X

بحث في التراث الأرثوذكسي

غريغوريوس بطريرك المشرق

سامر عوض

الإنسان في الفكر المسيحي عموماً والأرثوذكسي منه خصوصاً له بعد عميق شيق فمن أجله جاء الابن إلى العالم مرتضياً أن ينـزل من عند الآب وأن يولد ويبشر ويتعذب ويموت مسمراً على الصليب كالملك المتربع على عرشه وكما أن الإنسان هو غاية الله كذلك كان بالنسبة لبطريرك إنطاكية غريغوريوس فإنه قد أحب الفقير والمحتاج والمرذول.. أحب فيهم أجمل ما بداخلهم، ألا وهو صورة الله فكان طويل المراس في مساعدة الآخرين لأنه عمق شعوره بمحبة الله عن طريق محبة البشر. سيرة حياة هذا البطريرك لا تكتب من أجل التأمل أو الاستزادة المعرفية بل من أجل التمثل بإنسان نعثر على سيرة حياته في سنكسار “القديسون المنسيون” في التراث الأنطاكي وكأن نهجه منسى بيننا نحن الأنطاكيين.

ولد غنطوس جرجس حداد في الأول من تموز 1859 والدته هند سليم. وتلقى علومه الابتدائية والتكميلية في مدارس عبيه البروتستانتية حتى سنة 1872 وكان من التلاميذ المتفوقين، مال غنطوس إلى التقشف مما استرعى انتباه المطران غفرائيل شاتيلا مطران بيروت ولبنان آنذاك والذي طلب من والده أن ينضم للمدرسة الاكليركية التي أنشأها فأصبح من مريدي المطران شاتيلا في 10/5/1872 وأنهى دروسه الاكليركية في 1875 وتخرج منها متقناً اللغتين العربية واليونانية وملماً بالروسية والتركية وفي 24/12/1875 عين غنطوس حداد كاتباً في مطرانية بيروت وألبسه المطران الاسكيم الرهباني في 19/12/1877 في دير سيدة النورية تحت اسم غريغوريوس وسيم شماساً إنجيلياً عام 1879 وأنشأ جريدة الهدية في بيروت سنة 1883 التابعة لجمعية التعليم المسيحي وكان رئيس تحريرها حتى سنة 1888، عرَّب مقالات وخطباً عديدة لتنشر في جريدة الهدية وسعى لتجديد مطبعة القديس جاورجيوس في بيروت، وأشرف على إعادة طبع كتابي السواعي الكبير والمزامير وأنشأ مكتبة في دار المطران ليحفظ فيها الكتب والمخطوطات. صار نائباً للمطران غفرائيل في جمعية القديس بولس ليقوم بتحسين أداء الطقوس في الكنائس والاهتمام بأمور التنشئة المسيحية والتعليم الديني، فازدهرت الجمعية حينها بفضل جهود الشماس غريغوريوس.

سيم غريغوريوس كاهناً على يد المطران غفرائيل شاتيلا في 6/5/1890 ونال نعمة رئاسة الكهنوت في 10/5 من العام نفسه على يد البطريرك جراسيموس كخلف لمطران طرابلس المثلث الرحمات صفرونيوس نجار.

بعد دخوله أبرشية طرابلس عمل على إعادة فتح مدرسة بكفتين وجددها وأنشأ مكتبة في دار المطرانية وبعد أن عينه المجمع المقدس وكيلاً لمدرسة البلمند الاكليركية سنة1900 تعهدها وعمل فيها واستقدم الأساتذة من بيروت، ووضع شروطاً للدخول فيها وأعلن قانون المدرسة وأشرف على الامتحانات بنفسه.

كان مجاهداً في سبيل إعادة البطريركية للوطنيين فأسهم في الجبهة العربية الانطاكية التي تزعمها المطران غفرائيل شاتيلا فنجح في استمالة بعض المطارنة إليها وتم انتخاب وتنصيب مطران اللاذقية ملاتيوس (الدوماني) بطريركاً عربياً على الكرسي الأنطاكي.

لكثرة أعمال الرحمة التي قام بها، متشبهاً بسيده الذي أقامه ليرعى كنيسة الله التي افتداها بدمه، سُمّي الشارع الذي كانت فيه مطرانية الروم الأرثوذكس بشارع غريغوريوس حداد إلى اليوم (في طرابلس)، ويوجد في بيروت بمنطقة المصيطبة شارع على اسمه هو شارع البطريرك غريغوريوس حداد).

شيَّد وكرّس المطران غريغوريوس كنائس عديدة على اسم القديس سمعان العمودي 1892، النبي إلياس، رئيس الملائكة ميخائيل، وشيد سنة 1900 مدرسة مار إلياس..

تأسست ببركة سيادته جمعية دفن الموتى (الميناء – طرابلس) سنة 1896 وجمعية البر المسيحي الأرثوذكسي (الميناء – طرابلس) سنة 1899 والتي تعنى بمساعدة العائلات المحتاجة بواسطة المواد الغذائية والدواء. وجمعية رجاء الوطن الخيرية من أول آب 1904 وجمعية السيدة الأرثوذكسية لعضد اليتامى عام 1906 والأخوية الأرثوذكسية سنة 1900.

عندما حل بطرابلس وباء الكوليرا (الهواء الأصفر) همَّ بالفرار الكثير من أبناء طرابلس ولكن المطران غريغوريوس بقي في المدينة فعندما سأله مقربون منه عن سبب بقائه، أجاب ذلك الذي اقتنى المحبة نحو الجميع أن نفسه ليست أفضل من نفوس الذين لا يستطيعون الفرار من الوباء.

ألقى المطران غريغوريوس خطاباً يوم تنصيب ملاتيوس بطريركاً على أنطاكية في ختام القداس فدبج خطابه بأبلغ العبارات فأبدع الصياغة.

عقب وفاة البطريرك ملاتيوس التأم المجمع الأنطاكي المقدس برئاسة القائم مقام البطريركي راعي أبرشية حمص المثلث الرحمات المطران أثناسيوس (عطا الله) وأعيان الملة في دمشق وفي 5/6/1906 تم انتخاب مطران طرابلس غريغوريوس حداد بطريركاً على مدينة الله أنطاكية العظمى كثاني بطريرك عربي والبطريرك الـ161 بعد بطرس الرسول تحت اسم غريغوريوس الرابع بعد أن اعتلى العرش البطريركي ثلاثة بطاركة تحت هذا الاسم في القرنين الأول والثاني.

أُقيم حفل التنصيب في 13/8/1906 وبعد ذلك بيوم واحد أرسل البطريرك رسائل الجلوس كبطريرك جديد إلى بطاركة العالم الأرثوذكسي ورؤساء الكنائس المستقلة فبادلوه الترحيب والدعاء والبركة والشكر والامتنان.

شدّد البطريرك غريغوريوس على رعاية الاكليروس من خلال التعليم، التثقيف والتوعية وتقديم المساعدات فكان يراسل من أجلهم دول الخارج وإذا لم يستجيبوا يعطي من ماله غير مبالٍ والمحفوظات البطريركية أكبر دليل على ذلك فقد كان يرسل للكهنة في الأعياد الهدايا المادية وكان يرسل للأساقفة حاثاً إياهم على مساعدة الكهنة المحتاجين وكان يقبل الشكاوي التي ترد إليه برحابة صدر ملفتة. وكان يتعامل مع الجميع بروح الشورى ويعالج الأمور بحكمة.

رسم مطارنة على الأبرشيات الشاغرة وهي أبرشيات: صور وصيداء – ديار بكر – بصرى حوران – طرابلس – حماة – حمص – بعلبك وزحلة كما وقد رسم غبطته أول مطران على ريو دي جانيرو وسائر البرازيل هو المطران ميخائيل شحادة عام 1921 وأول مطران على نيويورك وسائر أمريكا هو المطران فيكتور أبو عسلي سنة 1923 وانتخب المجمع المقدس الأرشمندريت إيليا الصليبي أسقفاً معاوناً لمطران بيروت جراسيموس مسرة الذي كان قد تقدم في السن وانتابه المرض.

كان يؤآزر أبناء رعيته في مواجهة ظروف المعيشة والتعليم والتجنيد الصعبة الملقاة على كاهل المواطنين، وقام بزيارات رعائية ضمن حدود البطريركية فزار أبرشيتي بصرى حوران وزحلة وبعلبك عام 1911 وطرابلس والكورة عام 1912 وزار أبرشية جبل لبنان وقال حينها مادحاً وطنه:

بلادي وإن جارت عليَّ عزيزة وأهلي وإن شحوا كرام

وبغرض تمتين العلاقات وتشديد أواصر العلاقات الأرثوذكسية على مستوى الكرسي الأنطاكي والكراسي البطريركية الأخرى والكنائس المستقلة، قام غبطته بزيارة خارجية إلى روسيا سنة 1913 فاستُقبل فيها بشكل مهيب يليق به، وزار إزمير في آسيا الصغرى واستقبله فيها غبطة البطريرك المسكوني.

كان البطريرك غريغوريوس السبّاق دائماً لحل المشاكل والخلافات بين أبناء رعيته كما في حي الميدان بدمشق وكوسبا وبشمزين وطرابلس وغيرها، فكان بحق العين الساهرة والمواظبة لرعاية الأبناء، منارة المسيح بين الناس كقمر يعكس نور المسيح المتدفق كنهر رقراق يبلسم الجروح ويحضن بحنانه من هم حوله.

أُسست على عهد البطريرك غريغوريوس عدة مدارس من بينها المدرسة البطريركية في أنطاكية 1908 وكلية حمص الأرثوذكسية 1910 ومدرسة قبع سنة 1910 ومدرسة القديس يوحنا السابق في دوما في لبنان سنة 1911 ومدرسة البستان (داخلية – خارجية) التي أسست ما بين عامي 1910-1915 ومدرسة جديدة مرجعيون للذكور وأخرى للإناث سنة 1907 ومدرستي حاصبيا صور للذكور والإناث سنة 1907.

أرسل الإكليروس إلى الخارج لمتابعة التحصيل العلمي، فإلى روسيا أرسل: أبيفانيوس زائد (مطران حمص)، الأرشمندريت أثناسيوس كليلة (مطران حوران لاحقاً)، ألكسندروس جحا (مطران حمص لاحقاً)، غفرائيل دميان (مطران اللاذقية لاحقاً)، وإلى القسطنطينية وبلاد اليونان أرسل: إغناطيوس حريكة (مطران حماة)، وثيوذوسيوس أبو رجيلي (مطران طرابلس)، ونقولا عبد الله (الناصرة) مطران أكسوم من البطريركية الاسكندرية. بالاضافة إلى الذين درسوا في عاصمة رومانيا بغرض التخصص في الفنون العصرية والذين درسوا في الجامعة الأمريكية.

عقد على عهد البطريرك غريغوريوس الرابع ستة مجامع 1907-1910-1913-1921-1923-1928 وكان ينوي جعل المجامع دورية ولكن الظروف القاهرة كانت تمنع تحقيق هذا الحلم، من الحرب الإيطالية العثمانية 1912 وحرب البلقان 1913 واحتلال العرب والانكليز لدمشق سنة 1918 وأهم ما حدث وبحث في المجامع هو وضع نظام رسمي للبطريركية الأنطاكية الأرثوذكسية والمأخوذ من قانون بطريركية القسطنطينية الأرثوذكسية وذلك في مجمع 1907 ولقد كان البطريرك غريغوريوس حريصاً على حل المشاكل والخلافات ونكأ الجراح التي تنشأ بين أبناء رعيته من مطارنة وكهنة وعلمانيين.

يروى عنه عدة أمور تدعو للعجب، منها: في إحدى المرات رأى من نافذة مكتبه قوّاصه يدفع رجلاً جاء سائلاً رغيف خبز إلى خارج البطريركية، فدعا البطريرك القواس وطلب منه إحضار رغيف خبز وقال له: “انظر إلى الرغيف، هل كتب عليه اسم من سيأكله؟ أعطه إلى كل محتاج يأتي إلى البطريركية فالرغيف ليس لأهل البطريركية بل لكل طارقٍ لأبوابها”.

باع صليبه الذي قدمه له قيصر روسيا نيقولا الثاني لسدّ احتياجات كافة الناس من كل الشرائح والذين نكلت بهم الحرب العالمية الأولى جوعاً وموتاً ومرضاً.

هو الوحيد من بين رجال الدين والسياسة الذي ذهب ليودع صديقه الملك فيصل الأول ملك سورية تحت وابل من الرصاص، قائلاً له أن هذه اليد التي بايعته ستبقى على العهد إلى الأبد فما كان من الملك فيصل إلا أن قبل يد البطريرك باكياً.

في 12/12/1928 انتقل البطريرك غريغوريوس الرابع إلى الأخدار السماوية حيث الراحة الأبدية بعد مسيرة طويلة قضاها في الجهاد والاجتهاد لتحقيق حلم بناء كنيسة المسيح.

قبيل وفاته أظلم بصره فأجريت له عملية جراحية في بيروت وبعد تماثله للشفاء عقد المجمع الأنطاكي المقدس دورته السادسة في سوق الغرب، وعند قرب انتهاء جلسات المجمع رقد البطريرك غريغوريوس ونقل جثمانه بموكب مهيب إلى دمشق ولدى مرور الموكب ببعلبك قال مفتي البقاع صارخاً وباكياً: “لو أجاز لنا ديننا الاعتراف بنبي بعد محمد لقلت إنك أنت هو” وفي بيروت قال الشيخ مصطفى غلاييني: “لقد ادعاك النصارى والمسلمون والكل يزعم أنك بطريركه أما أنا فأقول أنك لم تكن بطريرك طائفة من الطوائف وإنما بطريرك الإنسانية الفاضلة”.

استقبل الجثمان عند مدخل دمشق أكثرُ من خمسين ألفاً من المواطنين وأطلقت المدفعية السورية مئة طلقة وطلقة حزناً على الفقيد الكبير كما وأرسل الملك فيصل بن الحسين من العراق مئة فارس وخيّال مع برقية يعزي فيها نفسه أولاً.

عقب صلاة الجناز ووري الثرى في مقبرة البطاركة الأنطاكيين لتطوى برحيله صفحة من الجهاد المرير قضاها في حياة التقوى والبناء والبنيان على الأصعدة كافة وسيبقى راسخاً في الضمير الإنساني لما قدمه من تضحيات فأثمن ما ملك هو فأغنى ما في الوجود محبته لله من خلال رعايته للبشر واعتنائه بالحجر من كنائس ومدارس وجمعيات فكان رجل نهضة فكرية، ثقافية، اكليسيولوجية، إنسانية لأنه عمَّق روعة وجود المصلوب في قلبه فكان نشيطاً لا يعرف التعب والكلل إليه سبيلاً، فلو كتبنا الكثير لن نفيه حقه علينا لأنه رجل حق وحقيقة بما قدم وصنع لأنطاكية على وجه الخصوص وللإنسانية جمعاء على وجه العموم فقد نال العديد من الأوسمة من الدول العثمانية واليونانية والروسية.

المصدر:

دبس، ماري مالك، البطريرك غريغوريوس الرابع حداد، أطروحة لنيل درجة الماستر في اللاهوت من معهد القديس يوحنا الدمشقي اللاهوتي، غير منشورة.

المراجع:

1.المعلوف، عيسى اسكندر، ذكرى مرور السنة الأولى….

2.اناطكي بك، عبد المسيح، الآلئ السنية

3.فياض، سمير، غريغوريوس الرابع بطريرك أنطاكية ودوره في الأزمة البطريركية الأنطاكية

4.أسعد، الخوري عيسى، سلاسل تاريخية

5.كتاب تاريخ الصحافة العربية

6. محفوظات أبرشية بيروت للروم الأرثوذكس، الجزء الثاني

7.حبيب، عبد الله، تراجم علماء طرابلس وأدبائها

8.عبود، سناء، دير البلمند

9.مجلة المحبة، ع 48 سنة 1899-1900

10.عبس، فريدا حداد: مؤتمر عبيه

11.حبلص، د.فاروق: طرابلس المساجد والكنائس

12.سابا، رفعت، جوانب من تاريخ الكورة

13.قربان، المطران إلياس، كلمات وذكريات

14.الرملاوي، نيقولا، مدرسة مار إلياس

15.توما، جان، الأرثوذكس بشراً وحجراً

16.مجلة الكلمة، أيار – حزيران 1982

17.خير الله، أمين، الأرج الزاكي

18.مجلة النعمة، 15/7/1909

19.مجلة النعمة، سنة 1911

20.مجلة النعمة، سنة 1913

21.لجنة الدراسات الأرثوذكسية، أعلام أرثوذكسيون في لبنان

22.الجد، مشلين رستم، الممارسة الدينية في قرية قلحات

23.اسطفان، الأب نايف، تاريخ أبرشية صور وصيدا

24.محفوظات بطريركية أنطاكية في دمشق، الجزء الثاني

25.هزيم، غطاس كامل، المطران غريغوريوس جبارة مطران حماة وتوابعها

26.لعازر هلم خارجاً، مطرانية بصرى حوران وجبل العرب والجولان

27.جريدة الألف الثالث، 20/3/2003

28.زيتون، جوزيف، الآسية مسيرة قرن ونصف

المقابلات

1.مقابلة مع حلا أغابيوس حبيب في كوسبا الكورة، شباط 2003

2.مقابلة مع نخيل ساسين مالك من قره باش

admin:
Related Post