المثلث الرحمات المطران جراسيموس مسرة اللاذقي
ميتروبوليت بيروت وتوابعها
إعداد: ميلاد جبارة وفادي بشور
يشغلنا في الكنيسة الأرثوذكسية الأنطاكية هذا الجهل العام المستشري في عقول وقلوب رعاياها، حول أشخاص مرموقين برزوا في تاريخها الحديث، فبدأنا منذ عامين مع المثلث الرحمات المطران غريغوريوس جبارة راعي أبرشية حماة، واليوم نتابع مع المطران جراسيموس مسرة فخر أبرشيتي اللاذقية وبيروت وأول إكليركي عربي نال شهادة الدكتوراه في اللاهوت. وكلنا أمل في أن يسعى السعاة إلى ملء هذا الفراغ في الوجدان العربي بسير وقصص عن أولئك الذين أناروا في يوم من الأيام سماء أنطاكية، لعلها تكون نافعة لأجيال ما فتئت تجهل أن لها تاريخاُ في هذه الأرض العريقة. (المعدّ)
من مواليد مدينة اللاذقية في الجمهورية العربية السورية، حالياً، في 18/5/1858 ودعي جرجي مسرَّة، والداه اسبيريدون مسرة وحنة ميخائيل عطا الله، استنشق فيه المطران ملاتيوس الدوماني راعي أبرشية اللاذقية آنذاك نسيم أمل، فدعاه لتكريس نفسه للرب ولخدمة كنيسته فترك جرجي بيت أهله في صيف عام 1873م والتحق بالمطران ملاتيوس في دار المطرانية الذي وشحه بالاسكيم الرهباني في عيد الميلاد من تلك السنة ذاتها داعياً إياه جراسيموس.
أرسله المطران ملاتيوس إلى مدرسة خالكي اللاهوتية قرب مدينة استنبول في تركيا سنة 1875 وهي مدرسة لاهوتية تابعة للبطريركية المسكونية لدراسة اللاهوت ولمّا عاد في إجازة سنة 1879 سامه المطران ملاتيوس شماساً إنجيلياً في عيد التجلي، وبعد ذلك عاد ليتم دروسه في خالكي ونال شهادتها موقعة من مدير المدرسة ومصدَّقة من غبطة البطريرك المسكوني يواكيم الثالث، وعاد أدراجه إلى اللاذقية وقام بخدمة كنيستها إلى أن دعاه البطريرك الأنطاكي ايروثيوس إلى إدارة القلم اليوناني في الدار البطريركية في دمشق، وبعد البطريرك ايروثيوس، سماه البطريرك جراسيموس في أحد العنصرة من السنة 1886 “واعظ الكرسي الأنطاكي”
سنة 1888 دعاه البطريرك الإسكندري لخدمة كنيسة السوريين في الإسكندرية فسامه البطريرك الأنطاكي كاهناً فأرشمندريتاً في 21 تشرين الثاني من السنة ذاتها، وفي آذار 1889 جعله البطريرك الإسكندري صفرونيوس (1) معلماً للاعتراف في كنيسة القديس مرقس، وفي حزيران من السنة 1900 انتخبه المجمع الأنطاكي المقدس راعياً لأبرشية حلب ولكنه لم يلب الدعوة “لأسباب صحية” وبعد الأزمة البطريركية التي عصفت بالكرسي الأنطاكي وانتخاب المطران ملاتيوس الدوماني بطريركاً على مدينة الله أنطاكية العظمى، انتقل إلى رحمة الله المطران غفرائيل شاتيلا راعي أبرشية بيروت ولبنان ولاتساع هذه الأبرشية وبعد طلب من أبنائها قرر المجمع المقدس قسمها إلى أبرشيتين انتخب على الأولى وهي أبرشية جبيل والبترون (2) الأرشمندريت بولس أبو عضل كاتب المجمع المقدس وانتخب على الثانية الأرشمندريت جراسيموس مسرة رئيس كنيسة السوريين في الإسكندرية راعياً لأبرشية بيروت الجديدة التي ورثت اسم الأبرشية القديمة في 28/3/1902 وأبرق غبطته إلى المنتخب يعلمه بأمر الانتخاب ويأمره بالمثول سريعاً لإجراء اللازم
أبرق الأرشمندريت جراسيموس بالقبول والخضوع فسافر بحراً من الإسكندرية إلى بيروت ومنها إلى دمشق فاستقبله على مداخلها وفد بطريركي برئاسة الأرشمندريت أفرام الدبس (3) المنتخب حديثاً مطراناً على أبرشية عكار وقام الوفدان البيروتي الذي أتى مع المطران المنتخب والبطريركي الذي استقبله على مداخل دمشق إلى الدار البطريركية فلثم جراسيموس يد غبطة البطريرك معلمه وصافح السادة المطارنة وأعلن خضوعه واستعداده لخدمة كنيسة أنطاكية فأجابه غريغوريوس (4) ميتروبوليت طرابلس بخطبة بليغة أعرب فيها عن سرور المجمع المقدس بقدومه.
احتفل البطريرك ملاتيوس في 16 أيار من السنة 1902 مع المطارنة بسيامة جراسيموس مطراناً على بيروت، وخلال الخدمة تلى المطران جراسيموس خطبة بليغة اعترف فيها بفضل غبطة البطريرك عليه فقال فيها: ” لقد لاق بك أيها السيد الجزيل الغبطة، لقد لاق بك أن تكون أنت القائم بهذا العمل المقدس، لقد لاق بك أنت دون سواك أن تكون المتمم كما كنت البادئ، لقد لاق بهذه اليمين المباركة أن ترتبني في مصف الرؤساء في خدمة الكهنوت كما رتبتني في بادئ الأمر فيها وأدخلتني إليها، وليس لي الفخر بهذا كله، بل الفخر لك أنت الأب والمربي والمعلم والمهذب والمؤسس والباني”. ولقد كان السباق في الدعوة إلى وجود كهنة متنورين ومتعلمين إذ قال في ذات الخطبة: “…المدارس العالية التي ترقي العقل بالعلوم العقلية وبالفنون الأصولية وتوجد في الملة حياة واستعداداً لسد كل احتياج عند اللزوم، فالكاهن المتنور المستعد والمدرسة الطائفية المجهزة بكل لوازم العلوم هما العنصران اللذان يحفظان مركز الطائفة ويرقيانها إلى أوج النجاح”.
بعد وصول جراسيموس إلى بيروت مركز أبرشيته بخمسة عشر يوماً أي في 2/6/1902 جرى انتخاب المجلس الملي الجديد وقضت واجبات هذا المجلس بالبحث والنظر في كل ما يقع على الطائفة من أمور والمشاكل والمحافظة على حقوقها ضمن الناموس الكنسي والقوانين المرعية في السلطنة العثمانية آنذاك.
في بيروت، رمم كاتدرائية القديس جاورجيوس في ساحة النجمة وأنشأ سوقاُ لها، وجدد دار المطرانية فجعلها من أفخم المباني، وأنشأ مشفى مار جرجس بدلاً عن المشفى القديم في طريق النهر، وجدد بناء كنيسة القديس ديمتريوس ونظم مقبرتها، وبنى الطابق الأول من مدرسة السلام.
توفي البطريرك ملاتيوس الثاني في 25كانون الثاني من السنة 1906 أي بعد أقل من أربع سنين على سيامة جراسيموس مطراناً على بيروت، فشارك جراسيموس في جنازة معلمه ومرشده إلى جانب كل من: أثناسيوس (حمص)، غريغوريوس (حماة)، بولس (جبل لبنان)، جرمانوس (زحلة).
في 20/4/1906 عقد المجمع الأنطاكي المقدس جلسة الترشيح القانوني فجرى الترشيح ونال الأكثرية كل من أثناسيوس (حمص) وغريغوريوس (طرابلس) وفي 5/4/1906 عقد المجمع جلسة برئاسة القائمقام البطريركي المطران أثناسيوس ومشاركة: غريغوريوس (حماة)، غريغوريوس (طرابلس)، أرسانيوس (اللاذقية)، بولس (جبيل والبترون)، جراسيموس (بيروت)، باسيليوس (عكار)، إستفانوس (حلب)، ألكسندروس (ترسيس) وخلال الجلسة تم انتخاب مطران طرابلس السيد غريغوريوس حداد بطريركاً على أنطاكية وسائر المشرق وكان من المرشحين أيضاً: غريغوريوس (حماة)، وجراسيموس (بيروت) والذي كان المطران المنتخب بطريركاً قد صوَّت له.
وفي احتفال تنصيب البطريرك الأنطاكي الجديد أجاب راعي بيروت المطران جراسيموس غبطة البطريرك على خطابه نيابةً عن هيئات الإكليروس والشعب فوصف سرور الكنيسة الأنطاكية براعي رعاتها الجديد وأظهر ما تعلقه الكنيسة عليه من آمال وما تنتظره من حكمته وحزمه.
في منتصف حزيران سنة 1906 حظي جراسيموس بفرمان سلطاني خوله حق إنشاء مدرسة أرثوذكسية للطائفة فذهب إلى دار السراي الحكومية وأدى مراسم الشكر ودعى بتأييد العرش السلطاني.
دافع المطران جراسيموس ذات يوم عن أحد المواطنين أمام رئيس شعبة العسكر في بيروت، ودارت بينهما مجادلة اعتبرها حسني بيك رئيس الشعبة مساً بكرامته، فرفع شكواه إلى جمال باشا السفاح الذي أصدر أمراً بنفي المطران جراسيموس إلى داخل سورية ثم اكتفى بناء على وساطة البطريرك الأرثوذكسي غريغوريوس الرابع بأن يقيم في دير سيدة البلمند ولكن صدر أمر آخر بعد فترة بناءً على وشاية بأن ينقل إلى دير القديس جاورجيوس في قضاء الحصن، فسالت من عيني المطران دمعة رآها أحد المخلصين له فتوسط له عند القيادة التي تعلم أنه مخلص لبلده يحمل منها أرفع الأوسمة وأنه نال دائماً الرضى من الولاة في بيروت والشام.
في عام 1923 أرسله البطريرك غريغوريوس الرابع إلى الولايات المتحدة ليرأب الصدع في رعايانا هنالك عن انتخاب أسقف أنطاكي موالي لروسيا فأعلن جراسيموس من هناك باسم المجمع المقدس أن الجاليات العربية كلها يجب أن تقع تحت دائرة سلطة بطريركية أنطاكية وفي عام 1924 انتخب المجمع المقدس فكتور أبو عسلي ميتروبوليتاً على أمريكا.
أصبحت بيروت بعد دخول الفرنسيين إلى سورية ولبنان مركزاً لسلطة الانتداب فاكتظت بالسكان وتنوعت مهام ميتروبوليتها الطيب الذكر جراسيموس وكان قد تقدم في السن وانتابه المرض فرأى من الواجب أن يرقي نائبه الأرشمندريت إيليا الصليبي (5) إلى رتبة الأسقفية وهو المتميز بصوت رخيم وترتيل وقور وبالاستمساك الشديد بالتقاليد الأرثوذكسية وبالدراية والحكمة وبشخصية بارزة تستوجب الاحترام. فوافق المجمع الأنطاكي المقدس على اقتراح المطران جراسيموس وسيم إيليا أسقفاً معاوناً لراعي أبرشية بيروت في 5/4/1926
بعد وفاة المثلث الرحمات غبطة البطريرك غريغوريوس، اشترك مع المطارنة في انتخاب مطران اللاذقية آنذاك أرسانيوس بطريركاً (كما سنورد في سردنا لاحقاً لحياة أرسانيوس) ثم في الاعتراف النهائي بألكسندروس طحان بطريركاً تحت اسم ألكسندروس الثالث بعد تنازل البطريرك أرسانيوس وإتمامه لعمله كمطران على اللاذقية.
توفي الميتروبوليت جراسيموس مسرة بعد شيخوخة صالحة في شباط من العام 1936 في الثامنة والسبعين من العمر ودفن في احتفال شعبي لائق عزَّ نظيره
مؤلفاته
لقد كان الشغل الشاغل لهذا المعلم اللاهوتي هو خدمة الكنيسة الأرثوذكسية الأنطاكية تأليفاً وتعريباً فنشر العديد من الكتب منها: الأنوار في الأسرار، وهو كتاب شرح فيه أسرار الكنيسة السبعة شرحاً جيداً ، وكتاب تاريخ الانشقاق، وهو كتاب ضخم في ثلاثة مجلدات يعرض فيه أسباب الانشقاق الكبير بين الكنيستين الأرثوذكسية والكاثوليكية أو ما سماه هو الافتراق عن الكنيسة الأرثوذكسية، ووضع أيضاً كتاب التيبكون وخدمة الكاهن وخدمة رؤساء الكهنة وخدمة الشمامسة ووضع كتابي: النفحة البلمندية في العقائد الأرثوذكسية، وفلسفة العقائد الأرثوذكسية وهما مخطوطان لم يطبعا بعد ونقل كتاب اسحق الكندي من العربية إلى اليونانية ونقل من اليونانية كتاب البيانات الجلية ومنشور المجمع القسطنطيني.
الخاتمة
هذه سيرة أب من كبار آباء الكرسي الأنطاكي المقدس في النصف الأول من القرن العشرين، معلم تعب ليعلم الأرثوذكسية لهذا الشعب العطش إليها، أستاذ من أساتذة الفكر الأرثوذكسي وعمود للكنيسة الأرثوذكسية غير متزعزع، ابناً باراً لأبرشية اللاذقية، وأباً باراً لأبرشية بيروت، منارة لأجيال من الأرثوذكسيين في هذه الديار ومحجةً لغيرهم في تصحيح الاعوجاج.
نرجو أن تكون هذه السيرة مفتاحاً ليبدأ بها الشباب سيرة حسنة في تكريس ذواتهم للرب، ويتمثلوا بصاحب السيرة نبراساً أرثوذكسياً في وجه الهرطقات التي تعترينا.
المراجع
1. د. أسد رستم، كنيسة مدينة الله أنطاكية العظمى، ج 3، منشورات النور
2. النشرة البطريركية. السنة السادسة عشر. العدد السابع، 2007، مقال لعيسى فتوح حول المطران جراسيموس، ص 12
3. مجلة النور، مقال أنطاكيا في أمريكا الشمالية، للأب د.ميشال نجم، السنة 59، العدد 7
4. مجلة السراج، العدد الثالث، آذار 2003
حواشي
(1) وهو نفس البطريرك الإسكندري الذي سام نكتاريوس كيفالاس مطراناً على المدن الخمس ومن ثم طرده إلى اليونان وتوفي فيها نكتاريوس سنة 1920م وأعلنت كنيسة القسطنطينية قداسته في 1960م. راجع: القديس نكتاريوس العجائبي، أسقف المدن الخمس، سوتوس خوندروبولوس، تعريب رهبنة دير الحرف، 1999
(2) توالى على هذه الأبرشية ثلاثة مطارنة هم: المطران بولس أبو عضل، المطران إيليا كرم، المطران جورج خضر وهو الراعي الحالي (إلى سنين عديدة)
(3) سيم مطراناً على عكار تحت اسم باسيليوس
(4) هو البطريرك الأنطاكي غريغوريوس الرابع وانتخب بطريركاً بعد وفاة البطريرك ملاتيوس الثاني وللمزيد راجع سيرته المنشورة في القديسون المنسيون في التراث الأنطاكي للأرشمندريت توما بيطار، 1995
(5) سيم راهباً على يد المطران غفرائيل شاتيلا وسامه جراسيموس شماساً سنة 1907 وبعد وفاة البطريرك غريغوريوس رقي إلى رتبة رئيس أساقفة سنة 1929 وفي 29 أيلول 1936 انتخب راعياً لأبرشية بيروت خلفاً لمعلمه جراسيموس على يد البطريرك ألكسندروس الثالث وهو عم المطران غفرائيل الصليبي مطران أوروبا الغربية الذي رقد بالرب في باريس 2007