X

بحث في التراث الأرثوذكسي

المفهوم الأرثوذكسي للخطيئة: تأمل صيامي

الأب جورج موريللي


نقلها إلى العربية ناظم باسيل

نقرأ في الإصحاح الأول من التكوين أنّ الإنسان خُلق على صورة الله ودُعي ليكون على مثاله. الصورة، كما يقول آباء الكنيسة، هي بشكل رئيسي عقلنا وإرادتنا الحرة. “لأنه هكذا خلق الله العالم حتى يبذل ابنه الوحيد كي لا يهلك من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية” (يوحنا3: 16).

إذا كنا نلبس المسيح في المعمودية وننقّي أنفسنا باستمرار بالتوبة، حينذاك نستطيع أن نعكس نور المسيح. صلاتنا الدائمة هي: “يا رب يسوع المسيح، ابن الله، ارحمني أنا الخاطئ”. نحن خليقة، ليس لنا وجود مستقلّ. نعتمد على الله في كلّ شيء وبرحمته نستطيع أن نمتلك نور المسيح في داخلنا. هذه هي الحقيقة الروحية الملهَمة من ربنا يسوع المسيح نفسه والتي قيمتها لا تدرك.
يشير الميتروبوليت ايروثيوس فلاخوس (1994، 1998) إلى القيمة الإنسانية التي يمكن أن يمتلكها: “لقد قيل بأن الله له جوهر وقوة وهذا التمييز لا يبطل البساطة الإلهية. نعترف ونؤمن بأن النعمة الإلهية غير المخلوقة والإستنارة والقوة تنبعث بشكل غير منفصل من القوة الإلهية. وبما أنّه، حسب القديسين، قوة مخلوقة يعني جوهر مخلوق…. قوة الله غير مخلوقة. في الحقيقة، ليس الاسم الإلهي لجوهر الله وحده بل لقوة الله أيضاً. هذا يعني أنه في تعالٍ”
هذا واقع وحقيقة. استناداً إلى تعاليم القديس غريغوريوس بالاماس، يقول الأسقف إيروثيوس فلاخوس، أنّ هذا الاشتراك في قوة الله غير المخلوقة متوفر لنا “من خلال كرم الله للذين نقّوا نوسهم”. يدعو الأسقف إيروثيوس فلاخوس الكنيسة مستشفى إذ بإمكانها شفاء أسقامنا لتنقية نوسنا وتحقيق هذه الحياة في المسيح من خلال إتحادنا به.

الأهواء: الميول إلى الخطيئة

بعد السقوط أصبحنا معرضين إلى الخيارات الأنانية الموجهة بأهوائنا وشهواتنا بدلاً من الإختيارات التي تعتمد على المحبة. يقول القديس إسحق السرياني: “… الانقياد للجسد ينتج فينا إشارات مخزية وتصورات غير لائقة” (الآباء الأولين من الفيلوكاليا).

تنبع الأهواء من قلب الإنسان. قال لنا يسوع: “لأنه من الداخل من قلوب الناس تخرج الأفكار الشريرة، زنى، فسق، قتل، سرقة، طمع، خبث، مكر، عهارة، عين شريرة، تجديف، كبرياء، جهل. جميع هذه الشرور تخرج من الداخل وتنجس الإنسان”. (مرقس7: 20 – 23).
كتب الرسول بولس: “لأنه لما كنا في الجسد كانت أهواء الخطايا التي بالناموس تعمل في أعضائنا لكي تثمر للموت” (رومية 6: 5). عمل الأهواء يمكن حدوثه قبل الزواج أو بعد الاتحاد الزوجي. في كلا الحالتين، تقود الأهواء إلى اختيار التفرّد وإرضاء الذات بدلاً من وحدة الزواج البارّة.
تعرّض الأهواء الإنسان إلى شقاق وخلاف بينه وبين الله والبشرية. تنطبق تنبيهات القديس بولس على هجمات الشياطين على هذه الوحدة بين الله والأخ: “وأعمال الجسد ظاهرة التي هي: زنى، نجاسة، دعارة، عبادة الأوثان، سحر، عداوة، خصام، غيرة، سخط، تخرب، شقاق بدعة، حسد، قتل، سكر، بطر، وأمثال هذه التي أسبق فأقول لكم عنها كما سبقت فقلت أيضاً أن الذين يفعلون مثل هذا لا يرثون ملكوت الله” (غلاطية5: 19- 21). يردّ آباء الكنيسة كل هذه الخطايا إلى الشيطان الذي لا يتعبّ من فكّ وحدة الإنسان مع الله والجنس البشري.
مثال على ذلك لفهم الموضوع، قد يستولي شيطان الزنى على حياتنا، بحسب ما يقول آباء الكنيسة. يسهّل المجتمع المعاصر هذا المرض. الجنس موضوع لنشر في كل ما نحتاجه من ضروريات الحياة: الفن، الموضة، الموسيقى، الأخبار، (خاصة الإنترنت)، المبيعات من كل صنف من السيارات إلى الكومبيوتر. إن العالم الدهري يعرض الأعضاء البشرية بشكل مباح، وخاصة الأعضاء الجنسية.
عرف آباء الكنيسة عن هذه الإغراءات قبل ألف سنة. القديس إسحق السرياني يقول: “الأهواء تحضر إما بالصور أو بالأحاسيس بلا صور وبالذاكرة، التي في بادئ الأمر لا تكون مصحوبة بحركات شهوانية أو أفكار، لكن لاحقاً تؤدي إلى الإثارة”. ويتابع القديس إسحق السرياني أنّ إحدى الطرق لمعالجة هذه الأهواء هي في أن “… أفكارهم يجب أن تلتصق بلا شيء على الإطلاق سوى بنفوسهم”.
يجب أن يتم الاختيار بين المسيح والشيطان. يسأل الرسول بولس “من سيفصلنا عن محبة المسيح. أشدة، أم ضيق، أم اضطهاد، أم جوع، أم عري، أم خطر، أم سيف؟. فإني متيقن أنه لا موت ولا حياة ولا ملائكة ولا رؤساء ولا قوات ولا أمور حاضرة ولا مستقبلية ولا علو ولا عمق ولا خليقة أخرى تقدر أن تفصلنا عن محبة الله التي في المسيح يسوع ربنا”. (رومية8: 35، 38- 39).
اليقظة والتمييز هما فضيلتان عظيمتان ينبغي أن يقتنيهما الذين يطلبون أن يسكن المسيح فيهم ويرغبون بالتغلّب على قوة الشهوات.
يقول الياس الكاهن لنا: “الشياطين تثير حرباً ضد النفس أولاً من خلال الأفكار…” (فيلوكاليا 30). الإنسان المسيحي الأرثوذكسي، في المبدأ، يجب أن يقيم نوعاً من “الصحراء” حوله ويخرج نفسه من الإغراءات المتوافرة في مجتمعنا هذا. يحصل الموت الروحي عندما يصبح محور هذه الأفكار الإنسان ذاته.
يقول القديس مكسيموس المعترف في هذا الصدد: “إن محبة الذات وحنكة الإنسان، في إبعادها البشر عن بعضهم وإفسادها نظام الطبيعة، تجزّئ الطبيعة البشرية الواحدة إلى عدة أجزاء”. إن كلمات القديس مكسيموس المعترف تنطبق علينا أجمعين، نحن الساعين للإتحاد بالله وبالبشرية.

الخطيئة شقاق

تجعلنا الخطيئة خارج الشركة مع الله ومع القريب. يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: “إذا إرتكبت خطيئة، أدخل كنيستك وتبْ عن خطيئتك، لأنه هنا يوجد الطبيب لا القاضي، هنا لا يُحقق بأحد، هنا الإنسان ينال مغفرة خطاياه”. إذا كانت الكنيسة مستشفى فهذا الصدع مع الله والقريب يحتاج إلى علاج. وعليه فالخطيئة هي مرض وسقم. بالشفاء نسترجع حالتنا الأولى.

نعلم أن هذا الشفاء يتم بالمعمودية المقدسة، بسر التوبة المقدس، بمسحة الزيت المقدسة وبتناول الأسرار المقدسة باستحقاق: جسد المسيح، دمه، نفسه وألوهته. يذكرنا القديس يوحنا الذهبي الفم في القداس الإلهي بكل ما صنعه الله لنا: التجسد، الصليب، القبر والقيامة. وفي الأخير لكي يصالحنا معه: “ولما سقطنا لم تبرح أن تصنع كل شيء حتى تعيدنا إلى السماء”. هناك ضرورة أن نتذكر بأن المسيح عندما أعطانا سر الشكر قال: “خذوا كلوا هذا هو جسدي الذي يكسَر من أجلكم لمغفرة الخطايا”، و “اشربوا منها كلّكم هذا هو دمي الذي يهرق عنكم وعن كثيرين للعهد الجديد لمغفرة الخطايا”.
الغفران هو للمصالحة مع المسيح ومع كل البشر. يقول لنا القديس متى: ” وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ كُلَّ مَنْ يَغْضَبُ عَلَى أَخِيهِ بَاطِلاً يَكُونُ مُسْتَوْجِبَ الْحُكْمِ، وَمَنْ قَالَ لأَخِيهِ: رَقَا، يَكُونُ مُسْتَوْجِبَ الْمَجْمَعِ، وَمَنْ قَالَ: يَا أَحْمَقُ، يَكُونُ مُسْتَوْجِبَ نَارِ جَهَنَّمَ. فَإِنْ قَدَّمْتَ قُرْبَانَكَ إِلَى الْمَذْبَحِ، وَهُنَاكَ تَذَكَّرْتَ أَنَّ لأَخِيكَ شَيْئًا عَلَيْكَ، فَاتْرُكْ هُنَاكَ قُرْبَانَكَ قُدَّامَ الْمَذْبَحِ، وَاذْهَبْ أَوَّلاً اصْطَلِحْ مَعَ أَخِيكَ، وَحِينَئِذٍ تَعَالَ وَقَدِّمْ قُرْبَانَكَ. كُنْ مُرَاضِيًا لِخَصْمِكَ سَرِيعًا مَا دُمْتَ مَعَهُ فِي الطَّرِيقِ، لِئَلاَّ يُسَلِّمَكَ الْخَصْمُ إِلَى الْقَاضِي، وَيُسَلِّمَكَ الْقَاضِي إِلَى الشُّرَطِيِّ، فَتُلْقَى فِي السِّجْنِ. اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: لاَ تَخْرُجُ مِنْ هُنَاكَ حَتَّى تُوفِيَ الْفَلْسَ الأَخِيرَ!” (متى 22:5-26).

الكبرياء: حاجز للتوبة، التواضع: باب للتوبة

يشير القديس يوحنا السلمي: “يجب على الخاطىء أن لا يدع تذكر الأشياء التي إنتابته أن تنطبع في عقله لئلا يشطر في داخله الطبيعة البشرية بفصل نفسه عن البشر رغم أنه بشر نفسه”. عندما تكون إرادة الإنسان متحدة مع جوهر طبيعته، عندئذ يتصالح مع الله والطبيعة البشرية.

يقول القديس إسحق السرياني بأن الإنسان الذي بلغ إلى معرفة ضعفاته، قد بلغ قمة التواضع(Brock,1996) .

التوبة: شرط للغفران

يجب أن يتوب الإنسان عندما يهين الرب أو أخاه. الله، ونحن بتشبّهنا به، يجب أن نحتضن الإنسان الخاطىء بمحبة الله الخاصة، لكي نسامحه. يجب أن نصلّي لأن يتصالح مع الله ومعنا من خلال الكنيسة، كلّ مَن أغاظ الرب أو إخوته. إن أساس هذه التوبة هو: الشعور بعدم إخلاص الخاطىء لله وإهانته لإخوته، ندامة في القلب، تصميم على إصلاح نفسه والقيام بتغير جذري لعقله وقلبه، على أن لا يهين أحد فيما بعد.

التوبة

يدرك الله الفرق بين التوبة الحقيقية والمزيفة. إذا كانت هذه التوبة لتبرير الخطايا، لا تحصل أي توبة حقيقية مهما أطلنا الكلام في الصلاة. أما إذا كان الأخ يصرخ إلى المسيح كاللص على الصليب، حينذاك يجد مغفرة خطاياه.

قال مرة رجل حكيم بأن الله لا ينظر من أين أتَينا، لكن ينظر إلى أين نذهب. إذا كانت التوبة تنبع من رغبة حقيقية، من قلب نقي، يجد التائب الله بغضّ النظر كم مرة سقط. “طوبى لأنقياء القلوب لأنهم يعاينون الله” (متى5: 8).

التأله

أشار القديس سلوان الآثوسي: “الذين يكرهون أخاهم ويرفضونه هم فقراء في كينونتهم. لا يعرفون الإله الحقيقي الذي هو كله محبة”. يقول لنا القديس بطرس في رسالته الثانية: “كما أن قدرته الإلهية قد وهبت لنا كل ما هو للحياة والتقوى بمعرفة الذي دعانا بالمجد والفضيلة…. لكي تصيروا بها شركاء الطبيعة الإلهية…” (2بطرس1: 3) نعلم أننا نصبح آلهة لا باشتراكنا في جوهره بل بمشاركة دفء ونور قواه الإلهية (Staniloae,2003).

شفاء الأهواء يؤدي إلى التأله

يمكن حصول التأله فقط إذا شفينا أهواء نفوسنا كما يشير الأسقف إيروثيوس فلاخوس. للأثيم، هذا يعني الشفاء من الهوى التي أدّى إلى الإثم. مثال على ذلك: للغضوب يعني الشفاء من هوى الغضب والنمو في التواضع والوداعة.

التوبة والغفران متلاصقتان، لا يمكن للواحدة الوجود بدون الآخر. يقول لنا القديس مكسيموس المعترف عن الطريق التي تؤدي إلى التأله: إن الدرجة الأولى من اللاهوى هو الامتناع عن دوافع الجسد لارتكاب الخطيئة. الدرجة الثانية، هو رفض الأفكار الدنسة. الدرجة الثالثة، هو هدوء الشهوات الدنسة والرغبة بها. أما الدرجة الرابعة من اللاهوى فهي إقصاء كلي من العقل لكل صورة حسية (فيلوكاليا)
على الصعيد النفسي – الروحي هذا يعني الإقرار والرغبة بعدم الخطيئة والتصرف بحسب مشورة الرب وبذل أقصى جهدنا لإخراج أنفسنا من الظروف والصور التي تثير الخطيئة. هذا يعني أن نستبدلهم بأفكار طاهرة إلهية وأعمال إلهية وندرب أنفسنا على هذه الأعمال والأفكار. وهذا كله مبني على أساس الصلاة والأسرار الإلهية.

لنودع ذواتنا وبعضنا بعضاً… للمسيح الإله

التأله لا يعني أن نحيا فقط بالدفء والنور الإلهيين بل أن نكون في شركة فيما بيننا. يشبه القديس دوروثاوس نمونا وإتحادنا بالله بالدائرة. الله هو نقطة المحور وكل إنسان هو كالشعاع المنطلق من المحور إلى الدائرة (360 درجة) المحاطة بالمحور. عندما يقترب الإنسان (الشعاع) من الله (المحور)، يقترب من أخيه الإنسان (شعاع آخر) وكلما ابتعد عن الله يبتعد عن أخيه الإنسان (Morel, 2007).

لنتأمل في النهاية بصلاة القديس أفرام السرياني (1997): إذا كان أخوك غاضباً منك، كذلك يكون الله غاضباً منك. وإذا أقمت سلاماً مع أخيك على الأرض، فقد أقمت سلاماً مع الله في العلى. إذا اقتبلت أخاك فقد اقتبلت الله.
يسوع غفر خطايانا بقوة الأسرار المعطاة للكنيسة، أولاً للرسل ثم لخلفائهم الأساقفة والكهنة إلى يومنا هذا، حين قال لهم: “خذوا الروح القدس، من غفرتم خطاياه تغفر له ومن أمسكتم خطاياه أمسكت” (يوحنا 20: 22 – 23).

admin:
Related Post