الرسالة الثالثة
لا تصدّقوا كل روح*
الأم مريم (زكّا)
يا أحبّائي، “لا يأتي (يوم المسيح) ان لم يأتِ الارتداد أوّلاً. ويستعلن إنسان الخطيئة ابن الهلاك. المقاوم والمرتفع على كل ما يدعى إلهاً”.(2تس2:3و4).
منذ الخليقة الأولى، منذ السقوط وحتّى التجسّد واستعلان كلمة الله في إنجيله، والشرّ يتاخم الخير والبرء يطرد المرض من الأجساد والنفوس والعقل. واليوم صار الصراع بين الموت والحياة حكماً.
لم يقم في الأزمنة فساد أو موت اندسّ قائماً ومالكاً للحياة ومسيطراً على الكون والإنسان كما اليوم. كلّ الأرقام وشرائح المعلومات الطبّيّة والكيميائيّة تصرخ الموت الموت. يفتّق العلماء أذهانهم عن اختراعات تصل بهم إلى الكواكب النائية ولا يستطيعون رفع مرض السرطان أو السيدا من مخاوف القلب. ولم يضبطوا بعد حركة ضغط الدمّ القاتلة للإنسان . والأوبئة الجديدة التي تتفشّى وتستشري, لا يعرفون لها نهايات أو منها خلاصاً. أمراضٌ جديدة تأتي بها الاختراعات, وكأنّ الطبيعة كلما حقنّاها بالاختراعات وبالسموم القاتلة، فإنّها تنشب فينا أنياباً وسموماً جديدة حاملة الموت.
البيئة تسمّمت وتلوّثت ببقايا الاختراعات الكيميائيّة, التي تُلقى في الينابيع وفي جوف الأرض وفي البحار. يزرعون التّربة وليس بعد من تربة جيّدة فيخرج البذار ملوّثاً حاملاً بذرة الموت معه ويبيدونه فيخرج السمّ من السمّ ويتفتّق الموت عن موت.
والإنسان مضروب كلّه من أعلى الرّأس إلى القدمين. فتح الإنسان عقله للعلم فسلبت اختراعات العلم روحه وتركته مطروحاً على ضفاف موت الرّوح. كل النفوس معذّبة… مسحوقة بالحزن, يدخل الناس أيّامهم بالاضطراب وينهونها بالغضب. حركة ظلمة تشدّ الكيان كلّها إلى الفراغ العميق، المبتلع نبض الحياة السّاكنة في الإنسان لتجرّه إلى اليأس. صار اليأس ماسح وجوه كل النّاس. فهم يسيرون إلى حركة توصلهم إلى فراغ ما يعملون. فهم لا يُشفون لا من المناصب ولا من المال ولا من السلطة التي يسعون إليها… يركضون ويركضون. إنّهم دائمًا مشغولون، تأكلهم مائدة السّاعات والمواعيد وعندما يجلسون إلى بعضهم البعض في لقاءات تتحكّم بهم الإنجازات والوصول إلى الهدف وهدفهم هو الرّبح، الربح لكي يحسّوا بأنّهم موجودون، بأنّهم أحياء. والحياة والهدف ليس المسيح للغالبيّة.
يا أحبّتي، هذا هو الشرّ الكوني الذي أنا اليوم أحذّركم منه وأخاف عليكم إن ركبتم عربة العصر أن تلتقوه فيلفّكم ويعصركم كالإسفنجة، فيخرج منكم روح الإنجيل، ويترككم جيَفًا لا حياة فيها.
الشرّ الكوني هو هذا الإرتداد عن عيش روح الإنجيل والثبات في الكلمة المتجسّد لأجلكم وخلاصكم.
لم يكن عدوّ الخير أقوى ممّا هو عليه الآن.
كلّ سرّ قد انكشف وتعهّر بالسقوط وبالخطيئة التي تمتلئ من ذاتها وتتكاثر كلّما تقدّمت العصور.
هنا تفعيل للشرّ وللطاقة السّلبيّة التي خرجت من قلب الإنسان وعقله بعد سقوطه. واليوم قد وصلت هذه الطاقة إلى مدارها الأخير. كلّ القوى صارت في يد الإنسان واقتداره لتمزّقه وتفتّته إربًا إربًا. خلق هذا الإنسان، إنسان السقوط الكبير، الشرّ الكوني موتًا أقسى وأشنع من الموت الأوّل. صار موت العصر هذا هو موت الموت.
“لا يأتي (يوم المسيح) إن لم يأتِ الإرتداد أوّلاً” (2 تس 3:2). والإرتداد أنّه : “سيكون فيكم معلّمون كذبة الذين يدسّون بدع هلاك وإذ هم ينكرون الربّ الذي اشتراهم يجلبون على أنفسهم هلاكاً سريعًا. وسيتبع كثيرون تهلّكاتهم. الذين بسببهم يُجدَّف على طريق الحق. وهم في الطمع يتّجرون بكم بأقوال مصنّعة الذين دينونتهم منذ القديم لا تتوانى وملاكهم لا ينعس”(2بط 1-2).
“إنّ أنبياء كذبة كثيرين قد خرجوا إلى العالم” (1يو 1:4) اليوم. في الزمن الأوّل وقبل التجسّد وفي زمان التجسّد وما بعد ذلك الزمان والأنبياء الكذبة يفرزهم الشيطان ليقاوموا المسيح وتلاميذه وأحبّته والسائرين وراءه إلى صحرائه وبشارته وصليبه وموته وقبره وقيامته.
يا أحبّتي اليوم وُضع الفأس على أصل الشجر. اليوم زمن الغربلة والدينونة الأرضيّة التي تسبق الدينونة الأخيرة. اليوم تُلقى الشباك في بحار هذا الكون لتخرج إلى الشاطئ السمك. الجيّد منه، سينتقيه الربّ ليصير مأكلاً وتعليمًا للعالم الذي لا يعرفه. والسمك الغثّ الذي جُمع فسيعود ويرميه إلى البحار المالحة فهي تجرب هذا العمر التي يسمح بها الرب ليمحّصنا ويذلّل كبرياءنا ويكسر مشيئاتنا الذاتيّة، فنصير في قبضته عجينًا طريًّا يقرّصه ليعجن منه رغيف الذبيحة الإلهيّة.
لن يصعد إلى السماء إلاّ الذي نزل من السماء، وكلّ من يحيا في هذه الحياة بحسب الإنجيل فإنّه سيهيّئ نفسه ليصير شريكًا لرب الكون ليصعد ويجلس معه في ملكوته.
هذه يا أحبّتي هي الوحدة الكونيّة التي تقاوم حركة الشرّ الكونيّة. “خذوا كلوا هذا هو جسدي” وإذ نأكله نصرخ هاتفين… إتّحدنا بك لنصير خدّامًا لك في كونك. نصير بذارًا جديدًا للأرض الجديدة التي أنت ابتدعتها.
نعم يا أحبّة، إنّ أنبياء كثيرين هم بيننا الآن، هؤلاء يندسّون في الكنيسة، ويحرّفون تعاليم الآباء فيسيئون إلى خبرتهم الإلهيّة النسكيّة. يضربون كلمتهم التي يقولونها بعد صوم ٍ ولجم ٍ للأهواء وضبطٍ للنّفس. ونحن كيف نجد كلمة الحقّ في تيّارات دينيّة حادّة ومهلكة للنّفس. تيّارات تُعدّ بالمئات والآلاف تظهر لنا بالمظهر الجميل وهي سمّ زعاف لتفتيت ودكّ صرح الكنيسة الأرثوذكسيّة في العمق.
كل ما يخرج اليوم من مهاترات التعليم هو لنقض فكر المسيح وروحه في كنيسته. فالتعليم اليوم يخرج تعليمًا ذهنيًّا، لا حياة للجسد والروح فيه ولا شركة للكيان في تطبيقه. التعليم اليوم يخرج نظريّات توضع كتبًا في مجموعات الكتب التي تزدان بها رفوف المكتبات. صار العلم اليوم استنباطًا لمخبوء الطبيعة الساقطة السامّة أو زينةً وزخرفًا لا حياة حقٍ فيه.
يا أحبّتي، قفوا وأديروا رؤوسكم وأجسادكم التي هي هياكل للروح القدس إلى كنيستكم. قرّبوا قلوبكم التي هي القربان الحي للرب في هيكل قدسه؛ ونفوسكم العابدة الروح القدس؛ دعوها تصبح الغربال الذي تفصلون به الغثّ عن الثّمين ممّا تتعلّمون وتسمعون وتشاهدون.
كلّ الأجهزة الناقلة الأخبار العالمية والدولية، الحاملة الحضارات والعلوم والتقنيّات تتسابق في هذا العصر لاستعراض قوّتها وهي تتفاخر وتعلّي شأن العقل والتّقنية على حساب القلب والروح. “يا بنيّ أعطني قلبك”. “الجسد لا ينفع شيئًا أمّا الروح فهو الذي يحيي”.
هذه هي كلمة الحقّ والحياة التي ستقف بوجه الضلال الذي يزرعه ويوزّعه أولئك الكذبة الذين يدسّون بدع الهلاك وينكرون الرب. لم يوجد في أي عصر مضى من يقاتل الرب ويجحده كما الآن.
ليس الإلحاد أن ننكر الإله، بل أن نؤلّه ما تخلقه أيدينا وعقولنا فنعبدها منكرين أصل ومعطي الحياة. لا تصدّقوا الأنبياء والتعاليم التي هي خارج كنيستكم الأرثوذكسية. ليس بالسليم أن نجلس ونحاور في ادّعاء حرّية كذوب تجرّ بواسطتها إلى الضلالة.
فبإسم الحرّيات المطروحة الآن في هذا العصر، تُدك حرية الصليب الحاملة الحياة. فكل ما ينتجه ويخلقه العصر اليوم هو سلعة تسوّق الحرّية الكذوب وبها تسعى بالبشرية إلى الموت. فالحرّية الحق هي أن تختم كيانك بكلّيته بختم الصّليب المحيي.
كل ما تنتجه البشريّة اليوم هو للراحة، لطول العمر الشّقي الذي لا يعرف الإله. أنتم اشتُريتم بالدم الكريم. أنتم تعرفون الحمل فإنّكم تأكلون منه ومنه تشربون وبه تحيون. فعيشوا ومجّدوا أباكم الذي في السموات وعلى الأرض. وانتظروه، فإنّه يدقّ على أبواب الكون ليزعزع ممالك هذا العالم الفاسق ويبني بروحه القدّوس أورشليم.
* مأخوذ من مجلة سيندسموس، العدد الثاني 1999