X

بحث في التراث الأرثوذكسي

الشيخ أمبروسيوس لازارو الذي من دير داديو

بقلم الأرشمندريت أفرام، رئيس دير فاتوبيذي في جبل آثوس


نقلها إلى العربية بتصرّف الأب أثناسيوس بركات

رقد بالرب الأبُ أمبروسيوس (اسمه، في العالم، سبيريدون لازاريس) في 2 كانون الأول سنة 2006، عن عمر 92 سنة. وهو الأب الروحي لدير عذراء غافريوتيسّا في داديو، إضافة إلى آلاف المسيحيين من كل أنحاء اليونان. كان الأب أمبروسيوس شذاً عَطِراً للمسيح يضوع في العالم دون أن ينضب، وهو يُعتبر واحداً من الشخصيات المقدّسة المعاصرة المزيّنة بالكنيسة. إنه أحد ثمار تجسُّد المسيح. فالكنيسة، عبر العصور، هي معملٌ يُنتِجُ القديسين، ولا يزال، حتى هذه اللحظة، يُقَدّم بضاعته.

وُلِدَ الأب أمبروسيوس المبارَك في قرية لازاراتا في ليفكادا من أبوين تَقيَّين، هما المعلّم بانايوتيس لازاريس ولويزا. كان الرابع من بين العديد من الأولاد في عائلتِه. منذ الطفولية، تميز اسبيريدون بشخصيته الهادئة ومحبته للكنيسة. نشأ على المُثُل التي ربَّته عليها والدتُه التقيَّة، والتي كانت تحملُ على عاتقِها مهمة تربية الأولاد، بسبب غياب زوجِها في الحرب. أكمل اسبيريدون، فقط، دراسة صَفَّين في المرحلة الابتدائية، لضرورة مساعدة والدتِه في الأعمال الزِّراعية. عندما حان وقتُ خدمتِه العسكرية، خدمَ لثلاث سنين في إيفزونا، فقد كان شاباً طويلاً منتصب القامة وجميلاً.
أخبرني الشيخ، في أحد الأحاديث، بأنه كان يرغب بالذهاب إلى الجبل المقدس بعد خدمتِه العسكرية فقد كان واحداً من حرس القصر. إلا أنه لم يكن يعرف كيف ولا إلى أين يذهب. فجأةً، ظهر أمامه شابٌّ في الخامسة والعشرين من عمره وقال له: “إني أعرف تلك الأمكنة. تعال معي”. وهذا ما حصل.
فاستَقلاَّ معاً السفينةَ. “أعطاني خبزاً، فتناولناه سويّة، ولازَمْنا بعضَنا طوال اليوم. إلا أنه لم يقل لي عن اسمه، وأنا، بدوري، لم أسألْه. وهكذا، وصلنا إلى دافني. ومن هناك، تنقَّلْنا على الأقدام في الجبل المقدس”.
“طوال الفترة التي كان، فيها، بصحبتي، كنت أَشعرُ أنني في غاية الأمان. عندما تقدمنا في مسيرنا، أشار إلى دير كسيروبوتامو حيث كان يَضمّ بقايا القديسين الأربعين شهيداً. سألَني إذا ما كنت أرغب بالتَّبرُّك منها، فوافقتُ. دخل الكنيسة الدير الرئيسية، وفيما كنتُ أسجد للأيقونة، أحاط بنا أربعون شابّاً. حينها، أخبرني مرافقي: “إنهم الأربعون شهيداً، وهم في غاية الغبطةٍ كونك ستُصبح راهباً”.
“تابعْنا، من هناك، طريقَنا حتى وصلنا إلى كارياس (عاصمة الجبل)، ثم إلى دير كوتولوموسيّو. هنا، توقَّف الشابُ، وأشار إلى الدير قائلاً: “سوف تعيش هنا يا اسبيرو (تصغير اسبيريدون). ستصير راهباً، وعليك أن تكون صبوراً ومطيعاً لشيخك”… ثم تَوارى”.
يَظهَر أنه كان ملاكاً من لدن الرب- ملاكه الحارس. عاش المبتدىء اسبيريدون في ذلك الدير. في عمر 25 سنة، صار راهباً باسم خاريطُن.
في إحدى الليالي، طلب رئيسُ الدير من الراهب خاريطن أن يقرأ خدمة الساعة التّاسعة في النارثكس (المدخل الخارجي للكنيسة). رغم كونه أُمّياً، إلا أنه حاوَلَ أن يقرأ الخدمة، لكن ذلك تمَّ بصعوبة كبيرة. صَرَفَه الرئيسُ متذَمّراً، وطلب منه، بطريقةٍ مُهينة، أن يذهب إلى قلاّيتِه. في تلك الليلة، وفيما كان يصلّي، ظهرت له والدةُ الإله، وبالنعمة التي منها، استطاع، في ليلة واحدة، أن يَحفظَ كلَّ المزامير. كان مُلهَماً من الله، وهو يُذَكَّرُنا بالقديس غريغوريس بالاماس الذي كان يعاني، في صِغَرِه، من صعوبةٍ كبيرةٍ في التَّعَلُّم. أخذه والداه إلى أحد الأديرة حيث صلَّوا وتضرَّعوا إلى العذراء، وعلَّماه كيف عليه أن يَضربَ، كلَّ ليلة، ثلاثَ سجدات (أو مطّانيات) للعذراء ويتوسَّلُ إليها أن تجعلَ منه تلميذاً صالحاً. بهذا صار التلميذ الأول. وحين كان ينسى القيام بسجداته كان علامته تتدنّى.
إليكم حادثة أخرى في حياة الراهب خاريطن، رجلِ الله، حصلت في الجبل المقدس. كان ذلك في الصيف، وكان الأب خاريطن يَعملُ في الحديقةِ. رأى شجرةَ تين، فتسلَّقها بدافع جوعِه ليأكل منها. لم يكن مسموحاً للرهبان، في الجبل المقدس أن يتناولوا أيَّ طعام خارج “الترابيزا trapeza” (غرفة الطعام في الأديار)، فهذا يُعتبَرُ أكلاً بالسَّرقة، وبالتالي هو خطيئةً كبيرة. أكل بضعة ثمار تين، لكنه انزلق، فسقط عن الشجرة. بقي في موضعه يَئنُّ من الألم، فقد كسر رِجلَه. بعد وَضَعِه على درفة باب، حمله أربعةُ أشخاصٍ- إذ كان سميناً- ونقلوه إلى قلايتِه.
قال الأبُ أمبروسيوس، نفسُه، مسترجِعاً تلك الحادثة: “رغم أنني كنتُ طريح الفِراشِ ومتألِّماً، لكنني رأيتُ مقابلي كنيسة عادي الفضّة وتضرَّعتُ أليهم أن يساعدوني. حينها، ظهرَ طبيبان بثياب بِيضٍ، وحاولا إعادةَ رِجلي إلى مكانِها. قال أحدُهما: “إسحبها يا قُزما”. وقال الثاني: “إمسكها من هنا، يا داميانوس”. وفي غضون خمس دقائق، غادرني الألم، وأصبحتُ مُعافى”. ولما رآى رفاقُه الرهبان أنه قد شُفي تماماً، مَجَّدوا الله وقِدِّيسَيه الماقِتَي الفضَّة.
كان في دير كوتولوموسيّو خمسةُ رهبان وشيخٌ. ظنَّ بعضٌ منهم أن المصلحة تَقضي بتغيير الشيخ. عَلِمَ الشيخُ بما يَجري، فقرَّرَ أن ينفَصِلَ عن الرهبان الخمسة. طُرِد الراهبُ أمبروسيوس- وكان حينها باسم خاريطن- إلى دير خيلانداري، يرافقه البوليس. واجَه، هناك، صعوباتٍ جَمّة، وعانى من المرض، إلى درجة أنهم كانوا يَحثُّونه على العودة إلى العالم. فذهب إلى الشيخ بورفيريوس- في أثينا- الذي نَصَحَه بالذَّهاب إلى دير داديو في فْثيوتيدا والذي كان أطلالاً. لم يجد، في دير داديو المتهدّم، سوى الأفاعي والحيوانات البرِّيّة. لكن الشيخَ بورفيريوس وَجَّه إليه النصيحة التالية: “ابقَ هناك، تَحَلَّى بالصَّبرِ والطّاعة، وسوف يُعينُكَ الله”.
بدأ بتجديد الدير المهدَّم، الذي أصبح رهبنة. قام ميتروبوليتُ فْثيوتيدا أمبروسيوس بتكريم الشيخ رافعاً إياه إلى درجة رئيس دير وأعطاه، في الوقت نفسِه، اسمَ شفيعه أمبروسيوس.
في إحدى المرّات، آذى رِجْلَه، فوُضِعَ له وِرْكٌ من البلاتين مما سبّبَ له ألماً شديداً. فاستقدمه ميتروبوليت سويسرا داماسكينوس إليه ليتم فَحصُه، هناك، من قبل الأطباء، فأدخَلوه المستشفى.هناك أجروا له عملية جراحية لإصلاح شكل البلاتين. عندما تم ذلك، وفيما هو يتهَيَّأُ للخروج، طُلِبَ منه القيام ببعض الفحوصات الأساسية، ففعل. حينها، وجَدوا في كُليتِه حُصاةً بحجم البرتقالة، لذا كانت تنتظره عمليةٌ جراحيّة جديدة.
قال الشَّيخُ: “رغم أنني كنت وحدي في الغرفة، إلا أنَ راهباً ظهرَ. فخرجنا إلى الشرفة، وجلسنا نتحادث. استمرَّ حديثُنا لربع ساعة، أَخبرتُه، خلالَها، عن عمليتي الجراحية والحصاة التي في كليَتي. حينئذٍ، قال لي الراهب: “إنني القديس نكتاريوس، وقد جئتُ لرؤيتِك. كنتُ، بدوري، مريضاً، وأسلمتُ روحي في مستشفى أريتاييون. تَحَمَّلت الاضطهاد والألمَ بكل صبر. منحني اللهُ نعمة عظيمةً لصبري”. ثم لمسني ورحل. بعد مغادرَة القديسُ نكتاريوس، شعرت بحاجةٍ مُلِحَّةٍ للتبويل، فبوَّلتُ في وعاء صغير. كانت قد خرجت، مع البول، حصاةٌ صغيرة بحجم برتقالة صغيرة. فأمسكتُها بمنديل ورقي ووضعتُها في دُرجٍ بجانب السَّرير”.
“كان من المفتَرض أن تتم الجراحةُ في اليوم التالي. جاء الطبيبُ السويسري وقال لي: “جهِّزْ نفسَك للعملية”. أجبتُه بأن ليس هناك حاجةٌ للعملية. وفتحتُ الدُّرجَ وأريتُه الحصاة. عندما رآها، قال: “لديكم إيمانٌ حيّ، أيها الأرثوذكسيون. هذا ما لَمِسْناه”. لم تُجرَ العمليةُ، وبقيَتِ الحصاةُ في مكتبِ الطبيب السويسري لعدة سنوات”.
هذا ما وجدتُه لدى الشيخ، إضافةً إلى ظهورات القديسين له، الأمر الذي نادراً ما نصادفه لدى الناس في أيامنا الحاضرة، وهو قد عاش مجهولاً هناك في داديو. لم يكن يحب الإعلان عن نفسِه إو إظهارها، لم يكن لديه حبُّ الظُّهور. وهذا هو سببُ عدم وجود عدد كبير من الراهبات حولَه. مرة، فيما كنا نتحادث، قال لي: “لقد بقيْتُ هنا، وعشت مجاهداً في الصلاة والخِدم الليتورجية، دون أن يلحظَني أحد”. فهو لم يرغب بإظهار نفسِه.
حتى في قرية داديو كان الناس بالكاد يعرفونه. لم يكن يتردد إلى القرية. كان يقوم، في الدير، بأعمال يدوية، وكونه كاهناً للدير كان مجاهداً كبيراً في الصلاة، كما أخبرني. أيضاً، كنت أراه كيف أنه، حين أُطلِعُه على شيئٍ ما، كان، رأساً، يغوص في نفسِه (أو يستجمعُ نفسَه) ويصلِّي. وكان يعطي النصيحة المناسبة. كان يُخبرني كم أن نعمة الله تساعده: “إنني رجلٌ أُمّي، إلا أن كثيراً من الناس المتعلّمين يأتون إلى هنا، منهم أساتذةٌ جامعيون، فأنا منفتحٌ على الجميع وأقول أموراً أتعجَّب كيف أني أقول مثلها”.
أتى صبيٌّ إلى الشيخ وسأله: “ماذا عليَّ أن أصبح؟”، فأجابه الشيخ: “سوف تصبح راهباً”. فأحس بنارٍ تحتدم في داخلِه، ورغم أنه لم يفكِّرُ بالأمر، إلا أنه صار راهباً. وهكذا، فيما لو زرنا هذا الرجل في مقاطعة أثينا، فإننا سنرى أنه ليس من هذا العالم. إنه يحافظ على برنامج رهباني، فيستيقظ في الليل ويصلّي…
كانت لديه محبةٌ كبيرة لوالدة الإله. فطلب إلينا أن نجلب زنَّارها المقدس. كان في غاية الارتياح لوجود الزنّار المقدس في داديو، وقد استقبله بكل احترام وورع.
أخبرني، في المرة الأولى التي رأيتُه فيها، عما حدث مع القديس نكتاريوس، وكيف زاره في جنيف وقال له: “لنذهب ونجلس خارجاً، حيث يهبُّ النسيم” الخ… أما فيما يتعلّق بالحصاة التي خرجت من الكلية، فتلك أمور مُدهِشة وليست قصصاً للتسلية. ليست هي أموراً بسيطة، بل إنها في غاية الأهميَّة.
رقد الشيخُ أمبروسيوس بعد الشيخ بورفيريوس بخمسة عشر سنة، لكن في اليومِ نفسِه. كان رجلاً من رجال الله. الكنيسة هي جسد المسيح السِّرّي.
حينما نأتي إلى أثينا سوف نزورُه.
ألا نفعَنا الله بصلواتِه. بعد رقاده، أطلقتُ اسمَ أمبروسيوس على أحد الرهبان تخليداً لذِكراه.
كانت حياتُه شهادةً لحضور المسيح. لقد شددت حياتُه إيمانَنا.
ألا نفعَنا الله بصلواتِه!

admin:
Related Post