“لا تضع يداً على أحد بالعجلة، ولا تشترك في خطايا الآخرين”
(1تيمو22:5)
ماريا قبارة
من أهم مشاكل كنيستنا اليوم، والتي تصاعدت في الآونة الأخيرة، مصدرها هو الطريقة العشوائية التي تمَّ ويتمّ بها اختيار الرعاة والكهنة، وبعد تحصيل البعض منهم للتعليم اللاهوتي الذي حلَّ مكان خبرة الجماعة وحياتها: “ليسَ لأن المدارس اللاهوتية غير مهمة لكنَّها تأتي لتكمّل دور الجماعة لا لتغيّب هذا الدور الذي لا بديل عنه” (جان توما، قراءة في التراث الحركي حول العمل الرعائي، النور).
فنحن نعرف أنّ سيامة أسقف أو كاهن لم يكن بالأمر السهل قديماً -على خلافه اليوم- فنحن نقيم به أباً ملتزماً بروح الأبوّة وراعياً يبذل حياته من أجل أبناء رعيته.
فمن يقدّم شخصاً كمؤهل للكهنوت لا يكتفي بشهادته شخصياً به وشهادة الاكليروس (إن سُئلوا)، بل بشهادة الشعب أيضاً التي اختفت تدريجياً وتغيّبت بسلطة الأساقفة. يقول القدّيس بولس الرسول: “ويجب أيضاً أن تكون شهادته حسنة من الذين هم خارج” (1تيمو 7:3). إنّ الشعب مع الاكليروس يلتزمون بالتحقيق الزائد في اختياره، فهم مسؤولون أمام “الراعي الصالح” عن كلّ إهمال…
سأسرد حادثتين، من فيضٍ، والتي حدثتا في أبرشية من أبرشيات الكرسي الأنطاكي:
– تمَّ الإعلان بنشرة الأبرشية عن سيامة شاب من شباب الأبرشية دون مشورة أحد من الكهنة أو العلمانيين أصحاب الرأي، وتناقش البعض مع الأسقف عن مشاكله كشاب، قبل موعد الرسامة من نواحٍ كثيرة، كالثرثرة وتلفيق الإشاعات، ولكن الرسامة تمّت وهو اليوم أبونا الكاهن.
حادثة أخرى:
– إنّ شاباً من شباب الأبرشية عينها والذي أنهى دراسته اللاهوتية، سيعلن عن موعد رسامته شماساً، فأسرع بعض ممن يغارون على أبرشيتهم وكنيستهم من أصحاب الرأي والكهنة إلى الأسقف وذكروا له بأن الشابَ صغير السن على الشموسيّة والكهنوت. ولكن جواب الأسقف كان: “الصغير يكبر”، وتمَّت رسامة الشموسيّة وبعد شهرين تمّت رسامته كاهن وتسليمه رعية… وبعد حين تكاثرت المتاعب عليه والتصرفات الخاطئة منه… وخُبّر الأسقف بها من أكثر من مصدر موثوق عنده… والنتيجة كانت صليب الأرشمندريتيه وساماً له على صدره. فكان كاهناً أرشمندريتاً بأقل من سنة وبعمر السادسة والعشرين. (وهنا لن أتكلم عن القوانين الكنسية لكلّ درجة من الدرجات الكهنوتية).
للأسف ما زالت الجرأة تنقصنا إكليروساً وشعباً، فنحن نقف في الكنيسة وقت السيامات بكلّ ما نعرف من أخطاء معثّرة عن هذا وذاك من المرشحين للكهنوت، ونردد مع الجميع “آكسيوس” وكأننا نحتفل بالليتورجية بإطلاقنا هذه الكلمة الفلكلورية التي لم تعد تحمل أي معنىً.
يقول القدّيس غريغوريوس: “من الخطأ أن نعهد بمكانة الرعاية إلى شخصٍ مقصّرٍ حيث أن الرعاية هي القدوة. وإن إساءة اختيار الرَّاعي ينتج عنها عواقب وخيمةٌ إذ أنّه وهو خاطئ سيأخذ كرامة من أجل هذه المكانة التي وُضع فيها”
إنّ العبادة والخدمة هي عمل الكنيسة كلّها، فعلى صعيد العبادة الليتورجية ليست عمل الكاهن وحده ولا الشعب وحده، بل يشترك الشعب في العبادة لا كمتفرج ولا كمستمع بل كمشترك حقيقي، ومن دونه لا يقوم العمل الليتورجي.
وتقدمة الشكر مشتركة بينهم أيضاً، فلا يقدمها الكاهن وحده بل ومعه كلّ الشعب. ولهذا لا يليق بالكهنة أن يتمسّكوا برأيهم ويمتلئوا عنفواناً وغروراً، بل من الأفضل للكنيسة أن يتشاور الكاهن مع أصحاب الرأي من الشعب، مقدماً لنا الرسل أنفسهم مثالاً، “فعند رسامتهم (السبعة) شمامسة اجتمعوا أولاً مع الشعب (أعمال6: 2-3). وعند رسامة (متياس) (أعمال1: 15-26) كان الكل حاضراً: الرجال والنساء”
يقول الذهبي الفم: ” لو أنّ عشرة آلاف شخص رشحوا أحداً للكهنوت وحثّوه على ذلك فعليه ألاّ يعطي لذلك بالاً، بل يبحث في أعماق قلبه، ويختبر الأمر من كلّ جوانبه بكلّ تدقيق قبل أن ينصت إلى حاجاتهم”
فالإنسان لا يخاطر بتعهدِ بناءٍ ما لم يكن مهندساً، ولا يعالج مرضاً إن لم يكن طبيباً، فلا يليق به أن يرفض دون أن يخجل من جهله، فكم بالحري الذي يتعهد نفوساً لا يختبر نفسه أولاً… ويقبل الكهنوت لمجرد أن طلب منه أحدهم ذلك وألزمه ثانٍ وأرضاه غروره ثالثاً…
قد يتغرّر المنتخبون بمؤثرات خارجية، أما المختار كاهناً فلا يقدر أن يبرّر بقوله: “لا أعرف نفسي” كما يقول الآخرون عنه. لذلك فعقوبته أقسى من التي يسقط تحتها المنتخبون له…
لهذا يقول الرب “من يريد أن يبني برجاً ألاّ يبدأ بوضع أساسه ما لم يكن باستطاعته البناء، لكي لا يجلب على نفسه سخريات المارة غير المتناهية” (لو 14: 28-29).
فإن كنّا نرتعد بسبب ذكرنا الموت والدينونة عن خطايانا وشرورنا، فأيّ أحزان وآلام يمرّ بها إنسان عتيد أن يجيب عن أخطاء آخرين كثيرين؟؟؟