X

بحث في التراث الأرثوذكسي

في حفظ الوصايا

الأب نقولا مالك

ضرورةُ حِفظُ الوَصايا:

مُنذُ القديم، كان اللهُ يُعطي الإنسانَ وَصايا، وَيَطلُبُ مِنهُ أن يَحفَظَها. فَفي الأصحاح العشرين مِن سِفرِ الخُرُوج يُعطي الوَصايا العَشْر. وَيَقُولُ في تَفسيرِ الوَصِيَّةِ الثّانية: «… وَأَصنَعُ إحسانًا إلى أُلُوفٍ مِنْ مُحِبِّيَّ وَحافِظِي وَصايايَ».(خر6:20)، قارنًا بَينَ مَحَبَّتِهِ وَحِفظِ وَصاياه. وكأنَّهُ يَقُولُ إِنَّ مَن يُحِبُّهُ يَحفَظُ وَصاياه.

وَفي سِفرِ الأَمثالِ، يُعتَبَرُ قَبُولُ الوَصايا مِن سِماتِ الرَّجُلِ الحَكِيم: « حَكِيمُ القَلبِ يَقبَلُ الوَصايا».(أم 8:10).

وَقَد صَرَّحَ الرَّبُّ يَسُوعُ بِالعَلاقةِ بَينَ مَحَبَّتِه وَحِفظِ وَصاياه: «إِنْ كُنتُمْ تُحِبُّونني فَاحفَظُوا وَصاياي».(يو 15:14).

وَجَعَلَها مدخلاً إلى الحياة: “إذا أَرَدْتَ أَنْ تَدخُلَ الحَياةَ فَاحفَظِ الوَصايا” (مت 17:19).

وَعندَما أرسَلَ تلاميذَهُ لِتَبشيرِ الأُمَمِ كافَّةً، قالَ لَهُم: « إذهَبُوا وَتَلمِذُوا… وَعَلِّمُوهُم أن يَحفظُوا جميعَ ما أوصَيتُكُم بِهِ».(مت 20:28). فَبِمَ أَوصاهُم؟

مَضمونُ الوَصايا:

مِنَ الأُمُورِ الّتي أَوصانا بِها الرَّبّ:

أ- أَلاّ نُهْمِلَ الوَصايا القديمة، بَلْ أن نحفظَها وَنَزِيدَ عَلَيها: “إِنْ لَم يَزِدْ بِرُّكُمْ على الكَتَبَةِ وَالفَرِّيسِيّينَ فَلَنْ تَدخُلُوا مَلَكُوتَ السَّمَوات” (مت 20:5).

وَيُعَلِّقُ بُولُسُ الرَّسُولُ على الوَصِيَّةِ الرّابعة: بِقَولِه: « أَكْرِمْ أَباكَ وَأُمَّكَ. الّتي هِيَ أَوَّلُ وَصِيَّةٍ بِوَعْدٍ. لكي يَكونَ لَكُم خَيرٌ، وَتَكُونُوا طِوالَ الأعمارِ على الأرض».(أف 2:6-3).

ب- أن يُحِبَّ بَعضُنا بَعضًا: « وَصِيَّةً جَدِيدَةً أنا أُعطِيكُمْ، أَنْ يُحِبَّ بَعضُكُمْ بَعضًا. كَما أَحبَبْتُكُمْ أنا تُحِبُّونَ أنتم أيضًا بَعضُكُم بَعضًا».(يو 34:13).

وَيُوضِحُ التِّلميذُ الّذي كانَ يَسُوعُ يُحِبُّهُ هذا الكلامَ بِقَولِه: « مَن قالَ إنَّهُ في النُّورِ وَهُوَ يُبغِضُ أخاهُ فَهُوَ إلى الآنَ في الظُّلمة. مَنْ يُحِبَّ أخاهُ يَثبُتْ في النُّورِ وليسَ فيه عَثَرَةٌ. وأمّا مَنْ يُبغضُ أخاهُ فَهُوَ في الظُّلمةِ، وفي الظُّلمةِ يَسلُكُ، وَلا يَعلَمُ أينَ يَمضي، لأَنَّ الظُّلمةَ أَعْمَتْ عَينَيهِ».(1يو 9:2-11).

وَيُوضِحُ بُولُسُ الرَّسُولُ أَنَّ المحَبَّةَ هِيَ غايةُ الوَصِيَّة: « وَأَمّا غايَةُ الوَصِيَّةِ فَهِيَ المَحَبَّةُ مِن قَلبٍ طاهِرٍ وَضَمِيرٍ صالحٍ وَإيمانٍ بِلا رِياء».(1تي 5:1).

ج- أَن نَبتعدَ عَن حُبّ المال، لأنَّهُ يَصرِفُنا عَن مَحَبَّةِ الله: “لا تَستطيعونَ أن تخدموا اللهَ وَالمال” (مت 24:6). وَيُسهِبُ بُولُسُ في شَرحِ هذا المَبدأ، في سِياقِ إعطاءِ الوَصايا لِتلميذِهِ تيموثاوس: « لأَنَّ مَحَبَّةَ المالِ أَصْلٌ لِكُلِّ الشُّرُور، الّذي إِذِ ابتَغاهُ قَومٌ ضَلُّوا عَنِ الإيمانِ وَطَعَنُوا أَنفُسَهُم بِأَوجاعٍ كَثِيرَة. وَأمّا أنتَ يا إنسانَ اللهِ فَاهرُبْ مِن هذا واتبَعِ البِرَّ وَالتَّقوى وَالإيمانَ وَالمحبَّةَ والصَّبرَ وَالوَداعة. جاهِدِ الجِهادَ الحَسَنَ وَأَمسِكْ بِالحياةِ الأبديَّةِ الّتي إلَيها دُعِيتَ أيضًا وَاعتَرَفتَ الاعترافَ الحَسَنَ أمامَ شُهُودٍ كَثِيرِين. أُوصِيكَ أمامَ اللهِ الّذي يُحْيِي الكُلَّ وَالمسيحِ يَسُوعَ الّذي شَهِدَ لَدى بِيلاطُسَ البُنطِيِّ بِالاِعترافِ الحَسَن، أَنْ تَحفَظَ الوَصِيَّةَ بِلا دَنَسٍ وَلا لَومٍ إلى ظُهُورِ رَبِّنا يَسُوعَ المَسيح».(1تي 10:6-14).

د- أن نَجمَعَ إلى مَحَبَّةِ الله مَحبَّةَ القَريب: «تُحِبُّ الرَّبَّ إلهَكَ مِن كُلِّ قَلبِكَ وَمِن كُلِّ نفسِكَ وَمِن كُلِّ فِكرِكَ. هذِهِ هِيَ الوَصِيَّةُ الأُولى وَالعُظمى. وَالثّانِيَةُ مِثلُها: تُحِبُّ قَريبَكَ كَنَفسِكَ. بِهاتَينِ الوَصِيَّتَينِ يَتَعَلَّقُ النّامُوسُ كُلُّهُ وَالأنبياءُ».(مت 37:22-40).

الوَصايا يجب أن تُحفَظَ كُلُّها:

أ- يُرِيدُنا الرَّبُّ أن نَحفَظَ الوَصايا كُلَّها دُونَ استثناءٍ وَدُونَ تَعديل: “فَمَنْ نَقَضَ إحدى هذهِ الوصايا الصُّغرى وَعَلَّمَ النّاسَ هكذا يُدعى أَصغَرَ في مَلَكُوتِ السَّموات، وأمّا مَن عَمِلَ وَعَلَّمَ فهذا يُدعى عظيمًا في مَلَكُوتِ السَّموات” (مت 19:5). وَيُرِيدُنا ألاّ نعتبرَ هذا إنجازًا ذا أهمّيّة: «هكذا أنتُم، إذا فَعَلْتُمْ كُلَّ ما أُمِرْتُمْ بِهِ، فَقُولُوا نحنُ عبيدٌ بَطّالُونَ، وَلَم نَفعَلْ إلاّ ما كانَ عَلَينا القِيامُ بِه».(لو 10:17).

فَإذا كانَ تطبيقُ جميعِ الوَصايا غَيرَ كافٍ، فَكَم يَكُونَ عَدَمُ التّطبيقِ مُزْرِيًا؟! لِذا يَرتَفِعُ صَوتُ الرَّسُولِ بُطرُسَ مُحَذِّرًا مِن عَدَمِ التّطبيق، وَمِنَ التَّراجُع: «لأنَّهُ كانَ خَيرًا لَهُم لَو لَمْ يَعرِفُوا طريقَ البِرِّ مِن أنَّهُم بَعدَما عَرَفُوا يَرتَدُّونَ عَنِ الوَصِيَّةِ المُقَدَّسَةِ المُسَلَّمَةِ لَهُم».(2بط 21:2)؛ في حِينِ يُرَغِّبُ يُوحَنّا الحبيبُ بِحِفظِ الوَصايا مُوضِحًا أَنَّهُ يُسَبِّبُ دالَّةً عظيمةً لدى الله: «وَمَهما سَأَلْنا نَنالُ مِنهُ لأنّنا نَحفظُ وَصاياهُ وَنَعملُ الأعمالَ المَرْضِيَّةَ أمامَهُ».(1يو 21:3).

يُعطي القدّيسُ باسيليوس الكبير تشبيهًا: “ما نَفْعُ الحِصْنِ إذا كانَ مَنيعًا وَمُحَصَّنًا مِن كُلِّ جِهة، ولكنْ في إحدى أركانِهِ أو أطرافِهِ بابٌ صغيرٌ مِنه يتسلَّلُ الأعداءُ إلى الدّاخلِ لِيُعمِلُوا في النّاسِ تنكيلاً وَقَتْلاً!”

وكذلك القدّيسُ يوحنّا الذَّهبيُّ الفَم يقول: “إذا كُنتَ تَحفَظُ القليلَ مِنَ الوَصايا، فَقَليلاً أو ناقصًا تَكُون. وإذا كُنتَ فيها ناقصًا فأنتَ صغيرٌ في القيامةِ العامّة”.

إِلاّ أَنَّكَ، مِن جهةٍ أُخرى، إِذا أَخْلَصْتَ مِنْ كُلِّ قَلبِكَ لإحدى وَصايا الإنجيل، وَنَجَحتَ في تطبيقِها، سَتَجِدُ نفسَكَ تِلقائِيًّا تمشي في طريقِ تطبيقِ سائرِ الوَصايا. مَثَلاً، إذا طَبَّقتَ وصيّةَ المحبّةِ مِن كُلِّ قلبِك، وكرَّستَ لها فكرَكَ وضميرَكَ وَوَقتَكَ وَمالَكَ وذاتَك، فإنَّكَ تَجِدُ نفسَكَ تَسلُكُ بالوَداعةِ والاتِّضاعِ دونَ أن تشعر، كما تجدُ قلبَكَ دائمًا مرتفعًا إلى اللهِ بالشُّكرِ والتَّسبيحِ والصّلاة، وَنفسُكَ تصيرُ فَرِحَةً نشيطةً في حالةِ يَقَظَةٍ واستعدادٍ مستمرٍّ للعطاءِ والبَذْل.

وهكذا تُتَمِّمُ وَصايا: الاتِّضاع، والصَّلاة، وَالسَّهَرِ الدّاخِلِيّ، والعَطاء، بِجِوارِ المَحَبّة.

صعوبة الوَصايا:

لا شَكَّ في أنَّ الوَصايا صَعبةٌ وَثَقيلة، الأمرُ الّذي جَعَلَ الرَّبَّ يُشَبِّهُها بِالنِّيرِ وَالحِمْلِ الثَّقيل. ولكنَّ العجيبَ أنَّهُ يَصِفُ هذا النِّيرَ بِالهَيِّنِ، وَهذا الحِمْلَ بِالخَفيف! فكيفَ ذلك؟! “تَعالَوا إِلَيَّ يا جَمِيعَ المُتْعَبِينَ وَالثَّقِيلِي الأَحْمالِ وَأَنا أُرِيحُكُمْ. إحْمِلُوا نِيرِي عَلَيكُمْ، وَتَعَلَّمُوا مِنِّي، لأَنِّي وَدِيعٌ وَمُتَواضِعُ القَلْبِ، فَتَجِدُوا راحةً لِنُفُوسِكُم. لأَنَّ نِيرِي هَيِّنٌ وَحِمْلِي خَفيف” (مت 28:11-30).

تُعتَبَرُ الوَصايا صعبةً، لأَنَّ حِفظَها يَستَدعي تَعبًا وَجِهادًا، ولأنَّها مُرتَبِطَةٌ بِرَجاءِ الدَّهرِ الآتي وَالخَيراتِ الأَبَدِيّة. وَهِيَ صَعبةٌ بشكلٍ خاصٍّ على المُبْتَدِئِينَ، لا سِيَّما عندَ مَن أَلِفَ الشَّهَواتِ مُنذُ نُعُومَةِ أَظْفارِهِ.

لِنَتأمَّلْ، مَثَلاً، في مَدى صُعُوبَةِ تطبيقِ وَصايا كَهذِه:

–        مَن أَرادَ أن يَتبَعَني فَلْيُنكِرْ نفسَهُ وَيَحمِلْ صليبَهُ وَيتبَعْني (مت 38:10).

– مَن أَرادَ أن يُخاصِمَكَ وَيأخُذَ ثوبَكَ، فَاترُكْ لَهُ الرِّداءَ أيضًا (مت 40:5).

– مَن سَخَّرَكَ مِيلاً فَامضِ مَعَهُ اثنَين (مت 41:5).

– أَحِبُّوا أعداءَكُم. بارِكُوا لاعِنِيكُم. صَلُّوا لأجلِ الّذِينَ يُسيئُونَ إلَيكُم وَيَطرُدُونَكُم (لو 28:6).

– مَن ضَرَبَكَ على خَدِّكَ الأَيمَنِ فَأَدِرْ لَهُ الآخَرَ أيضًا (لو 29:6).

– لا تَكنِزُوا لَكُم كُنُوزًا على الأرض (مت 19:6).

– لا تَخافُوا مِنَ الَّذِينَ يَقتُلُونَ الجَسَد (مت 28:10).

– إِنْ أَعْثَرَتْكَ يَدُكَ أَوْ رِجْلُكَ فَاقْطَعْها وَأَلْقِها عَنْكَ… وإِنْ أَعْثَرَتْكَ عَينُكَ فَاقْلَعْها وَأَلْقِها عَنكَ (مت 8:18-9).

إلاّ أَنَّ صُعُوبَةَ الوَصايا وَمَرارَتَها وَخُشُونَتَها ضَرورِيَّةٌ؛ لأَنَّها تَصُدُّ الَّذِينَ يُريدُونَ أن يَتَحايَلُوا على الإنجيلِ وَيَستَخدِمُوهُ للتّسليةِ دُونَ أن يُتعِبُوا أنفُسَهُم في تطبيقِه.

وهذِهِ الصُّعُوبَةُ تَزُولُ وَتتحَوَّلُ إلى حَلاوَةٍ، عِندَ مَنْ يَقتاتُ بالإنجيلِ كُلَّ يَومٍ، وَيُحَوِّلُ وَصاياهُ إلى أعمالٍ، فَيَغلِبُ مَرارةَ الوَصِيَّةِ بِفَرَحِ الأَعمال.

وَبالإجمال:

يَهُونُ حَمْلُ الوَصايا إذا فَكَّرْنا بالخَيراتِ النّاجِمَةِ عَن تطبيقِها؛

وَيَهُونُ حَمْلُ الوَصايا إذا فكَّرنا بالصُّعُوباتِ النّاجِمَةِ عن عَدَمِ تَطبيقِها. (مَن يَسرق، مَثَلاً، يكونُ مضطرِبًا.. وَمن لا يسرق يَنامُ بسلام…)

وَيَهُونُ حَمْلُ الوَصايا عِندَ مَنْ يُدَرِّبُ نفسَهُ على التَّواضُعِ وَالوَداعة.

وَيَهُونُ حَمْلُ الوَصايا عِندَ مَن يَسلُكُ فِيها باقتِناعٍ وَرِضًا.

وَيَهُونُ حَمْلُ الوَصايا إذا أَدْرَكْنا أَنّها عِلاجاتٌ تَشفي النَّفسَ مِن أمراضِها الدّاخليّة. يقولُ القدّيسُ سمعان اللاهوتيُّ الحديث إنَّ مَن يحفظُ الوصايا تَحفَظُهُ هِيَ وَتَحميه. فَالوَصايا تُعتِقُ الإنسانَ مِنَ الأهواءِ والخَطايا.

•       الوصيّة الّتي قَبِلَها المسيحُ مِنَ الآب هي أن يتمّم التّدبيرَ الإلهيّ: “لأنّي لم أتكلَّمْ مِن نفسي، لكنّ الآبَ الّذي أرسَلَني هو أعطاني وصيّةً ماذا أقولُ وبماذا أتكلَّم” (يو 49:12)؛

•       وأن يضعَ نفسَهُ طوعًا مِن أجلِ الخِراف: “لهذا يُحِبُّني الآبُ، لأنّي أَضعُ نفسي لآخُذَها أيضًا. ليسَ أحدٌ يأخذُها منّي، بل أضعُها أنا مِن ذاتي. لي سلطانٌ أن أضعَها وَلي سلطانٌ أن آخُذَها أيضًا. هذه الوصيّةُ قَبِلْتُها مِن أبي” (يو 17:10-18).

حديث في رعيّة أنفه، مساء الخميس 1|3|2007

admin:
Related Post