X

بحث في التراث الأرثوذكسي

القدّيس يوسف الكريتي الملقَّب بالشّيخ يوحنّا

إعداد راهبات دير القديس يعقوب المقطّع – دده، الكورة

وُلد الشّيخ يوحنّا سنة 1799 في إحد الأديار المهجورة الخربة الواقعة في الطّرف الجنوبيّ الغربيّ من جزيرة كريت، حيث كان أهله مختبئين خوفاً من مهاجمة الأتراك لهم.

لم ينل يوحنّا وسط هذه الظّروف الصّعبة القسط الوافر من العلوم. لكنّه تمكّن من حفظ الكثير من الخدم الكنسيّة غيباً. إلا أنّ طبعه الحادّ الجانح إلى التّذمّر والغضب، جعله ينسى شيئاً فشيئاً حياة التّقوى التي كان يمارسها في صغره. وعندما كبر وشبّ، اضطر ذووه أن يرسلوه للعمل خارج القرية، وبعيداً عن المنطقة التي كانوا يسكنون فيها، تحاشياً للمشاجرات التي كانت تحدث بينه وبين سكّان القرية الأتراك.
لكنّ هذا التّدبير، لم يليّن نفس يوحنّا القاسية ولم يغيّرها، بل على العكس، فقد غدا أكثر حدّة، عصبيّ المزاج، قاسي الطّباع. حتّى بعد زواجه، باءت بالفشل كلّ مساعي امرأته التي حاولت جاهدة في إصلاحه وتقويمه.
وفي يوم من أيّام الآحاد، ذهب يوحنّا كعادته ليبيع وسق الحطب في القرية، مستصحباً امرأته معه، التي لم تفلح محاولاتها في إقناعه باحترام يوم الرّبّ. ولكنّه حدث ما لم يكن في الحسبان!! إذ ما إن عاد إلى البيت، حتّى فوجئ بموت ابنته الصّغيرة حرقاً على البيدر أمام المنزل. لقد اهتزّت كلّ مشاعره، وارتعدت فرائصه من هذا الحادث المؤلم المفجع، الذي ترك في نفسه أثراً بليغاً، غيّر كلّ مجرى حياته تغييراً جذريّاً.
نعم، لقد عاد يوحنّا يعيش في القرية كغيره من السّكّان. إلا أنّ النّعمة الإلهيّة، التي شقّت لها في نفسه أثلاماً عميقة، حوّلته من إنسان قاسي الطّباع، شرس الأخلاق، فظّ المزاج، إلى رجل ملأت الوداعة والمحبّة والتّقوى قلبه، حتّى أصبح وفي وقت قصير المثال المحتذى لشبّان القرية وكهولها.
لقد رُوّيت أرض نفسه من مجاري دموعه التي كانت تنهمر بغزارة لتبلّل وجهه، وتمحق عن نفسه ظلام الخطيئة واليأس. فأثمرت تلك النّفس الطّيّبة ثمار الفضائل المسيحيّة السّامية، التي أخذت تؤثّر تأثيراً حسناً في قلوب المؤمنين، حتّى جعلت منه قدوة صالحة للقاصي والدّاني.
وفي أحد أيّام عام 1841، وقع على يوحنّا سُبات عميق دام أكثر من 40 ساعة. وفور نهوضه من هذا السّبات، تمكّن بقوّة الرّوح القدس من أن يشفي امرأة مشلولة. أخذ العجب الجميعَ، فانهالوا عليه بوابل التّساؤلات والاستفسارات عمّا رآه وكيف تمكّن من شفاء المرأة؟! فشرع يسرد لهم معبِّراً ببساطة كيف اقتيد من الملائكة إلى حقل رائع الجمال، مزيَّن بكلّ أنواع الأزهار الفوّاحة الزّكيّة الشّذا، حيث شاهد المنازل المنيرة والجميلة المعدَّة للمختارين والمجاهدين، وكيف عاين أيضاً أماكن العذاب حيث يعاقَب المدانون والمذنبون.
بعد هذه الرّؤيا، ملأت النّعمة الإلهيّة نفس يوحنّا، وصارت تتدفّق من فم هذا الإنسان الأميّ الجاهل، مجاري التّعاليم الرّوحيّة، كما أجرى الله بواسطته عجائب شفاء لا تُحصى. فأخذت تتسارع إليه وفود المؤمنين من كلّ ناحية ومنطقة، تطلب بركته وصلواته، حتّى أثارت تجمّعاتهم غضب السّلطات التّركيّة.
إنّ رجل الله هذا، الذي أصبح الجميع ينادونه، وبكلّ احترام، بالشّيخ يوحنّا، قد استُدعي، ولثلاث مرّات، ليمثل أمام الحاكم التّركيّ الذي تهدّده بالسّجن والنّفي والتّعذيب. لكنّ السّلطات ما عتمت أن تركته وشأنه بعد أن شفى ابن الباشا بصلواته من مرض عضال.
أمّا إيلاريون أسقف المنطقة، فقد كان له أكثر من مأخذ على الشّيخ يوحنّا، كما كان يؤثر أن يضع حدّاً لعجائب الشّفاء الحاصلة بواسطته، متّهماً إيّاه بالرّياء والخداع والمكر. واتّفق أن توقّف هذا الأسقف ذات يوم في المنطقة التي كان يقيم فيها الشّيخ يوحنّا. فرغب أن يتفقّد أمور الرّعيّة هناك، سيّما وأن جلبة تجمّع المؤمنين في بيت الشّيخ قد استرعت انتباهه. فغضب وحاول التّقدّم لكي يرى ما يجري. ولكنّ الفرس التي كان يمتطيها اهتاجت فجأة ولم تدعه يترجّل عنها. فما كان إلا أن تمّ استدعاء الشّيخ إلى حيث كان يوجد الأسقف المضطرب القلق. ولكنّ يوحنّا استطاع بكلماته اللطيفة المفعَمة حبّاً ووداعة، أن يعيد السّلام إلى نفس الأسقف، والهدوء إلى الحيوان أيضاً. فأدرك عندئذ الأسقف سموّ فضيلة الشّيخ، وتأكّد من قداسة سيرته، فعانقه وباركه ورحل طالباً صلواته.
بقي الشّيخ يوحنّا يستقبل الزّوّار مدة سبعة أشهر متتالية، شافياً أسقامهم الزّمنيّة والرّوحيّة، حتّى أُنهكت قواه وأُرهق، وخاف أن يبدّد المجد الباطل كلّ تعبه، إذ إن صيته انتشر في كلّ أصقاع المنطقة. فقرّر الاعتزال والتّوحّد في دير القدّيس يوحنّا المعمدان في منطقة كابسا، ذلك الدّير المهجور الذي كان في الماضي مسرحاً لطفولته، وأصبح في ما بعد مرتعاً لذكرياته حيث وُلد واعتمد وتزوّج.
أقام الشّيخ في خرائب ذلك الدّير المهجور، تاركاً عائلته يحتضنها الله تحت عنايته وحمايته، ولم يأخذ معه شيئاً سوى عصاً يستند عليها في تنقّلاته.
شاع عبير فضائله في كلّ مكان، فلم يهنأ طويلاً في خلوته، حيث السّكينة والهدوء التي طالما كان يتمناهما. إذ، وبالرّغم من صعوبة ووعورة المكان، أخذت تتقاطر إليه النّاس من كلّ صوب، طالبين صلواته، وملتمسين إرشاداته، حتّى رأى نفسه مرغَماً على ترميم بعض قلالي الدّير لاستقبال الزّائرين.
ثم ما لبث أن طلب البعض من أبنائه الرّوحيّين الانضمام إليه، واتباع طريقة حياته في الوحدة والسّكون. فقام يصلح ويرمّم خرائب الدّير في عمل دؤوب شاق ومرهق، حتّى انتهى من العمل عام 1863، حيث دُشنت الكنيسة الجديدة فيه، وحيث نال الشّيخ يوحنّا الإسكيم الرّهباني تحت اسم يوسف.
رغب القدّيس في التّوغل أكثر فأكثر في حياة الخلوة والصّمت مؤثراً الابتعاد والعزلة الكاملين. فأمضى في دير القدّيسة صوفيّا، الواقع على بعد عشرين كيلومتراً من كابسا، مدّة أربع سنوات، أي منذ عام 1866 حتّى عام 1870، لكنّه عاد فأكمل السّنوات الخمس الأخيرة من حياته في ديره الحبيب، أي دير القدّيس يوحنّا، حيث اعتكف على ممارسة حياة النّسك والتّقشّف، استعداداً لوقوفه أمام منبر الدّيّان العادل، الذي كشف له عن وقت انحلاله من رباطات هذا العالم، وانتقاله القريب إلى حيث انتفى كلّ وجع وتنهّد.
لم يعد يستطيع القدّيس يوسف استقبال الكثير من أبنائه الرّوحيّين، نظراً لوهنه وضعفه، حتّى أن صوته غدا خافتاً جدّاً، وأحياناً كثيرة لا يكاد يُسمع بسبب تقشّفاته ونسكه الشّديدين.
أمّا تعاليمه وإرشاداته فقد كانت تتمحور حول كيفية اكتساب الفضائل المسيحيّة التي أساسها وقاعدتها المحبّة “إذ بدون المحبّة، فكلّ شيء ناقص، وكلّ فضيلة باطلة” حسب قوله. كما كان يحثّ القادمين إليه على ممارسة حياة التّقوى والصّلاة الدّائمة، طالباً منهم الابتعاد، ما استطاعوا، عن العالميّات والالتصاق بالإلهيّات، مزكّياً قلوبهم بحرارة الإيمان والوفاء في الجهاد حتّى النّفس الأخير. ثم تنبّأ لهم عن المصائب والنّوائب التي سوف تحلّ في جزيرة كريت، بعد تعرّضها لثورة داخليّة، ونشوب معارك أهليّة فيها.
أخيراً، وبعد أن اقتاده الملاك مرّة ثانية، من خلال رؤيا سماويّة، لزيارة الأماكن المقدّسة والتّبرّك منها، رقد بالرّبّ رقود الأبرار في السّادس من شهر آب من عام 1874. وفي السّابع من شهر أيّار من عام 1982، تمّ العثور على بقاياه الكريمة، التي ما زالت حتّى اليوم مصدر عزاء وشفاء للمؤمنين وبركة كبيرة لسكّان المنطقة.
أمّا متى وكيف عُثر على بقاياه بالتّحديد، فإنّه مجهول التّاريخ والطريقة. وكذلك فإنّنا لا نعرف متى أُعلنت قداسته. ولكنّ جلّ ما وصلنا هو أنّ جزيرة كريت تعيّد له كشفيع حارّ وابن بارّ لها في السّادس من آب أي يوم وفاته. صلواته فلتشملنا أجمعين آمين.

admin:
Related Post