الانسلاخ عن رحمة الله وإلى التّصرّف الذّاتي المتفرّد. إنّ أبوينا الأولين علما أنّهما عريانان قبل أن عرف آدم حواء لأنّ الخطيئة فتقت غرائزهما كلّها وأثّرت في الجسم كما أثّرت في الأرض نفسها: “شوكاً وحسكاً تنبت لك” (تكوين 18:3). إنّ الغريزة الجنسيّة بحد ذاتها هبة من مواهب الله والجسد كلّه مقدّس وأعضاؤه كلّها مقدّسة (1كو23:12-25) غير أنّ الخطيئة الجديّة أعطت هذه الغريزة حدّة وجموحاً فأضاع الإنسان الانسجام الأوّل الذي كان يربط روحه وجسده. الكتاب يتكلّم إذاً عن ثورة الجسد وعن اللباس على أنّه معرفة لهذه الثّورة وحدّ لتسرّبها إلى الآخرين. والإنسان يرتدي ثيابه ما دام خارج الفردوس أمّا إذا عاد إليه بالمعموديّة فإنّه ينتزع ثيابه ولذلك كان التّعرّي الكامل طقساً من طقوس العماد. إنّ الكنيسة تحيا بعض الهنيهات من الفردوس والملكوت المقبل ولذا تأمر المزمعين على العماد صغاراً وكباراً بالعري ولكنّها لا تجهل أنّ الخطيئة الجديّة وإن غُفرت إلا أنّها لا تزال فاعلة في النّاس. الفداء كعمليّة جراحيّة شفى المريض إلا أنّ الجرح الذي خُتم يتفتّق من حين إلى آخر ولا يسلم الإنسان من الجرح قبل اليوم الأخير. اللباس رمز للخطيئة التي لا تزال نتائجها فينا مع أننا شفينا وهو معرفة أنّ هذا الجسد المقدّس بأسرار المعموديّة ومسحة الميرون والقربان المقدّس والذي أضحى هيكلاً للرّوح القدس لا يزال مبعثاً للشّكوك. ولذلك كان اللباس وسيلة للتّخفيف من حدّة الغريزة عند الآخرين.
فقضيّة الثّياب خاضعة للأخلاق المسيحيّة كأمر يخصّ الجسد. ليست الكنيسة دائرة شرطة لتراقب الأزياء وتعيّن المقادير ولكنّ الذّوق السّليم لكافٍ بأن يجمع المرء بين زيّ جميل ومتطلّبات الحشمة. ينبغي أن تدرك الفتاة والمرأة المسيحيّة أنّها تساهم في بنيان صرح العفّة إذا كانت محتشمة المظهر. لو أدركت قداسة الجسد وقداسة العين لقاومت كلّ ما من شأنه أن يسيء إلى هذه القداسة. إنّ شهادة مسيحيّة خاصّة يجب أن تعطيها أمهاتنا وبناتنا وأخواتنا في هذا المضمار إن بقي للطّهارة من معنى في حياتنا. ألا تستطيع نعمة المسيح فينا أن تقف بوجه هذا التّحدي الصّارخ الذي تتحدّانا به قوى الشّرّير المضادة؟ هل نأخذ الجسد بعين الاعتبار والجدّ ونخرج على هذا “الجيل الفاسق السّرّير” وعلى مدنيّة مزيّفة تصدها إلينا أمم في طور انحلالها وقبولنا إيّاها على علاتها دليل أيضاً على أننا سائرون على درب هذا الانحلال.
المؤسف إنّ المسحيّين الذين يقدّس إنجيلهم العفّة بصورة لا تعرفها كتب أخرى والذين يمجدّون قدّيسين تغلّبوا على الجسد غلبة كاملة هم الذين يرتدون الثّياب المخلّة بالآداب. هم الذين أنتجوا الرّقص المثير في حين أنّ الهند أبدعت رقصاً دينيّاً. لماذا نقلّد الغرب بانفصاله عن أركانه المسيحيّة ولا نحاول أن نجد الأزياء التي توافقنا إن كان لا بدّ من أزياء. إنّ اللباس النّسائي الهندي أجمل من اللباس لأوروبي بغير قياس والنّساء الهنديّات ذوات الثّقافة العليا واللواتي يعشن في أوروبة لا يرتدين الأزياء الأوروبيّة. لماذا تكون أوروبة وحدها منبعاً لتفكيرنا وعاداتنا!! هذه العادات الغربيّة الحديثة التي اقتبسناها إنّما أخذناها عن بلاد ابتعدت عن تراثها الأصيل. على المؤمن أن يتحرّر من مدنيّة أفروديت هذه وحياته شاذّة بالنّسبة للعصر الحاضر، وحياته شاذّة دوماً إذا لم يألف كلّ شيء في المجتمع الحاضر. والمسيحي لا يستطيع أن يألف كلّ شيء.
إنّ المبدأ الذي يسوس هذه القضيّة لا يزال مبدأ المحبّة والمحبّة تقضي ألا تثير ملابسي اضطراباً في نفوس النّاس والمسيحي لا يمكن أن يكون ساذجاً بحيث لا يعلم ذلك. المسيحي لا يكتفي ببنيان نفسه بل يبني الآخرين. لذلك ينبغي أن تضحّي المرأة المسيحيّة بالزّي غير المحتشم في سبيل الرّلفة بالضّعفاء.
يقول الآباء القدّيسون إنّ على المؤمن أن يتغلّب أوّلاً على التّجارب التي تأتيه من الحواس حتى ينصرف إلى محاربة الأهواء الدّاخليّة. إذا واجبي كمسيحي في هذا الباب ألا يكون في مظهري ما يثير التّجربة. وبذا أساعد النّاس على الانصراف إلى محاربة الشّهوات التي تأتيهم من النّفس أي أنّي أساعد على تحقيق ملكوت الله.
قال الفيلسوف الرّوسي العظيم فلاديمير سولافيوف: “لا يمكن أن نحتفظ لموقف الخضوع للواقع إذ يكون علينا أن نخضع للطّاعون والكوليرا! وهما من الوقائع. إنّ كرامة الإنسان كلها هي بالمكافحة الواعية لواقع سيء في سبيل واقع أفضل. إن سؤدد المرض واقع ولكن الصحة هي الغاية التي نهدف إليها. إن وسيلة الانتقال من الواقع السيئ إلى غاية فضلى هو علم الطبابة. وفي الحياة العامة للإنسانية سؤدد الشر والخصام واقع ولكن الغاية المبتغاة هي ملكوت الله!!
لا يمكن أن نيأس من قضية الحشمة في الوسط المسيحي في هذه البلاد. أقول هذا خجلاً لأن البيئة المسيحية هي وحدها التي تخالف العفة في اللباس. أيا كان سبب الحشمة خارج المسيحية جدير بنا أن نصير إلى هذا المظهر من العفة بملء حريتنا في سبيل ملكوت المسيح.
عن مجلّة النّور لعام 1952