الإنسان الدهري والإنسان المسيحي
كاهن أرثوذكسي
كثيرون من الكتّاب الأرثوذكسيين تكلّموا عن طبيعة العالم الدهري، أي الشكل المحدِّد للحداثة. أغتنم الفرصة هنا لأقدّم مقارنة صغيرة بين الإنسان الدهري والإنسان المسيحي.
قد يؤمن الإنسان الدهري بالله، لكنّه يؤمن أيضاً بأنّ وضع العالم وحصيلته وقفٌ على أعمال البشر. الإنسان المسيحي يؤمن بأنّ الله موجود وكلّ الأمور بيده.
يؤمن الإنسان الدهري بالتطور. فالحياة تتغيّر، ومع التوجيه الإنساني الصحيح تتغيّر نحو الأفضل. فكلّ اكتشاف جديد يقوم على كتف الاكتشاف السابق. بهذه الطريقة تتطوّر الحياة ودوماً نحو الأفضل. يؤمن الإنسان المسيحي بأنّ ما يقوم به الإنسان قد يغيّر ظروفه ولكنّه لا يغيّر الإنسان نفسه. الإنسان المعاصر ليس أرفع، ولا بأي شكل من الأشكال، من الذين أتوا قبله. فالصلاح ليس نتيجة التطور.
يؤمن الإنسان الدهري بقوة البشر. ويؤمن بأنّ المنطق، إذا ما طُبِّق بشكل معقول على أيّ وضعية، لا بد أن يؤدي إلى نتيجة أفضل. يؤمن الإنسان المسيحي بالله ويرتاب في صلاح الإنسان. الحلول البشرية هي دائماً موقع شك وقابلة للفشل.
ويعتقد الرجل الدهري، في نهاية المطاف، في أنّ للتقدم مسار سَلِس على الرغم من إمكانية وجود بعض النكسات على طول الطريق. فهو مؤمن بأنّ مواصلة طريق التقدم سوف تسفر في النهاية إلى عالم أفضل، لا بل عالم شبه كامل.
لأن المسيحي يؤمن بالله يكون على ثقة من أن نتائج التاريخ هي لله وليست للإنسان. وهكذا، حتّى الأشياء التي قام بها الرجل والتي هي بالنسبة لنا جيدة فإنها تخضع مستقبلاً للحكم من الله الصالح الذي أهدافه دائماً أبعد مما يسعنا أن نسأل أو أن نفتكر. بالرغم من الإخفاقات المختلفة، يؤمن الإنسان الدهري بأنّ ما يفصله عن الخير القادم هو خطة جيدة لا غير. فالتسوية والمفاوضة والرغبة في التغيير سوف تحلّ كلّ المشاكل في النهاية. المسيحي من جهته، يفهم إمكانية الخطيئة البشرية ويعرف أنّ من دون الله تسقط الأمور دوماً وتتبدد. فقط من خلال الثقة بالله والطاعة له يمكن للوضع البشري أن يتحسّن، وهذا التحسّن يأتي دائماً كمعجزة من الله.
لا يؤمن الإنسان الدهري بقابليته للسقوط. لا يتعلّم من التاريخ بل يرنو بشكل متكرر إلى النجاح حيث لم يبلغ أحد من قبل. وكل نجاح يعرفه في حقل ما (كالعلاج الطبي للأمراض مثلاً) يترجمه بسرعة إلى تعابير سياسية، فالشيء الخاطئ سياسياً يمكن استئصاله بسهولة كالملاريا. بينما يعرف الإنسان المسيحي أن المشاكل لا تكمن في العالم بقدر ما تكمن في داخل نفسه. ما لم يتغيّر الإنسان على يد الإله الصالح فالصلاح الموجود في العالم يبقى محدوداً جداً. يعرف الإنسان الدهري كيف يعالج الملاريا لكنه يعجز عن إدارة المشاركة الفعلية لهذه المعرفة مع العالم. العالم (الثالث تحديداً) يموت كما كان يموت دائماً، فيما الإنسان الدهري عاجز لأنّه يفتقد الصلاح. الإنسان المسيحي غالباً ما هو مهمّش في هذا العالم الحديث، فهو يُعتَبَر نتاجاً اصطناعياً من الماضي. مع ذلك، هو ليس نتاجاً اصطناعياً دينياً، فالحقيقة التي يعرفها أبدية وتنطبق على أسقام العالم شأنها شأن كل أجزاء حقيقة الله.
إن على هذا الجيل أن يفهم معنى أن يكون الإنسان مسيحياً وألاّ يقيم تسويات مع الإنسان الدهري. الله بارّ ويريد الخير لكل البشر. الربّ ليس نفعياً يرغب بالخير الأعظم للأكثرين، بل هو يريد الخير لكل النفوس.
على رجاء أن يكون المسيحيون منظورين في كل مكان، وحيثما وجدوا أن يكونوا مخلِصين لملكوت الله.