X

بحث في التراث الأرثوذكسي

الشيطان وكيفية مواجهته – 1

الأرشمندريت باسيليوس باكويانيس

نقله إلى العربية الأب أنطوان ملكي

هذا النص هو الجزء الأول من كتاب ” الشيطان وكيفية مواجهته” الذي سوف يُنشَر على مراحل.

1. الشيطان

المس الشيطاني

أفضل البراهين على وجود الشيطان هو شخص ممسوس. لكلّ مَن لا يؤمن بوجود الشيطان نقول: “تعالَ وانظر. تعالَ وانظر الشيطان حياً في شخص ممسوس”.

الألم

يصعب التعرّف على الممسوسين: يتشوّش الوجه، يفتل الرأس، يتثاءب الفم فيما يخرج اللسان منه والضحية يصرخ. يكون المنظر رهيباً بالفعل. في هذه الحالة، قد يكشف الممسوس كلّ “أعمالنا” (أي خطايانا)، ليس بشكل عام ومبهَم وحسبْ بل أيضاً بالتفصيل. من دون أن يعرفنا، قد يذكر الممسوس اسمنا والمكان الذي كنّا فيه والأمور التي قمنا بها في المساء السابق ومع مَن كنّا… جدير بالذكر أن ما اعترفنا به يعجز الممسوس عن ذكره.

أسئلة: كيف يعرف الممسوسون أسرارنا؟ لماذا لا يرون الخطايا التي اعترفنا بها؟

الارتعاش

خلال النوبة، يظهر الممسوسون عوارض أخرى:

– خلال القداس الإلهي يشعرون بالاحتراق، مع أنهم لا يشعرون بذلك عند رؤيتهم للنار.

– أمام الصليب المقدس، يشعرون وكأنّهم يتقطّعون إرباً، مع أنهم لا يحسّون بذلك عند رؤيتهم للسكاكين.

– عندما يرسم الكاهن إشارة الصليب عليهم بالحربة التي يستعملها في قطع قرابين التقدمة يشعرون بأن جسدهم يُثقَب. عندما فعل أحد الكهنة ذلك راح الممسوس يصرخ: “لماذا تغرِز هذا السكين في جسدي؟ لماذا تشدّ على الحربة وتمزّق لحمي؟” مع أن هذا الشخص، في الأحوال العادية، كان بوسعه احتمال ضربة سكين حاد من دون أن يصرخ.

– عندما ينظرون إلى الرفات المقدسة، يشعرون بأنهم على نار.

أسئلة: لماذا يخشى الممسوس القداس الإلهي ولا يخشى، على سبيل المثال، عملية جراحية في القلب؟ لماذا يرهب من الصليب المقدس الذي هو، في نهاية الأمر، قطعتان من الخشب ولا يرهب من السكين الحاد؟ لماذا يشعر بأنه يتقطّع عندما تُرسَم إشارة الصليب عليه؟ لماذا يخشى رفات القديسين، أمثال القديس جراسيموس الراهب الفقير المحبّ، ولا يخشى بقايا المتعطشين للدم مثل لينين الذي قتل الملايين؟

“شيء ما…”

كل ما سبق ذكره يظهر لنا أن هناك شيئاً ما في الممسوس مما يجعل الصليب الكريم والقداس الإلهي ورفات قديسينا يزعجونه بشكل سيء. وهذا “الشيء ما” هو نفسه الذي يكشف خطايانا السرية، إلا إذا كنّا قد اعترفنا بها. بالنسبة لنا نحن المسيحيين، هذا “الشيء ما” هو الشيطان. ماذا عن غير المؤمنين؟ أيكتفون بإعادة الأمر إلى علم النفس؟

هناك بالطبع بعض العلماء الذين يعلنون أن كلّّ هذا سوف يوضحه يوماً آلهة “العِلم”. إنهم واثقون من ذلك. مع هذا، قد لا يكون هذا هو الحال لكونه في المستقبل. فلماذا هم واثقون؟ أي نوع من المنطق هو هذا؟ لا نهتمنّ. إذا برهن العلم في المستقبل أن هذا الشيء هو الشيطان، هل سوف يؤمن هؤلاء العلماء؟

تعطّش الشيطان للدم

يُظهِر الممسوس مدى تعطش الشيطان للدم ومدى قساوته في تعذيب الناس. إليكم بعض الأمثلة من الإنجيل: الرجل الذي كان ابنه معذباً من الشيطان قال للمسيح: “وَحَيْثُمَا أَدْرَكَهُ يُمَزِّقْهُ فَيُزْبِدُ وَيَصِرُّ بِأَسْنَانِهِ وَيَيْبَسُ… وَكَثِيرًا مَا أَلْقَاهُ فِي النَّارِ وَفِي الْمَاءِ لِيُهْلِكَهُ”. بعض الذي يعرفون “كل شيء” يعيدون هذا الأمر إلى إصابة الصبي بالصَرَع. لكن يوليوس قيصر الذي عاش قبل المسيح بزمان كان مصاباً بالشيء نفسه. شعوب العالم القديم كانوا على علم بالفرق بين الصَرَع والمسّ. لم يكونوا “متخلّفين” كما يحلو لنا أن نفكّر. ممسوس آخر لم يكن يسكن في منزل بل يدور في الصحارى والحقول عارياً صيفاً شتاءً. آخر من الممسوسين كان يرمي نفسه بالنار ليحترق فيما آخر يرمي نفسه في الماء ليغرق. مجنونا كورة الجرجسيين كانا عنيفين جداً حتى أن أحداً لم “يَقْدِرُ أَنْ يَجْتَازَ مِنْ تِلْكَ الطَّرِيقِ” (متى 8). لقد كانا مصدر أذى للآخرين.

قوة غير طبيعية

إذا أُوقفت الشرطة أحد المجرمين وقيّدت يديه، يصير عاجزاً عن فكّ قيوده مهما كان قوياً. هذا لا ينطبق على الممسوسين. إذا قُيِِّّدوا، حتى ولو كانوا مشلولين، فهم قادرون على فكّ القيود. يخبرنا الرسول لوقا أنّ الممسوس الذي كان في كورة الجدريين كان “قَدْ رُبِطَ بِسَلاَسِل وَقُيُودٍ مَحْرُوسًا، وَكَانَ يَقْطَعُ الرُّبُطَ”. أي بعد أن يتمّ تثبيته بالسلاسل كان يفكّها!

لم يكن الرجل هو الذي يفكّ السلاسل بل الشيطان الذي فيه. هذا يبرهن بوضوح أن للشيطان قوة فوق البشرية. لذا يقدر على القيام بالعلامات والعجائب. إذا أراد، فهو قادر على أن يثير زوبعة تخرّب البيوت وتقتلع الأشجار، يحرّك عاصفة تغرِق السفن، يغرِق الناس والوحوش، يسبب زلزالاً يسوّي المدن بالأرض. لكنه يحجم عن ذلك. لماذا؟ ألا يرغب بقلب كل شيء رأساً على عقب؟ بالطبع هو يرغب بذلك، لو استطاع. لكن الله يمنعه عن القيام بهذا. لو لم يكن الله يحفظ هوس الشياطين مضبوطاً، لكنّا نراهم يلعبون بالعالم مثل الكرة.

هل يحاربنا الشيطان؟

إن الشيطان المبغض للبشر يحاربنا بأسلحة يمكن رؤيتها وسماعها (حجارة وهراوات وغيرها)، كما بأسلحة صامتة وغير مرئية. أحد هذه الأسلحة هي الأفكار. إنه يزرع الأفكار في رأسنا لكي نضعها نحن قيد التنفيذ. إن لم تجد الأفكار السيئة أساساً عندنا فهو يحاربنا بأفكار يُفتَرَض أنها حسنة، لكي يوقِع بنا. على هذا الأساس، ينبغي أن نكون مهتمين ونسأل أنفسنا: أيمكن أنّ ما في فكرنا هو بذار رماها الشيطان؟ أمن الممكن أنه يضلّلنا نحو أفكار ظاهرها حسن؟ أيمكن أن فلسفتنا في الحياة والموت، التي نعتقد بصحتها، هي بالواقع مجموعة أفكار من الشيطان؟ أيمكن أن تكون أفكارنا حول الأمور الروحية، كأرثوذكسيين، بالواقع أفكار شيطانية؟

الجواب هو: ربّما. الشيء الوحيد الأكيد هو أن الشيطان لا يعتبرنا استثناءً.

2. مسّ أو مرض روحي؟

 

العوارض المشتركة

بالتأكيد قد يظهِر أحد المرضى عقلياً أو عصبياً بعض العوارض التي تشابه عوارض المسّ. على سبيل المثال: قد يرفض الممسوس أن يقول “يا رب ارحم” أو أن يذهب إلى الكنيسة أو أن يعترف أو يتناول. غير المؤمن أيضاً قد يرفض القيام بهذه الأشياء، لكن هذا لا يعني أن غير المؤمن ممسوس. من الممكن، بحسب الأطباء النفسيين (المؤمنون منهم طبعاً)، أن يصرخ أحد المختلين عقلياً عندما يواجه الصليب الكريم أو الرفات المقدسة “أنا أحترق” من دون أن يعني ذلك أنه ممسوس. هناك حالات معروفة. عندما يواجِه الممسوس الأشياء المقدسة، يتحرّك ضميره، فتصير كل الخطايا التي قد ارتكبها مصدراً لشعوره بالاحتراق. تصوّروا مثلاً حالة من هذه الحالات، حيث يكون المعذّب بحاجة إلى عناية عاجلة من اختصاصيين فيما نحن نحاول أن نقيم عليه صلاة الاستقسامات. عندما تُقرأ الاستقسامات على مختلٍّ عقلياً، يحسّ هذا الإنسان براحة مؤقّتة، لأن “شيئاً ما” قد جرى لتخفيف مرضه. للأسف، قد يؤخَذ هذا على أنه إشارة إلى المسّ أو أحد عوارضه.

الفَرْق بين المسّ والمرض

المسّ هو شيء والمرض العقلي شيء آخر. قد يكون للاثنين العوارض السطحية نفسها، لكن هذه العوارض تؤدّي إلى سلوكين مختلفين بالكليّة. عندما يواجَه الممسوسون بالصليب المكرّم أو رفات القديسين، يقعون في “نوبة” ويصير صعباً التعرّف عليهم. تلوي رؤؤسهم، تتجمّد ألسنتهم، ويبدؤون بالصراخ. إنها ردّة فعل الشيطان. ردّة فعل المرضى عقلياً مختلفة فهم لا يتشوّهون ولا يتغيّرون بل يحتفظون بملامحهم البشرية. إلى هذا، خلال النوبة، يكسر الممسوسون القيود ويهربون منها وغير ذلك، كما أنهم يكشفون “الأسرار”. هذا بالطبع مستحيل على المرضى عقلياً.

تأثّر بالسحر أو مشكلة نفسية؟

قد ينتِج السحر والعرافة نفس عوارض المشاكل النفسية. لا ينعم المتزوّج الواقع تحت تأثير السحر والعرافة بالعلاقات الزوجية. وهذا ينطبق أيضاً على المصابين بأمراض نفسية في هذا المجال. قد يفقد أحد الواقعين تحت تأثير التعاويذ والعرافة شهيته للطعام ويعاني ومن فقدان مستمر للوزن. وهذا أيضاً قد يصحّ على مَن يعاني من مرض نفسي.

كيف لنا أن نرى الفرق؟

إذا ما كان المعاني ممارساً لعضويته للكنيسة، واعياً لحياة الأسرار، لا يكون سبب مشكلته العرافة أو السحر أو ما شابه. لا يؤثّر السحر في المسيحيين المتطهرين ذوي الضمير الحي. المشكلة تكون نفسية وتتطلّب مساعدة طبيب مختصّ. إذا كان المصاب خارج الكنيسة ويحيا في الخطيئة، قد يكون سبب العلّة السحر والتنجيم ومع هذا، لا ينبغي أبداً أن نستبعد إمكانية المرض النفسي. التشخيص المناسب يتطلّب تعاوناً بين الكاهن وطبيب مختصّ يتّقي الله.

admin:
Related Post