X

بحث في التراث الأرثوذكسي

الاستشهاد بحسب تعليم الرسول بولس

نقلها عن اليونانيّة بتصرّف جورج يعقوب

إن رسائل الرسول بولس الإلهي، لسان الروح القدس، تتضمن مادّة وفيرة عن لاهوت الاستشهاد، جوهره، هدفه وعظمته.

الاستشهاد سيرة يوميّة

بحسب الرسول بولس، لا يبدأ الاستشهاد في مكان الشهادة. فالشهيد، الذي يموت في موضع الاستشهاد، يعيش الشهادة يوميًا، مقدمًا ذاته دائمًا للموت، في سبيل يسوع المسيح، تقدمةً نابعة من القلب. الموت الاستشهاديّ هو ختمٌ وتعبير جدّي عن الاستشهاد ّالغير دمويّ مدى الحياة: “لأننا نحن الأحياء، نُسَلَّمُ دائمًا لِلموتِ مِنْ أجلِ يَسوعَ لِتَظهَرَ حياةُ يَسوعَ أيضًا في جسدِنا المائت” (2كور4: 11). لا تظهر الحياة الإلهيّة في المسيح في جسد المسيحي الفاني ولا تنقطع بالموت. فسرّ الحياة الجديدة في المسيح، بالروح القدّس، يتكوّن في شوق القلب العميق إلى الاستشهاد. فهو كسرّ، لا يتحدّد في وقت دهريّ حاليّ أي من لحظة الأسر مرورًا بالمحاكمة ومن بعد ذلك القتل. في مكان الاستشهاد، يُذبح وينتصر المسيحيون، كمعترفين بالإيمان، الأحياء “المحكوم عليهم بالموت” (1كور4: 9) في كلّ وقت وساعة. لا يجزع المسيحيون، “المحكوم عليهم بالموت” عند سماعهم “حكم الموت”، الذي هو قرار حكّام يعيشون تحت سلطة الموت.

الاستشهاد فرح

الاستشهاد هو كمين حزن، يركض نحوه بكلّ فرح الذين يصبرون على الضيقات ويفتخرون بها. بحسب اللاهوت البولسيّ، ضيقات المسيحيين، في سبيل اسم المسيح، تتميّز عن ضيقات البشر عامّةً. فكلّ ضيق، من أجل المسيح، يتسم “بالألم المقدّس” حتى ولو لم ينتهِ مباشرة بألم الموت الاستشهادي. يتحمّل المؤمن المسيحي الآلام في كلّ مرحلة الاستشهاد، وهو يشعر بالفخر وبالفرح المقدّسَين: “أفرح في آلامي…”(كول 1 : 24). قلب الشهيد هو قلبٌ مملوء بالفخر والفرح بسبب الآلام، يحلُم ليلاً ونهاراً بأثمار جهاد الشهادة. إن الفخر والفرح بالمسيح يسوع يخلقان مناخًا إلهيًا يتغذّى ويتحضّر من خلاله مواطنو السماء في ساحة الاستشهاد.

الاستشهاد موهبة

الاستشهاد هو موهبة سماويّة. موهبة الإيمان بالمسيح، موهبة إيمان جدًا قويّة، مختومة بدم الشهادة: “لأنّه قد وُهب لكم لأجل المسيح لا أن تؤمنوا به فقط بل وأيضا أن تتألموا لأجله” (في1: 29). الاستشهاد هو فخر، فرح وموهبة! لاهوت الشهادة كموهبة يفسّر العشق الإلهي والاجتهاد الذي للشهداء الحسني الظفر عند تسليم الجسد للاستشهاد. الشهداء، الذين يظهرون للعيان ذوو قلوب صلبة، غير متألمين، يتألمون بالحقيقة أثناء العذابات ويشعرون بقسوتها وحدّتها ولكنّهم يتسارعون إلى ساحة الاستشهاد حاملين في قلوبهم موهبة الشهادة التي من السماء! موهبة الاستشهاد يمدحها الرسول بولس متمنيًا الموت لأجل المسيح: “لأنّه مستعدٌ ليس أن أُربَط فقط بل أن أموت أيضًا في أورشليم لأجل المسيح” (أع21: 13). الشوق إلى الاستشهاد يتحوّل إلى “مسرّة”. الشهيد لا يصبر على العذابات بسبب الحاجة ولكن يُسَرّ ويتشدّد بالآلام في سبيل المسيح، يتوجّه للاستشهاد مُرنِّمًا ومرتِّلاً النشيد البولسيّ: “لذلك أسرّ بالضُعفات والشتائم والضرورات والاضطهادات والضيقات لأجل المسيح لأني حينما أنا ضعيف فحينئذٍ أنا قويّ” (2كور12: 10). العذابات تضعف الجسد، والألم يوّلد شعور الهروب والاستسلام، ولكن الشوق “للمسيح” يخلق في قلب الشهيد فخراً، فرحًا ومسرّةً هي مضمون سرّ هذه الموهبة.

الاستشهاد يكمّل “نقائص شدائد المسيح”

إن لاهوت رسول الأمم يرى في آلام الشهيد آلام الربّ يسوع. الشهيد يتحمّل ويُكمّل “نقائص شدائد المسيح في جسده” لأجل “جسد” المسيح “الذي هو الكنيسة” (كول1: 24).

ما هي نقائص آلام المسيح التي يكمّلها الرسول بولس وشهداء الكنيسة؟
الربّ يقدّم حياته ذبيحة على الصليب لأجل حياة العالم وخلاصه. ولكن آلام الشهداء، كآلام الكنيسة، هي أيضا آلام المسيح. جسد المسيح، الكنيسة، سيُطعَن بالحربة وسيتألّم حتى نهاية الأزمنة. الشهداء يتألّمون ويكمّلون “نقائص شدائد المسيح” لأنّ الكنيسة المتألّمة هي “المسيح إلى أبد الدهور”. فالشهيد الأول (المسيح) يعتبر آلام أخوته الشهداء آلامه الخاصّة. الشهداء، مماثلو المسيح، يكمّلون نقائص شدائد المسيح، ويظهرون مشاركين لآلام السيّد.
لا يخجل المسيح عندما يدعو المؤمنين إخوته. لهذا فهو لا يخجل أن يعتبر آلام الشهداء آلامه الخاصة. في شخص الشهداء يُضطَهَد المسيح نفسُه ويتألّم. إنّ السيّد المضطَهَد والمتألِّم يتوجّه نحو مضطهِد الشهداء بالصوت الذي سمعه شاول على طريق دمشق: “… لماذا تضطهدني؟… صعبٌ عليك أن ترفس مناخس” (أع26 :14-15).

الاستشهاد علامة لمحبة المسيح

أقوى سلاح للشهيد أثناء الاستشهاد هو الذكر الدائم لمحبّة المسيح. الصورة الإلهيّة “للمسيح الـمُمات” من أجلنا، تخلق عشقاً كبيراً لموت الشهادة. إغراءات المضطهِدين تبقى بدون جدوى وعقيمةً، بحيث أنّها لا تستطيع أن تبدّل عزيمة الشهيد في تقديم نفسه ذبيحة، مؤمناً بمحبة المسيح. الذي يثبت في محبّة المسيح يبقى غير متزعزع أمام الاضطهاد، الجوع، السيف، الذبح وسائر أنواع العذابات. ألم يُمَت المسيح عنّا؟ لماذا لا نموت نحن أيضاً من أجله ونحيا أبدياً في محبّته؟ ينشد شاعر المحبّة بولس الرسول في محبّة المؤمنين للاستشهاد قائلاً : “المَسيحُ يَسوعُ هوَ الذي ماتَ، بل قامَ، وهوَ الذي عَنْ يَمينِ الله يَشفَعُ لنا. فمَنْ يَفصِلُنا عَنْ مَحبَّةِ المَسيحِ؟ أتَفصِلُنا الشِّدَّةُ أمِ الضيقُ أمِ الاضطهادُ أمِ الجوعُ أمِ العُريُ أمِ الخطرُ أمِ السَّيفُ؟ فالكِتابُ يَقولُ: «مِنْ أجلِكَ نَحنُ نُعاني الموتَ طَوالَ النَّهارِ، ونُحسَبُ كغَنَمِ لِلذَبحِ«. ولكنَّنا في هذِهِ الشَّدائِدِ نَنتَصِرُ كُلَ الانتِصارِ بالذي أحَبَّنا. وأنا على يَقينٍ أنَّ لا الموتَ ولا الحياةَ، ولا الملائِكَةَ ولا رُؤساءَ الملائِكةِ، ولا الحاضِرَ ولا المُستَقبَلَ، ولا قِوى الأرضِ ولا قِوى السَّماءِ، ولا شيءَ في الخَليقَةِ كُلِّها يَقدِرُ أنْ يَفصِلَنا عَنْ مَحبَةِ الله في المَسيحِ يسوعَ ربِّنا” (رو8: 34- 39). الشهيد، لأجل محبته ليسوع المسيح، يفرح صابراً على العذابات و”كشاة إلى الذبح” يتوجّه نحو مكان الاستشهاد المبارَك مقدّماً نفسه محرقةً في سبيل ملك الخليقة بأسرها. آلاف العذابات تترصّد وتحاول أن تبعد الشهيد عن محبته للمسيح. إن الشهداء اللابسي الظفر والمجاهدين في سبيل الإيمان يهربون من أحابيل العالم وأمامهم صورة المسيح، متشوّقين للقاء ملك الدهور، ناكرين منازلهم وممتلكاتهم، واضعين نصب أعينهم الشهادة عالمين أنهم سيجنون لا الحياة الأبديّة مع المسيح فقط، بل المسيح نفسه!

العشق الإلهي نحو المسيح يولّد الصبر غير المتناهي في الشهداء أمام أنواع العذابات المتنوعة. الألم القويّ في سبيل العشق الإلهي ينقل الشهيد إلى حالة صبر حقيقيّة تفوق الوصف مقابل العذابات القاسية التي يتكبدها، والتي يعبّر عنها ناظم التسابيح بقوله: “لم يفصل المجاهدين الإلهيين عن محبة المسيح اضطهاد البتّة ولا جوع ولا عُريّ ولا هولٌ خطر ولا الموت نفسه”. (قانون المعزّي، اللحن السابع، الأودية السادسة من صباح الجمعة).

الاستشهاد علامة الحياة في المسيح

يرى اللاهوت البولسيّ في الاضطهاد، بشكل عام، سمات الحياة في المسيح. الإيمان الحقيقي يتعرّض دائمًا للاضطهاد. لا يوجد مسيحيون مؤمنون ولا يضطَهَدون. الإيمان يترافق دائماً بالاضطهاد. كان الرسول بولس يعلّم ويعيش الإيمان بالمسيح يسوع مطروداً ومعلماً عن الاضطهادات التي كان يتكبدها: ” … اضطهاداتي وآلامي مثل ما أصابني في انطاكية وإيقونية ولسترة. أيّة اضطهادات احتملت ومن جميعها أنقذني الرب. وجميع الذين يريدون أن يعيشوا بالتقوى في المسيح يسوع يُضطهدون” (2تيمو11:3-12) . عدم الخطر والعيش بدون اضطهاد يولّد التراخي. المسيحيون الذين هم من أصل يهودي يُختَتَنون لكي لا يُضطهدوا. دائماً يستترون تحت قناع التقوى والإيمان، إذ يعتبرون الختان صورة مثاليّة للتقوى، فهم يفتخرون بما للعالم وبما للجسد، “لئلاّ يُضطهدوا لأجل صليب المسيح” (غلا 6: 12). فالرسول بولس يتوجّه نحو كنائس المسيح مخاطباً مسيحيي مدينة تسالونيكي ومشيراً أن الإيمان والتقوى الحقيقيين الذي يتمتعان بهما مُدعاةٌ للفخر: “… من أجل صبركم وإيمانكم في جميع اضطهاداتكم والضيقات التي تحتملونها”. فالعالم “ليس مستحقاً لهؤلاء الشهداء” (عب 11: 38)، لهذه “السحابة من الشهود” (عب 12 :1) الذين عاشوا الإيمان الحقيقي في المسيح يسوع “مُعتازين، مُكرَبين، مُذَلين” (عب 37:11).

الاستشهاد عربون المجد الأبديّ

يعظّم اللاهوت البولسيّ، فيما يتعلّق بالشهادة، من رتبة الشهداء. فهم يتشبّهون “بالشهيد الأوّل” الربّ يسوع مسامِحاً أعداءه من على الصليب إذ باركهم عوض اللعنات، و صبر عليهم بدل الاضطهاد، وعزّاهم بدل التعييرات. إنّ الشهداء ينطقون دائماً بأقوال نشيد المحبّة: “نُشتم فنبارك، نُضطهد فنحتمل، يُفترى علينا فنعظ” (1كور 12:4-13).

إن الكمين أو الضيق المعدّ للشهداء يظهر خفيف الحمل أمام المجد الذي يناله الشهداء من السماء: “لأنّ خفّة ضيقنا الوقتيّة تُنشئ لنا أكثر فأكثر ثقل مجدٍ أبديًّا” (2 كور 17:4). لا تشكل التعذيبات للشهيد، كمواطن في السماء، ثقلاً لأنّه يترجّى المجد المنتظر معتبراً الآلام والعذبات وكأنّها لا شيء. ما يُرى بالنسبة للشهداء يتعدّى المرئيات والعالميات فهم “غير ناظرين إلى الأشياء التي تُرى بل إلى التي لا تُرى، لأنّ التي تُرى وقتيّة أمّا التي لا تُرى فأبديّة” (2كور 18:4). شهيد المسيح يسوع يقارن “عذابات هذا الدهر” “بالمجد المنتظر” قائلاً مع الرسول بولس: “إنّي أحسب أنّ آلام الزمان الحاضر لا تُقاس بالمجد العتيد أن يُستعلن فينا” (رو 18:8).

admin:
Related Post