الشهيد الروسي الجديد المتقدم في الكهنة
ميخائيل شيلتسوف
نقلها إلى العربية الأب أثناسيوس بركات
أحدى أكبر المآسي خلال الاضطهادات المرعبة التي شُنّت على الكنيسة بعد سيطرة السلطات الملحدة كانت المحاكمة العامة، سنة 1922، للميتروبوليت بنيامين الذي من بيتروغراد ومجموعة من الأكليروس والعلمانيين (حوالي 100 شخص) الذي تحالفوا معه، من بينهم كان المتقدم في الكهنة ميخائيل شيلتسوف. حُكم عليه مع عشرة آخرين بالموت، أعفي من ذلك لكنه عاد وحاز إكليل الشهادة لاحقاً إذ أُعدم قبل الفجر في عيد الميلاد سنة 1931.
سنة 1870 وُلِدَ الأب ميخائيل في ريازان، وكان ابناً لكاهن القرية. بعد تخرجّه من أكاديمية قازان اللاهوتية مارس التعليم لفترة في كالوغا قبل ان ينتقل مع عائلته سنة 1898 إلى العاصمة من أجل مناقشة أطروحته التي عنوانها “كنيسة الملكية العربية”. وقد عمل لثلاث سنوات
في الإرسالية إلى Dioosam وثلاث سنوات أخرى في مكتب وكيل المجمع. في خريف سنة 1903 عُيّن الأب ميخائيل من قبل الكنيسة في مركز المهندسين المدنيين، حيث قام أيضاً بتعليم اللاهوت، وكانت مادة محبوبة من الجميع بسبب شرحه المقنع والحسّي. كان متكلماً دائماً في اجتماعات الكنيسة ومؤلفاً لمقالات وكرّاسات وكتب متنوعة.
سنة 1920 عيّن الأب ميخائيل مرة أخرى في كاتدرائية الثالوث Ijmailousky حيث كان يغط لخمس سنوات. سنة 1919 أختير كممثل لمجمع الأبرشية وبقي في هذا المنصب حتى توقيفه الأخير. لقد أوقف بسبب هذا المنصب وكان واحداً من بين العديدين الذين اتهموا بأنهم أعداء الثورة لأنهم قاوموا مصادرة مقتنيات الكنيسة القَيِّمة، من عملية أختلقها البولشفيون من أجل إخافة المؤمنين وقمع الإكليروس الروسي. بعد المحاكمة اقتيد الأب ميخائيل مع آخرين إلى إصلاحية
(أي السجين في الحقيقة )، حيث وضع في زنزانة مع نزيل هو الأرشمندريت سرجيوس شاسي. وبعد بضعة أيام نقلا إلى سجن في شارع سباليرنا حيث وضعا في مكان ضيق ومنعزل بانتظار التعليمات من موسكو، حيث تمت مراجعة حكم بحقهما غيابياً.
عاش الأب ميخائيل أربعين يوماً بتمامها في هذا السجن. تُعتبَر ذكرياته حول هذا التعذيب ملفاً تاريخياً مرعباً. وهذه الذكريات كالعديد من مثيلاتها تكشف وتصف الإرهاب الأحمر، لكنها تتميّز بصراحتها الصارخة. فهي أقرب إلى الاعترافات، اعترافات كاهن يهيء نفسه روحياً للاضطهاد. لم يصوّر ميخائيل نفسه كشهيد شجاع وفاضل. على العكس، كتب عن انهيار العزيمة، الخوف وعن الأمل بأن يُعفى من هذا المصير الرهيب. في مواجهة الموت، وجد أنه من المستحيل البقاء صامتاً حول شكوكه، التي كان من المفترض أيضاً أن تُمَّحى من وعيه حتى يستطيع حمل صليبه ويقف في طريق الشهادة بروح مستنيرة وموقف ثابت أمام تجاربه.
يكتب الأب ميخائيل: حوالي الساعة الثالثة بعد الظهر، وبعد أن أُعطينا شيئاً لنأكله، فُتح باب زنزاتنا فجأة ودخل أحد مدراء السجن، وقال موجهاً ملاحظاته للأب سرجيوس ولي: “اجمعوا حاجياتكم. في ظرف نصف ساعة سوف تنقلون إلى سباليرنا”. لماذا؟ كيف يحصل هذا؟ لأي سبب؟ لم يكن هناك من أجوبة. أصبحنا في حيرة كليّة. ولكنّنا بدأنا نعزّي أنفسنا بعدة تخمينات، كما يحدث مع شخص يحيا في ظروف يائسة ويريد أن يجد تفسيرات إيجابية لكل أمر. لقد ظننا أن حكم الإعدام قد أرجئ، والاّ فلماذا ينقلوننا إلى هناك؟ إن السجناء يُقتادون من هنا إلى ساحة الإعدام. ثم جاءت فكرة: ربما هذا الكلام عن نقلنا إلى سباليرنا هو ببساطة لتهدئتنا. ربما في الحقيقة، نحن مقتادون إلى الإعدام! لكن الوقت يمشي ضد هذا الاستنتاج: إن النهار في منتصفه، والسجناء يؤخذون إلى الإعدام في الليل.
جمعنا أغراضنا بسرعة. ما أُعطيناه من طعام إضافي وزّعناه على مَن هو بحاجة من السجناء، وبدأنا الانتظار. ثم وبدون أي توّقع، توجّه الأب سرجيوس إليّ: “لا نزال نعلم حقاً إلى أين سيأخذوننا. ولا نعرف أيضاً ماذا في المخزن؟ ماذا سيحدث لنا. لذا هلاّ سمحتَ بأن تعرّفني؟” نزعتُ صليب الكهنوت من حول عنقي ووضعته على عتبة النافذة، كما لو على منصّة ووضعتُ منشفة حول عنقي، وتدلّى طرفها على صدري كما لو أنها بطرشيل، وبدأتُ الاعتراف مستحضراً من الذاكرة الصلوات المختصّة. اعترف الأب سرجيوس بصدق وحرارة ودموع. كان آخر اعتراف له على الأرض. بعد ذلك طلبت منه أن يعرّفني. اعترفنا وبكينا على سجيّتنا وبدون ارتباك.
سرعان ما أتى مدير السجن نفسه وطلب منّا أن نتبّعه. في الممّر قابلنا الأب ل. بوغوبافلانسكي الذي كان أيضاً منقولاً إلى مكان آخر. ثم اقتِدنا خارجاً نحو المدخل الخلفي حيث استلَمَنا الجنديان اللذان سيأخذاننا. عبرنا الساحة ثمّ حُشِرنا، ثمانية أشخاص، في سيارة ليموزين. كانت ضيّقة لدرجة أن الأب بوغوبافلانسكي أضطر أن يربض على عقبيه مّتكئاً علينا. جلس واحد من الجنود المرافقين قرب السائق. وجلس آخر معنا مقابلي.
أبقيتُ نظري على الشبّاك طول الطريق آملاً رؤية وجه مألوف، لكنني لم أرَ أحداً. قدم الأب سرجيوس لنا جميعاً، حتى للحارس، بعض الفراولة الطازج الذي كان قد حصل عليه ذلك النهار، مما كسر الحجاب وفتح مجالاً للحوار مع الحارس. عندما رفض هذا الأخير ثمر الفراولة علّق الأب سرجيوس أنّه ليس سامّاً. بعد كل ما حدث لم نكن نفكر بالموت حتى. عندما سألنا عن سبب نقلنا إلى سباليرما، أجاب بشيء من الاحتراس بأنّ رأيه الخاص هو أنّه كان سيُعفى عنا من موسكو. لكن بما أنّ التسهيل رقم 1 كان مكتظاً إذ قد جلبوا بعض اللصوص للمحاكمة فق تمّ نقلنا. هناك في سباليرنا، أكمل قائلاً، سنجد الأمر أكثر هدوءً. لقد كان مصيباً بهذا بالتأكيد إذ لم يكن هناك مكان أكثر هدوءً من سباليرما، لقد كان مثل القبر. طوال الطريق كنت مشغولا أفكّر بأننا ربما لسنا مأخوذين إلى سباليرما… وعندما وصلنا إلى المكان المقصود هدأ روعي.
في سباليرما اتُخّذت إجراءات السجن الاعتيادية، وثم أُخِذنا أوّلاً إلى المكتب ثم اقتادونا في ممر طويل تحت الأرض. “حسناً “، فكّرتُ، “سوف يضعوننا في مكان ما تحت. لقد قيل أنّه، في ظلام حالك كهذا، وفي هكذا زنزانات يغلقون على حثالة الناس غير المرغوب بها. مشينا بصمت. كان الهدوء ثقيلاً، ما عدا وقع خطوتنا العميق. لم نرَ أيّ وجه إنسان، حتى الحراس اختبأوا بعيداً في مكان ما.
وصلنا إلى حائط وبدأنا بصعود درج لولبي ضيق ذو فسحات متتالية ضيقة. صعدنا أعلى فأعلى. هذا يعني بأنني لن أُغرس في قبو رطب. صعدنا حتى الطابق الرابع. أيضاً تسلّلَت إلى رأسي فكرة مزعجة. هنا، بدون أي شك الزنزانات مخصّصة للسجناء بناءً على خطورة جريمتهم. هكذا بدا النظام في التسهيل رقم 3. يرسَل السجناء الأسواء (أو الأخطر) إلى الطوابق الأعلى. نحن صف نزلاء الموت سوف نكون بعد كل هذا أقرب إلى السماوات حيث سوف نذهب عاجلاً (السماوات التي يجب أن نفكر فيها في أغلب الأحيان). في السجون، كنت أفضّل الطوابق العلوية، هناك هواء وضوء أكثر، يستطيع المرء رؤية السماء، بشكل أفضل ويشعر بشكل بثقة بالنفس أقل.
تمّ توزيعنا نحن الثمانية من التسهيل رقم1، على عدة طوابق في زنزانات متفرقة، ليست قريبة، وبذلك لن نستفيد من التواصل مع بعضنا، باستثناء يالاشيش واوجنيف، ولضرورات غير منظورة بدون شك، وأحياناً جسدية، اللذان وضعا في زنزانتين متجاورتين. لكنهما اكتشفا هذا في النهاية فلم يستفيدا منه. تمّ وضع يالاشيش، أوغنيف، كيفا شارير وانا في الطابق الرابع، اما الأب سرجيوس، بوغوبافلانسكي وشوكوف فقد اقتيدوا إلى الثالث. بينما ألاسل نوفيتسكي إلى الطابق الثاني حيث كان يوجد أسقفان. لم نعلم شيئا بالطبع في ذلك الوقت حول هذا الترتيب، لكننا عرفنا عنه لاحقاً حين وصلنا إلى التسهيل رقم 2.
تمّ اقتيادي إلى زنزانة، لم أعرف ما كان رقمها. كانت زنزانة كالباقيات عرضها حوالي سبعة أقدام ومثل ذلك بالطول. على يسار الباب، كان هناك سرير حديدي مثبّث بالحائط، له غطاء بالٍ كان يحوي في زمن ما قشّاً لكنه الآن يحافظ على القليل من بقاياه… مقابل السرير قرب الحائط الآخر كان هناك طاولة معدنية مرّبعة صغيرة مع كرسي من نفس الصنع، وهي أيضاً مثبّثة بالحائط. وراء الطاولة في الزاوية قرب الشباك كان المرحاض مغ مغسلة عليها صفيحة ماء… بجانب الباب كان هناك على الحائط تعليقتان ورف صغير.
كنا في اليوم الأول تحت مراقبة مستمرة. كانت السياسة العادية المتبّعة، خوفاً من أن نقوم بالانتحار أو نتواصل مع جارنا أو حتى من أن نهرب أو أن نتلقى معاملة خاصة، لا أستطيع الجزم. في أول الأمر كانت قرقعة فتحة الباب المتكررة توتر أعصابي وتجعلني مترقباً وخائفاً من أي شيء، لكني أصبحت معتاداً عليها ونادراً ما عدت ألاحظها. إضافة إلى ذلك، كنت أفكر في أية معلومات كان سيقدم هذا النوع من المراقبة للسلطات. كل ما كان السجناء يفعلونه هو الصلاة والمشي حول زنزاناتهم.
لن أنسى أبداً عيد القديس سرجيوس (5 تموز). لقد رقدت في الوقت المعتاد في الليلة التي قبله. مرّت فترة طويلة لم استطع النوم فيها، لسببٍ ما كان قلبي ثقيلاً. فجأة، سمعت جرساً يُقرع. ومرة أخرى… ما يعني هذا؟ من أين يأتي؟ ولماذا في مثل هذه الساعة المتأخرة؟ (كانت الحادية عشرة او الثانية عشرة) ثم تذكرّت: غداً عيد القديس سرجيوس رادونيج، وكانوا يقرعون في كاتدرائية القديس سرجيوس القريبة التي كانت تحتفل بعيد شفيعها. كانت الأجراس تنادي المؤمنين إلى خدمة صلاة ليلية. شعرت بالكآبة: هناك حيث الحرية، يحتفلون بالعيد. المؤمنون يذهبون إلى الكنيسة للصلاة، بينما انا هنا مغلق علي، محروم من المشاركة في العبادة وفي المناولة المقدّسة. تذكّرت انه قبل سجني كنت قد فكرت بالذهاب في هذا اليوم إلى دير القديس سرجيوس، فاجتاحتني رغبة جامحة للصلاة. نهضت وقمت بخدمة للقديس. بعدها رقدت وسرعان ما غرقت في النوم.
مضى الصباح كالعادة بحسب روتين السجن. لكن حوالي الثانية عشرة والربع فُتحت فتحة بابي وناولتني الحارسة المناوبة حزمة صغيرة ملفوفة بمنديل أحمر وهمست بقلق “خذّها بسرعة”، يظهر أنها الجسد المقدس، أنتبه ان لا تقع منك” . أخذتها بكل وقار وخفضتها وانا أرتعش. كان في المنديل صندوق صغير مُذهَّب كان فيه جسد ودم المخلص المقدسين من القداس في الكاتدرائية جسد. فصَّلت لنفسي قطعة ثم لففت العلبة مرة اخرى وانتظرت ليأتي أحد ويأخذها.
في خلال نصف ساعة اتت إمرأتان لم أرهما من قبل، برفقة المفتش الذي تعاطف سابقاً معنا والذي كان منذ عدة أيام قد انتدب للخدمة في طابق آخر. أرادت المرأتان أخذ العلبة لكن المفتش ذكرّهما انه ليس من المفروض ان تلمس النساء الجسد المقدس، فأخذه بنفسه، وراقبتهم ينزلون الدرجات. لقد كانت زنزانتي رقم 182 تقع مباشرة مقابل الدرج.
تُركت مع الجسد المقدس. لكن ما العمل؟ هل يجب ان أتناوله كله حالاً؟ لكنني لم أكن مستعداً فقد كنت قد انتهيت من الغذاء. فقررت الانتظار حتى اليوم التالي. لكن هل سأكون حياً؟ قررت أن أضع الجسد المقدس ملفوفاً في قطعة ورق نظيفة في مكان سرّي، فإذا ما أتوا في الليل ليأخذوني إلى ساحة إطلاق النار، فسوف أتناوله مباشرة، واذا لم يحدث ذلك فإن القسم الذي معي يكفي لأربعة أو ستة أيام.
كنت مملوءاً بهجة بسبب هذه الهدية غير المتوقعة. حتى ذاك اليوم كنت قلقاً لاحتمال اعدامي رمياً بالرصاص من دون الاشتراك في الأسرار المقدسة. لقد اعترفت للأب سرجيوس في التسهيل الاصلاحي قبل نقلنا إلى سباليرما، لكن ذلك كان من شهرين تقريباً، لكني لم أتناول منذ أن كنت حراً. وفجأة أُرسلت لي الأسرار المقدسة. كنت مسروراً جداً وبمزاج بهيج. كانت هذه هدية واضحة من القديس سرجيوس. على أي حال سرعان ما بدأت تظهر أفكار متضاربة وبعيدة عن أن تكون مفرحة. وبدأت أفكّر: لماذا أرسلوا الآن الجسد المقدس؟ (لم أعرف حينها، بالطبع، أنه قد تمّ إرساله بطلب من الميتروبوليت بنيامين وبرصى سلطات السجن). ربما علم الذين في الخارج بمصيرنا السيء في موسكو، وقد أرسلوا القدسات باعتبار أنه زادنا الأخير. بالنهاية، لقد مرّ بالضبط اسبوعان. لكن إذا كان هذا هو الأمر، فلماذا أُرسل الجسد المقدس للجميع؟ من المؤكد أنه لم يتمّ الحكم على الجميع بالإعدام؟ هذا أكثر خطورة ممّا في موسكو حيث خمسة من أصل أحد عشر يتم إعدامهم. لقد قال المدّعي بنفسه ستيرنوﭪ، بأن قضيتنا أقل خطورة ممّا في موسكو، فهل أصبحت الآن نهاية حالتنا أكثر مأساوية؟ من الممكن. هذا يعني بأن الجسد المقدس لم يرسَل لتحضيرنا للإعدام. لكن ربما هذا بالضبط سبب إرساله. لم استطع معرفة كل شيء. لقد نشب صراع داخلي بين ….(صفحة6)
في تلك الليلة انتظرتُ مترقبا باضطراب، وقد قضيتها وأنا في الحالة نفسها متوقعاً بأنه، في أية لحظة، سوف يُفتح الباب وأوخذ إلى مكان ما بعيداً. الليلة التالية مرّت والأفكار نفسها تراودني. لم يأتِ الاضطراب بسبب الخوف من الموت بل بسبب يقين أكيد بموتي إعداماً، مع خزي ملازم بطريقة مهينة. كان هناك الكثير منه حين المحاكمة. إنه أمر متوقع، وليس بدرجة أقل، قبل الإعدام. لكن الاشتراك في الأسرار المقدّسة كان قد منحني قوة كبيرة وجعلني أقبل الموت بكل سلام. كنت مقبِلاً إلى الموت، لكنني سأموت مع المسيح بعد أن اشتركت في جسده ودمه.
تناولت الجسد المقدس للخمسة أيام التالية، مما منحني قليلاً من الراحة والفرح. يجري اليوم العادي في سباليرما بحسب الروتين التالي: عند الساعة السابعة أو الثامنة كنت أنهض وأقرأ بتأنٍ كل الصلوات الصباحية وقانون قديس النهار بحسب الدورة الأسبوعية. يستغرق هذا حوالي الساعة. بعدها كنت اذرع الغرفة ذهاباً وإياباً، أستلقي، أقرأ الكتاب المقدس أو يوحنا الذهبي الفم. عند الظهر يكون الغذاء والشاي. ثم استلقي أيضاً، أتمشّى، أقرأ قانون يسوع الحلو، وبعد زمن قصير أتلو قانون مديح والدة الاله. عند الساعة الخامسة أتناول العشاء والشاي، ثم أقرأ قانون التوبة للمخلص وقانون الشفاعة لوالدة الإله، وبعد استراحة وجيزة أتلو صلوات المساء. في مساء الأعياد كنت أقوم بخدمة السهرانية قبل صلوات المساء، وفي الصباح القداس الالهي. في بعض الأحيان كنت أرتل كل التراتيل التي أذكرها وأنا أتمشى في القلاية.
إجمالاً كنت استمتع بسكينة روحية بعد وقت من الصلاة بتركيز. وغالباً ما كنت أختبر فترات طويلة من الإفراط في النشاط الروحي، إذ كنت أتعالى عن كل أمر أرضي، أي من هذا العالم، وأترك نفسي بالكلية أمام مشيئة الله.
يبدو أنني قد استفضت في وصف أمور حياتي الخارجية في سباليرما، بقى أن نتطرق إلى ما هو أكثر أهمية: حالة النفس أي الحياة الداخلية. لقد كانت خاضعة لشيء واحد كما لو أن هناك مسمار ينخر الرأس أو كألم مبرح في القلب. السؤال هو: هل يتم اعدامي أم لا؟ كان هذا السؤال حاضراً بشكل مستمر ومعذِّب. مهما فعلت أو شغلت نفسي كان يعذبني على نحو متواصل. وأنا أعني كلمة يعذبني. كنت أبدأ بقراءة الإنجيل فكان يبلبلني بشكل يمنعني من فهم ما كنت أقرأ. لم أستطع قراءة الذهبي الفم لمدة طويلة. فقط استطاعت رسائله إلى أوليمبيا أن تشدّ انتباهي قليلاً. حتى في هذا، كنت أقرأ سطرين أو ثلاثة، وأعود لا أفهم ما أقرأ بسبب استسلامي للأفكار القاسية نفسها. وكنت أقرأ بلا استيعاب.
فقط حين كنت أصليّ كنت أتمكن من نسيان نفسي. يحدث بأن تشعروا أنكم مكسورو الخاطر، تجتاحكم كآبة لا حدّ لها ولا تستطيعون تفسيرها. ستبدأون بالصلاة، وستشعرون أنه بالرغم من هذا فإن قوى غير منظورة تجرّكم بعيداً ويسيطر عليكم عدم رغبة بالصلاة بشكل حاد. سوف تتلفظون بالكلمات لكن رأسكم يكون مسحوقاً بشكل مثير للجنون ولن يكون سلام في قلبكم. ستقرأون ولا تفهمون: ستقرأون كلمات الصلاة نفسها ثانية وثالثة وفي النهاية – وانتم تجبرون نفسكم بهذه الطريقة – ستتحررون من الذي يعذبّكم، سيحل السلام في نفسكم، وستنهون الصلاة بمزاج هادئ وحتى مفرح، لانكم وجدتم حلاً لهذا السؤال وستكونون جاهزين، حتى في تلك اللحظة، لمواجهة الموت. فقط في السجن اختبرت الاكتفاء والسلام الحقيقي والفرح في الصلاة ومنها.