إن رسائل الرسول بولس الإلهي، لسان الروح القدس، تتضمن مادّة وفيرة عن لاهوت الاستشهاد، جوهره، هدفه وعظمته.
الاستشهاد سيرة يوميّة
بحسب الرسول بولس، لا يبدأ الاستشهاد في مكان الشهادة. فالشهيد، الذي يموت في موضع الاستشهاد، يعيش الشهادة يوميًا، مقدمًا ذاته دائمًا للموت، في سبيل يسوع المسيح، تقدمةً نابعة من القلب. الموت الاستشهاديّ هو ختمٌ وتعبير جدّي عن الاستشهاد ّالغير دمويّ مدى الحياة: “لأننا نحن الأحياء، نُسَلَّمُ دائمًا لِلموتِ مِنْ أجلِ يَسوعَ لِتَظهَرَ حياةُ يَسوعَ أيضًا في جسدِنا المائت” (2كور4: 11). لا تظهر الحياة الإلهيّة في المسيح في جسد المسيحي الفاني ولا تنقطع بالموت. فسرّ الحياة الجديدة في المسيح، بالروح القدّس، يتكوّن في شوق القلب العميق إلى الاستشهاد. فهو كسرّ، لا يتحدّد في وقت دهريّ حاليّ أي من لحظة الأسر مرورًا بالمحاكمة ومن بعد ذلك القتل. في مكان الاستشهاد، يُذبح وينتصر المسيحيون، كمعترفين بالإيمان، الأحياء “المحكوم عليهم بالموت” (1كور4: 9) في كلّ وقت وساعة. لا يجزع المسيحيون، “المحكوم عليهم بالموت” عند سماعهم “حكم الموت”، الذي هو قرار حكّام يعيشون تحت سلطة الموت.
الاستشهاد فرح
الاستشهاد هو كمين حزن، يركض نحوه بكلّ فرح الذين يصبرون على الضيقات ويفتخرون بها. بحسب اللاهوت البولسيّ، ضيقات المسيحيين، في سبيل اسم المسيح، تتميّز عن ضيقات البشر عامّةً. فكلّ ضيق، من أجل المسيح، يتسم “بالألم المقدّس” حتى ولو لم ينتهِ مباشرة بألم الموت الاستشهادي. يتحمّل المؤمن المسيحي الآلام في كلّ مرحلة الاستشهاد، وهو يشعر بالفخر وبالفرح المقدّسَين: “أفرح في آلامي…”(كول 1 : 24). قلب الشهيد هو قلبٌ مملوء بالفخر والفرح بسبب الآلام، يحلُم ليلاً ونهاراً بأثمار جهاد الشهادة. إن الفخر والفرح بالمسيح يسوع يخلقان مناخًا إلهيًا يتغذّى ويتحضّر من خلاله مواطنو السماء في ساحة الاستشهاد.
الاستشهاد موهبة
الاستشهاد هو موهبة سماويّة. موهبة الإيمان بالمسيح، موهبة إيمان جدًا قويّة، مختومة بدم الشهادة: “لأنّه قد وُهب لكم لأجل المسيح لا أن تؤمنوا به فقط بل وأيضا أن تتألموا لأجله” (في1: 29). الاستشهاد هو فخر، فرح وموهبة! لاهوت الشهادة كموهبة يفسّر العشق الإلهي والاجتهاد الذي للشهداء الحسني الظفر عند تسليم الجسد للاستشهاد. الشهداء، الذين يظهرون للعيان ذوو قلوب صلبة، غير متألمين، يتألمون بالحقيقة أثناء العذابات ويشعرون بقسوتها وحدّتها ولكنّهم يتسارعون إلى ساحة الاستشهاد حاملين في قلوبهم موهبة الشهادة التي من السماء! موهبة الاستشهاد يمدحها الرسول بولس متمنيًا الموت لأجل المسيح: “لأنّه مستعدٌ ليس أن أُربَط فقط بل أن أموت أيضًا في أورشليم لأجل المسيح” (أع21: 13). الشوق إلى الاستشهاد يتحوّل إلى “مسرّة”. الشهيد لا يصبر على العذابات بسبب الحاجة ولكن يُسَرّ ويتشدّد بالآلام في سبيل المسيح، يتوجّه للاستشهاد مُرنِّمًا ومرتِّلاً النشيد البولسيّ: “لذلك أسرّ بالضُعفات والشتائم والضرورات والاضطهادات والضيقات لأجل المسيح لأني حينما أنا ضعيف فحينئذٍ أنا قويّ” (2كور12: 10). العذابات تضعف الجسد، والألم يوّلد شعور الهروب والاستسلام، ولكن الشوق “للمسيح” يخلق في قلب الشهيد فخراً، فرحًا ومسرّةً هي مضمون سرّ هذه الموهبة.
الاستشهاد يكمّل “نقائص شدائد المسيح”
الاستشهاد علامة لمحبة المسيح
الاستشهاد علامة الحياة في المسيح
يرى اللاهوت البولسيّ في الاضطهاد، بشكل عام، سمات الحياة في المسيح. الإيمان الحقيقي يتعرّض دائمًا للاضطهاد. لا يوجد مسيحيون مؤمنون ولا يضطَهَدون. الإيمان يترافق دائماً بالاضطهاد. كان الرسول بولس يعلّم ويعيش الإيمان بالمسيح يسوع مطروداً ومعلماً عن الاضطهادات التي كان يتكبدها: ” … اضطهاداتي وآلامي مثل ما أصابني في انطاكية وإيقونية ولسترة. أيّة اضطهادات احتملت ومن جميعها أنقذني الرب. وجميع الذين يريدون أن يعيشوا بالتقوى في المسيح يسوع يُضطهدون” (2تيمو11:3-12) . عدم الخطر والعيش بدون اضطهاد يولّد التراخي. المسيحيون الذين هم من أصل يهودي يُختَتَنون لكي لا يُضطهدوا. دائماً يستترون تحت قناع التقوى والإيمان، إذ يعتبرون الختان صورة مثاليّة للتقوى، فهم يفتخرون بما للعالم وبما للجسد، “لئلاّ يُضطهدوا لأجل صليب المسيح” (غلا 6: 12). فالرسول بولس يتوجّه نحو كنائس المسيح مخاطباً مسيحيي مدينة تسالونيكي ومشيراً أن الإيمان والتقوى الحقيقيين الذي يتمتعان بهما مُدعاةٌ للفخر: “… من أجل صبركم وإيمانكم في جميع اضطهاداتكم والضيقات التي تحتملونها”. فالعالم “ليس مستحقاً لهؤلاء الشهداء” (عب 11: 38)، لهذه “السحابة من الشهود” (عب 12 :1) الذين عاشوا الإيمان الحقيقي في المسيح يسوع “مُعتازين، مُكرَبين، مُذَلين” (عب 37:11).
الاستشهاد عربون المجد الأبديّ