X

بحث في التراث الأرثوذكسي

الشباب والإيمان

الأم مريم (زكّا)

يعبرون الجسر في الصبح خفافًا

أضلعي امتدّت لهم جسرًا وطيد…

خليل حاوي

هؤلاء الذين أعطانا إيّاهم الرب في جميع أقطار الأرض… ليس بينهم عبدٌ ولا حرّ، ذكر أو أنثى، يهودي أو يوناني…بل صورة الحمل وهيأته، الذي يتجزّأ ولا ينقسم المذبوح لخلاص البشريّة.

في قلب كل مخلوق فسحة للمسيح وانشداد صوبه يعيها منذ الطفوليّة. فإذا تعّود المكاشفة بينه وبين ربّه خلص وإلاّ فغيابٌ وحرقة وضياع وإهمالٌ لما هو مدعو إليه من البطن.

الشباب والإيمان هو عنوان اليوم… أنت مؤمنٌ يا حبيبي وتعرف المسيح… ولكن كيف تترجم حبّك هذا وإيمانك حياة يوميّة؟!…

تخرج من خدرك مثل الشهب إلى دورة يومك… وتصرخ يا ربّي يسوع ارحمني… ربّما ترسم إشارة الصليب، تقبّل الصليب المعلّق حول عنقك. علامة حضورٍ لمسيحك وتفرح به وتتفاخر على أقرانك إن هم ضلّوا أو إن أردت أن تعلن لهم إيمانك… وفي إيمانك هذا جرحٌ يا حبيبي لأنّ مسيحك لا يفتخر ولا يفاخر بل مشى بين شعبه خروفًا مُساقًا إلى الذبح… ولم يفتح فاه… حمل صليبه عنك لأجلك.

المسيحي يفتح فاه بالتّسبيح فقط… ولا يتكلّم إلا عن مسيحه وأعمال مسيحه في كونه، فيه… “فكل حديث بغيّر الله لغو”… فكيف كيف أنت وكلّ العالم إلى هذا؟…

أنت تحيا في ظروفٍ صعبة، نهاية القرن العشرين… بل في ظروف مستحيلة. رؤساء بلدانك في غالبيّتهم لا يعرفون الله والأكثر فيهم مضروب بجنون العظمة وعشق السلطة والمال وكل الأهواء. نحن لا ندين أحداً ولكنّهم يدينون أنفسهم بأفعالهم.

حروب وأخبار حروب، قتل، سرقة، مشادات، إستغلال، إثبات ذات، شهرة، نجاح، وقمع وقهر للضعفاء والفقراء والمسكين…عالمك يا حبيبي مضروب بالتّحصيل، بالمال، يسابقك على الركض للوقوع في بطن الحوت. في جحيم الموت… الكلّ يبتلعك ليطحنك خبزاً له وأنت ماذا تفعل لتقي ذاتك فلا تكون محرقة لهم، للأنظمة السياسية والماليّة والإداريّة والإقتصاديّة والفكريّة التي يهيّئون لها؟… ماذا تفعل حتّى لا تسقط في جحيمهم وتُشوى على نارهم، تؤكل منهم وتصبح رماداً تُذرى في عالمهم؟!…

وتقول لكننا نحن من هذا العالم… أبناء هذا الدهر… فعلينا أن نحيا في مسيحيّتنا بينهم، في أطرهم، مبشّرين بالآتي وبالخلاص… نكون بينهم ولكن ليس فيما هم عليه…

قال الرب : “أنتم لستم من هذا العالم”…

وقال أيضاً “يا بني أعطني قلبك”… كل شيءٍ يبدأ بالقلب وبالوثوق أننا لسنا من هذا العالم. نحيا فيه عابري سبيل. سوّاح على دروبٍ اختطها لنا ربّنا ومسيحنا وإله حياتنا خالق هذا الكون وهذا العالم.

أحبّتي أنتم جسر حياتـنا إلى المستقبل… هكذا أسماكم شاعر من لبنان… كان يدمع كلّما كان صباح ورأى الطلاّب يدخلون باب صرح الجامعة في بيروت… لم أعرف لماذا كان يبكي وقتئذٍ كلما رآكم… واليوم صرت أنا أستودعكم العلي والسماء والقدّيسين والملائكة كي يحفظوكم من غوائل العدو… الآن صرت أعرف أنّ المسيح افتدى البشريّة وأنتم كذلك بتعليقه على الصليب، وأنّه بكى لقيامتكم ونحن أيضًا. اليوم بتّ أعرف أن الخالق لم يمدّ أضلعه فقط لتمشوا عليها، بل ألوهته كلّها وبشريّته ليطلع منّا بشرًا جددًا، أخفّاء كشهب النّور والنار؛ زوبعة حياة جديدة تمشي وراءه حاملة معها كلما تلتقيه، إلى الخلاص.

يا أحبّة، أكتب لكم اليوم كلمة حبٍ لأقول لكم أنتم قدّيسو الله العلي. إن أحببتموه في هذا الزمان الرّديء من كل قلبكم وعقلكم وكيانكم… ولكن كيف؟… والمكننة صارت إله العصر والآتي ؟… بالبساطة… عودوا إلى جذوركم. إلى بساطة أجدادكم، إلى ما عرفوه بالقلب لا بالفعل فقط… أنا لا أدعوكم إلى تبسيط معرفة القرن الواحد والعشرين…لا، فأنا مؤمنة بالعلم ولكنّي أدعوكم أن تبسّطوا مطالب علمكم كما بسّطتم ثيابكم وتخليتكم عن العقد والفاخر في الزيّ وارتضيتم “الجينز والاسبادري”…

أحبّتي، يسوع لا يطلب منكم الكثير… فقط أن تحبّوه… والحب سهل عليكم لأنكم ما زلتم في نضارة ونظافة الصبح والنور والسعي إلى ما يشدّكم إليه… إلى عمق قلبكم. أنتم في بحث ٍ وفي رحلة. بحث ُ يبدأ في الحرف وينتهي عند الآخر. فماذا تأخذون معكم لتعطوا الحرف والآخر؟!…

أريدكم أن تكونوا فاعلين في التعلّم وفي العطاء وفي الحبّ… يا أحبّة نحن نتلقّى ما يأتينا من فوق، من عنده، من لدن أبي الأنوار… بهذا نقرأ وبهذا نحبّ… نملأ عقلنا من كلمته وقلبنا من نور حبّه، نتفاعل به مع الآخرين، فنفعل بهم بما غرفنا من خزائنه، من إنجيله، من وصاياه. هكذا نبدأ التعلّم والتّعليم… هكذا نأخذ الكلمة المضروبة بالأمراض والأهواء.

يا أحبتي… أتعرفون كم هو دوركم كبير وعظيم في العالم؟!… “أنتم لستم من هذا العالم”… ولكنّكم في هذا العالم… فكيف تحيون خارج العالم وفيه؟!… بالإله الكلمة. بوصيةّ الإنجيل… أنا أقرأ إذًا أنا أعرف… والمعرفة حياة. لذلك تمارسون الطب إذا تعلّمتموه والهندسة والموسيقى والعمارة والرسم والفن… هكذا إذا تعلّمتم كلمة الإنجيل، تصير فيكم حياة فتحيونها إمّا بالبشارة الدّائمة أو بغرسها نصبًا على حفافي حياتكم… تسيّج معارفكم التي اقتفيتموها وترطّب صحراء علمكم ووجع ما تعيشونه في هذا العالم… والسياج هذا هو الصلاة… “صلّوا بلا انقطاع”… “صلّوا ولا تملّوا”… كيف هذا؟!… ونحن لا وقت لنا لنغسل وجهنا في الصباح. فنحن ندرس ونعمل من الصبح وحتّى آخر الليل؟!…

الصلاة حالة يا أحبّة… إنّها وقفة ذهن ٍ وخفقة قلب. نمتدّ فيها إلى أعماقنا فنلقى الإله منتظرنا هناك ليحملنا عبر النهار فلا تعثر بحجر ٍ أرجلنا. فقط قولوا :”ربّي يسوع ارحمني أنا الخاطىء”…

وتعترضون؛ أنا لست خاطئًا… وأرفض الخطيئة ولا أريد أحمالا ًتثقل مشيئتي وحركتي… أنا أحبّ الربّ وهو الإله القدير، فعليه حملي…

يا حبيبي أنت حامل في جسدك بذرة السقوط والموت والابتعاد عن الإله…

اسمعني ولا تنفعل… أنت ذرّية آدم الأوّل الذي منحه الله الفردوس والسكنى فيه، لكنّه هو بمشيئته رفض حياة الإله وفردوسه، فنزل إلى عالم الموت والخطيئة… وبموته نُمات نحن.

أنا أعرف بأنكم تعرفون الإله وتحبّونه وتبنون حياتكم على ليتورجيّته في الكنيسة وفي العالم ولكنّي أكتب لكم اليوم لأذكّركم فقط بما يمكنه أن يبتلعكم في جوفه…

المادية في التفكير والحياة… الآليّة في التعاطي مع الآخرين… الركض، الركض للتحصيل… والسعي لبناء المملكة في هذا العالم. من يشهد بالمسيح ؟ من يشهد للمسيح؟

كلكم، بل كلنا نساق إلى الذبح ولا نفتح فاهنا لنصرخ “هوشعنا في الأعالي. مبارك الآتي باسم الرّب”…

يا حبيبي، أنت تُعطى وظيفة وأنت بحاجة لها. لكنها تبعدك عن ذكر ربّك والتسبيح باسمه… أو رسم إشارة صليبه على صدرك أو التعييد في يوم “الظهور الإلهي” مثلاً وترك العمل الدنيوي لتلتحق بالعمل السماوي الإلهي…

أتغادر مدرستك أو جامعتك أو مكتبك أو معلمك لتذهب وتشترك مع الخليقة بأسرها والسماويين في التعييد والترتيل والإشتراك في جسد ودمّ السيّد والتثبيت له أيضًا وأيضًا أنه هو الخالق والرب الوحيد، منه خرجت وإليه تعود وبه تتشدّد وهو إن تبعته سيعطيك أضعاف أضعاف ما تركت وما أنت بحاجة ٍ إليه؟؟…

وتجيبني الكون يسحقنا والحياة اليوميّة ومتطلباتنا تشدّنا…والجواب… “بالروح والحق ينبغي أن تسجدوا”… الروح هو الذي يحيي أما الجسد فلا ينفع شيئًا… لأنه يولد بالآلام ويحيا بالآلام ويرقد فيتفتّت مهترئًا في اليوم الرابع بعد دفنه.

ما العمل إذًا؟… تحويل هذا المجتمع وهذا العالم إلى مجتمع مسيحي إنجيلي… نتعاطى فيه المسيح وإنجيلنا بجرأة النبي السابق الذي ظهر مؤدّبًا ومعلمًا ودالاً على نور الحياة الآتي ليعتمد منه في الأردن…

يا أحبّتي… صلّوا عند نهوضكم من النوم… خذوا معكم اسم يسوع زوّادةً لنهاركم… كلوه، اشربوه، أطحنوه في أحشائكم… لا تطلبوا الرئاسات في هذا العالم… أطلبوا رئاسة كلمته في إنجيله وأفعال حبّه بكلمة إنجيله… هكذا تصبحون لطفاء أرقّاء رحماء محبّين لوجهه في من حولكم… في المرذول والفقير والمتروك والمجرّب والعاصي…

أفرزوا وقتًا للكتب الإلهية… للمعرفة، للآباء الذين سبقونا وعاشوا دروب الحبّ الإلهي قبلنا… للقدّيسين… تعلموا منهم… هؤلاء هم رؤساؤنا ومرشدونا ومعلمونا…

اقتنوا كلمة الإنجيل وعيشوها في جماعة صغيرة تتسع كلّما فرشتم أنتم كلمة المسيح وأضلعه مائدةً لكم وجسرًا تعبرون عليه أيّامكم… لا تهتمّوا لما في هذا العالم، فهيئة الموت مرسومة على كل سلعة تقتنونها… لا تكدسوا لكم أموالاً في هذا العالم فربّ السماوات بإمكانه أن يهدم الأهراء المحمّلة بلحظة… كدّسوا العفّة والحنان والرقة واللطف في قلوبكم وفي عقولكم وفي كل خلايا أجسادكم. وافرحوا بأنكم ولدتم من أبي الأنوار وأنكم سلالة جديدة شربت من دمّ السيّد فصارت بجسده ودمه آلهة حب ٍ صغيرة… وانتبهوا من أشواك النّفس البشريّة… من أهوائها. إيّاكم والكبرياء فهو سمّ الموت وأناكم حاربوها… قاتلوا ما في أجسادكم من بلايا واغسلوا أوساخ هذا العمر بالدموع الرّطبة التي ذرفها ربّنا على موت لعازر صديقه قبل قيامته.

أحبّتي وأنا إليكم شهودًا جددًا وتلاميذ للسيد الرب يسوع المسيح ووعد قيامة أصلّي معه، “… وهذه هي الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك ويسوع المسيح الذي أرسلته. أنا مجّدتك على الأرض… أنا أظهرت اسمك للناس الذين أعطيتني من العالم… من أجلهم أسأل… أيّها الآب القدّوس احفظهم في اسمك الذي أعطيتني ليكونوا واحدًا كما نحن… أنا قد أعطيتهم كلامك والعالم أبغضهم لأنهم ليسوا من العالم كما أنّي لست من العالم. لست أسأل أن تأخذهممن العالم بل أن تحفظهم من الشرير. ليسوا من العالم كما أنّي لست من العالم” (يوحنّا 17).

admin:
Related Post