سر الموت
الميتروبوليت إيروثيوس فلاخوس
مقابلة أجراها البروفسور بافل كيريلا من مستشفى القديسة إيريني في بوخارست
نقلها إلى العربية الأب أنطوان ملكي
1. سؤال: أرجو أن تخبرنا أول شيء يخطر في بالك عن الموت، شيئاً تعتبره فائق الأهمية.
جواب: ما يأتي عفوياً في فكري هو أنّ الموت سرّ رهيب، بحسب ما ننشد في خدمة الجنّاز من نظم القديس يوحنا الدمشقي. إنّ هذا الأمر مرتبط بحقيقة أن النفس تُفصَل بالقوة عن الانسجام الناجم عن اتحادها بالجسد. إنّه أيضاً حادث حزين لأنه مرتبط بقابلية الإنسان للفناء والموت الظاهرة في كل حياة. إلى هذا، إنّه يذكّرني بخدمة الجناز البهية كما نحتفل بها نحن الأرثوذكس إذ نحمل شموعاً مضاءة وننشد انتصارياً “المسيح قام من بين الأموات ووطئ الموت بالموت ووهب الحياة للذين في القبور”. هذه الصورة الجميلة تظهر موقفنا من الحياة والموت. نحن قابلون للفساد والموت لكننا نملك “دواء عدم الموت” الذي هو المسيح القائم من بين الأموات. يمكننا القول، باستعمال المصطلحات الحديثة، أنّ بتجسّد الابن واتّحاد الطبيعتين البشرية والإلهية في شخص الكلمة، حصل “استنساخ روحي”، واتّحدت طبيعتنا المائتة بحياة الله. لهذا غيّر الموت اسمه وهو الآن يُسمّى رقاداً، وأماكن دفن الراقدين تُسمّى مراقد (مدافن) وليست قبوراً.
إذاً، عندما أرى الناس حاملين شموعاً مضاءة منشدين “المسيح قام” عند قيامة المسيح، أفهم بشكل أفضل أنّ علينا أن ننظر إلى الموت كعملية عبور بالمسيح من “أرض مصر” إلى “أرض الميعاد”، من الموت إلى الحياة، وكرجاء بقيامتنا التي تتم أيضاً بالمسيح. إن الأمر ليكون سعيداً جداً أن نتوقّع الموت في هذه الوضعية، حاملين شمعة القيامة منشدين “المسيح قام”. في النهاية، نحن “غرباء وحجاج” في هذه الحياة وموطننا الحقيقي ليس هنا. أنا أتأثّر دائماً بكلمات القديس نيكولا كاباسيلاس (القرن الرابع عشر) بأننا فيما نحيا هنا على الأرض إلا أننا مثل جنين في رحم أمه، نولَد لحظة موتنا ونخرج من ذلك الرحم. لهذا السبب، في الكنيسة الأرثوذكسية يُعَيَّد للقديسين في يوم رقادهم أو استشهادهم وليس في يوم مولدهم.
2. سؤال: نفهم من الكتاب المقدس وجود نوعين من الخوف: خوف مقدّس، وهو رأس الحكمة بحسب كاتب المزامير، وخوف آخر يوحي به الشياطين، وهو خوف مَرَضي. في أي من الفئتين يأتي الخوف من الموت؟
جواب: بالواقع، هناك خوف من الله هو قوة لنعمة الله وبداية للخلاص، أي أنّ الإنسان يخاف أو يحترم الله ويبدأ بإطاعة وصاياه، وهناك خوف توحي به الشياطين يسبّب القلق والكرب. في أي حال، إلى جانب هذين الخوفين هناك الخوف النفساني المرتبط بشعور الإنسان بعدم الأمان وعجزه العاطفي.
معنى الخوف من الموت يختلف من شخص إلى آخر. بالنسبة للأشخاص العالميين والملحدين يرتبط بمسلك “العدمية” أي أنّهم يفكرون بأنّهم يتركون العالم الوحيد في الوجود وينتهون إلى العدم واللاوجود. هذا ليس موجوداً عند الأرثوذكسيين. فخوف الموت عند المسيحيين يرتبط برحيل الروح من العالم الذي يعرفونه، بترك الأصدقاء والأقرباء، والدخول إلى عالم آخر لا يعرفونه بعد. إنّهم لا يعرفون كيف سوف تكون حياتهم وما الذي سوف يكون مع حكم الله بعد موتهم. من هنا ضرورة الرجاء والاستعداد الملائم.
بالطبع، إن المسيحيين الذين بلغوا استنارة النوس والتألّه قد اتّحدوا مع المسيح ويتخطّون خوف الموت، كما نرى في حياة الرسل والشهداء وقديسي الكنيسة بشكل عام. في قراءة السنكسار نجد جملاً مثل “في مثل هذا اليوم، القديس (فلان) تكمّل في سلام” أو “تكمّل بالسيف”، وغيرها. يجب الإشارة هنا إلى أنّ في اليونانية، الفعل “teleioutai” يعني “تكمّل” أي اقتيد إلى الكمال، وهو يختلف عن الفعل “teleionei” الذي يعني “انتهى” (لم يعد موجوداً). كما يمكننا أن نقول بأن حياة الحواس “vios” تنتهي بالموت بينما الحياة “zoe” تتكمّل ولا تنتهي. المهمّ هو أننا بالحياة الروحية التي نعيشها علينا أن نغلب الخوف من الموت ونشعر بالموت كطريق نحو اللقاء مع المسيح والعذراء الكلية القداسة والقديسين.
3. سؤال: نعرف من التقليد المقدّس أنّ عند موت إنسان ما تحضر الملائكة والقديسون والشياطين أيضاً. ماذا تقول لنا عن ذلك؟
جواب: نعرف من تعليم المسيح وكامل تقليد الكنيسة أنّ كلا الملائكة والشياطين موجودون، وليسوا تشخيصات للخير والشر، بل كائنات فردية خلقها الله. الشياطين كانوا ملائكة فقدوا شركتهم مع الله. كثيرون من القديسين استحقّوا أن يروا، في هذه الحياة، الملائكة وشياطين التجارب أيضاً. بحسب تعليم آبائنا، الملائكة والقديسون وحتّى المسيح والعذراء الكلية القداسة، غالباً ما يظهرون إلى المشرِفين على الموت ليساندوهم ويقووهم على تخطّي الخوف الذي يثيره الموت. الشياطين أيضاً يظهرون، خاصةً عندما يكونون قادرين على التأثير في بعض الأشخاص بسبب أهوائهم، ويطالبون بالسلطة على أرواحهم. هذا ما تذكّرنا به صلاة النوم الصغرى في أفشين لوالدة الإله “عند خروج نفسي الشقية، تداركيني من حولي، ولقتام مناظر الجن الأشرار أقصي عنّي بعيداً”.
بحسب تعليم الكنيسة، نعرف أنّ لكل إنسان “ملاكاً حارساً” يحميه، ولهذا يوجد صلاة خاصة بالملاك الحارس في صلاة النوم. كان الأب باييسيوس الراهب من الجبل المقدس يقول أنّه كثيراً ما رأى ملاكه الحارس وعانقه. كان يقول بأن علينا أن نجاهد للوصول إلى الخلاص حتى أن ملاكنا، الذي احتمل آلاماً كثيرة ليحمينا ويساعدنا في حياتنا، لا يتقدّم من الله فارغ اليدين، إذا لم نخلص بسبب إهمالنا. أذكر بتأثّر أن أبي كان عند دخوله الكنيسة يذهب مباشرة إلى باب الهيكل الشمالي ويقبّل أيقونة رئيس الملائكة ميخائيل ويسأله أن يتقبّل نفسه في الوقت المناسب بعد أن يتوب ويحميه من الشياطين الشريرة ويقودها إلى الله. ربما هذه الصلاة، من بين غيرها، ساعدته على الحصول على رقاد حَسَن ووجه مبتسم في الكفن.
4. سؤال: نقرأ في الكتاب المقدّس أنّ الرحمة تفوقت على الحكم. هل هذا يعني أن أعمال الإحسان تغفر كثرة الخطايا؟
جواب: يجب أن نرى ما هو معنى الرحمة. بالحقيقة، الرحمة هي الشعور بالنعمة الإلهية ومحبة الله. عندما نصلّي “يا رب ارحم”، نطلب رحمة الله ونعمته. مَن اختبر النعمة الإلهية يكون كريماً مع إخوته في كل أنواع الصدقات المعبّر عنها بالصلوات والأقوال اللاهوتية والمساهمات المادية، وبهذا يمارس التطويبة “طوبى للرحماء فإنهم سيُرحَمون” (متى 7:5). بهذا المعنى يمكن القول بأن الإحساس بنعمة الله والإحسان يتخطيان الحكم. إنّ مَن تحوّل روحياً واتّحد بالله لا يخشى الحكم، لأن قول المسيح ينطبق عليه: “اَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ مَنْ يَسْمَعُ كَلاَمِي وَيُؤْمِنُ بِالَّذِي أَرْسَلَنِي فَلَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ، وَلاَ يَأْتِي إِلَى دَيْنُونَةٍ، بَلْ قَدِ انْتَقَلَ مِنَ الْمَوْتِ إِلَى الْحَيَاةِ.” (يوحنا 24:5).
بحسب تعليم آباء الكنيسة، هناك ثلاث أحكام. الأول يتمّ في حياتنا، عندما يواجهنا مأزق اتّباع إرادة الله أو رفضها، عندما علينا أن نختار بين فكر الخير أو الشر. الحكم الثاني يتمّ عند خروج النفس من الجسد، بحسب القديس بولس: “وُضِعَ لِلنَّاسِ أَنْ يَمُوتُوا مَرَّةً ثُمَّ بَعْدَ ذلِكَ الدَّيْنُونَةُ” (عبرانيين 27:9). الحكم الثالث والأخير سوف يكون عند المجيء الثاني للمسيح. الحكم الأول مهم. يقول القديس سمعان اللاهوتي الحديث أنّه عندما يتّحد إنسان ما بالمسيح في هذه الحياة ويرى النور غير المخلوق، يكون الحكم قد تمّ ولا ينتظره عند المجيء الثاني. هذا يذكّرنا بقول المسيح المذكور سابقاً. هنا أريد أن أكرر قول القديس باسيليوس الكبير وغيره من آباء الكنيسة بأنّ هناك ثلاث فئات من المخلَّصين، العبيد الذين يتبعون إرادة الله ليتجنّبوا الجحيم، الأجراء الذين يجاهدون ليستأهلوا النعيم كمكافأة، والأبناء الذين يطيعون مشيئة الله بسبب محبتهم له. إذاً، في حياتنا علينا أن نتقدّم روحياً ونعبر من مرحلة العبيد إلى مرحلة الأجراء ومن هناك إلى عقلية الأبناء. هذا يعني العبور من الخوف والمكافأة في المحبة، أي أن نحب المسيح لأنّه أبونا وأمنا وصديقنا وأخونا وعريسنا وعروسنا. هكذا نتخطّى الحكم.
5. سؤال: أخبرنا شيئاً عن الموت المفاجئ.
جواب: إنّ تقييم الموت الفجائي يتوقّف على نظرة الإنسان. فبالنسبة للدهريين، الموت المفاجئ حسن ومقبول ومرغوب لأنهم لا يتعذّبون ولا يتألّمون بالأمراض والشيخوخة. عند المؤمنين المسيحيين، الموت الفجائي سيء لأنّهم يُحرَمون إمكانية التهيؤ بشكل أفضل للقائهم بالمسيح والكنيسة السماوية. عندما يزور الإنسان مسئولاً كبيراً يتهيّأ كما يليق، والأمر نفسه ينبغي عمله عند لقاء المسيح. الاستعداد بالتوبة أساسي. لهذا كان الأب باييسيوس ذو الذكر المؤبّد يقول بأنّ السرطان هو مرض طاهر لأنّه ملأ الفردوس بالقديسين، ما يعني أن المرض لفترة طويلة يهيئ الناس بالصلاة والتوبة. بحسب تعليم القديس مكسيموس المعترف، الألم يشفي اللذة.
في كل الأحوال، الموت هو الحدث الأكثر يقيناً. نحن نراه حولنا، كل شيء يموت، كل المخلوقات الحية، أصدقاؤنا، أقرباؤنا. ما ليس مؤكّداً ومعروفاً عندنا هو ساعة الموت، أي ساعة مجيئه. فقد تتمّ خلال النوم، المشي، السفر، العمل، التسلية، أو غيرها. لهذا علينا أن نصلّي يومياً كما تفعل الكنيسة: “من أجل أن نتمم حياتنا بسلام وتوبة، إلى الرب نطلب”، و”من أجل أن تكون أواخر حياتنا مسيحية سلامية بلا حزن ولا خزي وجواباً حسناً لدى منبر المسيح المرهوب نسأل”.
في تعليم الآباء القديسين، نواجه حقيقة أنّ أعظم المواهب التي يمكن أن يمتلكها الإنسان هي “ذكر الموت” اليومي. عندما يُصان هذا بنعمة الله، يقود الإنسان لا إلى اليأس وعدم الرجاء والخوف النفساني، بل إلى الروح والصلاة والإبداع حتّى في الأمور البشرية، لأنّه يحاول أن ينهي أعماله ويستعدّ كما يليق. عندما نحيا كلّ يوم وكأنّه الأخير في حياتنا، يجدنا الموت المفاجئ مستعدين.
6. سؤال: أيٌ هي العبارة الأصحّ: ساعة الموت أو لحظة الموت؟
جواب: هذا يتوقّف على كيفية تفسير كلمتي “ساعة” و”لحظة”. في الحديث، غالباً ما نستعمل كلمة “ساعة” لنعني “لحظة”، لكني أفهم أن سؤالنا هو حول ما إذا كان الموت عملية تمتد أو تنتهي بلحظة. ما يمكن قوله هو أنّه قد يكون هناك عملية موت أي الأمراض المزمنة التي تقود الإنسان إلى الموت لكن انفصال النفس عن الجسد يتمّ في لحظة محددة بمشيئة الله. هذه اللحظة مهمة لأنّ شكل وجود الإنسان يتغيّر ولا يمكننا أن نعرف كيف يكون من بعدها. نحن نعرف حالة ارتباط النفس بالجسد حيث يتمّ الاتّصال بالخليقة عبر الحواس. لكننا لا نعرف عن خبرة ما سوف يصير بعدئذ ولا كيف نصير. في الحاضر نحن نرى العالم المخلوق من الله والناسَ والأصحابَ وجمال الأرض، لكننا لا نرى الملائكة والشياطين. بعد الموت، رؤية النفس لن تكون عبر حواس الجسد بل سوف ترى ما ليس منظوراً حالياً. لهذا السبب، يسعى القديسون للحفاظ على وعيهم بالصلاة خلال عملية الموت، حتى يتركوا هذا العالم مرافَقين بقوة الله ونعمته.
علينا أن نذكر أن القدرة على الصلاة خلال هذه الساعات وتقبّل مناولة جسد المسيح ودمه لكي نُحاط بنعمة الله عند مفارقة النفس للجسد هي امتياز قد حذفته آلات دعم الحياة في غرف العناية الفائقة. من وجهة نظر مسيحية، تتطلب ساعة الموت تهيئة مناسبة، أي اعتراف ومناولة ومسح بالزيت المقدس وصلوات من العائلة والأصدقاء وصلاة شخصية. إلا أنّ في غرف العناية الفائقة يستحيل وجود هذه الخدمة الرعائية الكنسية. وهكذا، بسبب ما يُمارس من التقنيات الحديثة والأدوية يزداد في أيامنا عدد الأشخاص الذين يموتون غير واعين لما يحدث عند تلك اللحظة. هذه مشكلة مهمة. تطرح الطرق الطبية الحديثة إشكالية “إطالة الحياة أو إعاقة الموت”. مع كل ما يقدمه الطب الحديث، السؤال هو: هل تُطوَّل حياتنا لنتوب ونكرسها لله أو أن الموت يُعوَّق ما يخلق المزيد من الألم الجسدي والوجودي؟
في مطلق الأحوال، إنها لنعمة عظيمة من الله أن يموت الإنسان مُحاطاً بأحبائه وهم يصلّون له وفوق كل شيء أن يموت في الكنيسة مع المناولة والصلاة وبركة أبيه الروحي ونعمة الله وصلوات القديسين. ما ينبغي أن نتمنّاه هو ميتة كتلك المصوَّرة في أيقونة رقاد العذراء حيث نراها مُحاطة بمحبة المسيح والرسل ورؤساء الكهنة.
7. سؤال: بعض الناس يموتون فجأة. أصحيح أن الله يأخذ الإنسان عندما تكون إمكانية خلاصه في أقصاها؟
جواب: نحن المسيحيون نؤمن بشكل مطلَق بأننا خُلِقنا بمحبة الله وبأنّ الله يوجّه حياتنا ويعطينا الحياة ويأخذها عندما يجد أن اللحظة مناسبة. نحن نعرف أيضاً أن الله يحب الإنسان الذي خلقه ويريد خلاصه. لهذا، من الأكيد أن الله يسمح بموت الإنسان عند أفضل اللحظات. بالطبع، محبة الله لا تلغي حرية الإنسان. الإنسان قادر على التصرّف إيجابياً أو سلبياً، للتجاوب مع الله أو رفضه. بما أنك ذكرت أن بعض الأشخاص يتوفون فجأة، أريد أن أذكّرك أنّه علينا أن نتذكّر الموت باستمرار. لا ينبغي أن نشعر بأننا سوف نحيا لانهائياً على الأرض لأن هذا مرض روحي. هناك تعاقب بين الحياة والموت، مشابه لتعاقب الليل والنهار. يشدد علم جزئيات الحياة على أنّ الموت مرتبط بالحياة بشكل لا ينفصم، لأن بين الجينات جينات للتعمير موجودة في خلايانا. إذاً، من لحظة تكوّننا، يوجد الموت في الحمض النووي، ونرى الموت في جسدنا بموت الخلايا، وبشكل عام، مع التقدم في العمر ومرور السنين والتغضّن والأمراض وكلّ ما نسمّيه في اللاهوت فساداً وقابلية للموت. علينا ألاّ نكون قصيري النظر ونتصرّف مثل النعامة.
في هذه العملية يجب أن نعرف أن الله لم يخلقنا لنموت وأن الموت هو نتيجة خطيئة آدم وحواء وأن الله يحبنا ويهتمّ بنا. إنه أب محب. من غير الصحيح أن نصلّي الصلاة الربية وأن نناديه أباً من جهة، ومن جهة أخرى أن نسلك كالأيتام.
8. سؤال: يعلّق الإيمان الأرثوذكسي أهمية كبيرة على التوبة، والشكر لله على أنّه أعطانا التوبة. أيمكن أن تبلغ عظمة التوبة عند ساعة الموت لأن يخلص الإنسان حتى ولو كان محمّلاً بالخطايا؟
جواب: في تقليدنا الأرثوذكسي معروف أن الخطايا ليست أمراً أخلاقياً بل هي شيء وجودي، أي أنه يأتي من الحياة طبيعياً بعكس الطبيعة. وهكذا، التوبة هي عودة الإنسان من الحياة ضد الطبيعة إلى الحياة بحسب الطبيعة. بالخطيئة خسر الإنسان شركته مع الله ومع أخيه ومع الخليقة. بالتوبة يستعيد هذه الشركة مجدداً. إذاً، ترتبط التوبة بتقدم تحرر الإنسان من كل ما يستعبده. يصف الآباء هذه التقدم بثلاث كلمات: التطهر، الاستنارة والتألّه وهذا ما يسمّونه علاجاً. هذا يتمّ خلال كل الحياة. لهذا، الخلاص مرتبط بالشفاء. طبيب الجسد يفحصنا ويشخّص ما بنا ويعطينا طريقة الشفاء التي علينا تطبيقها. نفس الشيء يصحّ في مرض النفس. الاعتراف عند ساعة الموت يفتح للإنسان طريق الخلاص. إن لم يكن عند الإنسان ما يكفي من القوة للشفاء روحياً، فالكنيسة بصلواتها تساعده على الخلاص، أخذاً بعين الاعتبار أن الكمال غير متناهٍ، ذو طاقة طبيعية وليس حالة من الثبات.
خلال حياتنا علينا أن نكتسب روح التوبة هذه. علينا أن نتأمّل في كيف خُلِقنا من الله والنقطة التي بلغناها بسبب الخطيئة. إذا قرأنا كتاب التكوين بتأنٍ وبحسب تعاليم آباء الكنيسة ورأينا كيف عاش آدم وحواء وما صارا عليه لاحقاً، تنمو التوبة في داخلنا. إذاً، مَن كان صاحب “روح” توبة في حياته، يحس بهذه التوبة عند ساعة موته، وبالفعل إلى درجة كبيرة. وبالعكس، مَن يقضي حياته بلا توبة يصعب أن يظهر توبة عند اللحظة الأخيرة. أبي الروحي الطيب الذكر، كالينيكوس ميتروبوليت إديسا، عاش باستمرار مع ذكر الموت. عندما أخبره الأطباء أن عنده ورم في دماغه، اعترف وكتب وصيّته وصلّى وكان واثقاً من الله مردداً: “لربما الله يقول لي توقّفْ. أنا لا أحتاجك بعد”. وكان يصلّي دائماً مردداً: “لتكن مشيئتك”. لقد سلّم نفسه لله فكانت آخرته سلامية مقدسة مشابهة لمجمل حياته.
إذاً، بالرغم من إمكانية التوبة عند اللحظة الأخيرة لمَن كانت عنده شعلة محبة الله، إلا أنّه ينبغي أن نتوب فيما نحن أصحاء لكي نشفى، أي لنتقدّم من محبة الذات إلى محبة البشر، أي للخروج من المحبة الأنانية إلى المحبة التي تنكر الذات.
9. سؤال: بعد موت الإنسان، ما هي ارتباطات النفس وهذا العالم؟
جواب: بالرغم من انفصال النفس عن الجسد، يبقى شخص الإنسان موجوداً. كما نرى في قصة الرجل الغني ولعازر، فالغني كان مدركاً لحالته، واعياً لأقربائه الذين ما زالوا أحياء ومهتماً بهم. إذاً، بعد الموت، يهتمّ البشر بأحبائهم ويسألون خلاصهم من الله. كل صلواتنا للقديسين تقوم على هذه الحقيقة. بالطبع، هذا الارتباط بين النفس والأحياء هو رباط روحي وليس مادياً. في كتاب رؤيا يوحنا الذي يصف الليتورجيا السماوية، نرى علاقة القديسين بنا وصلواتهم من أجل كل الأحياء على الأرض. لهذا السبب، يصوّر آباؤنا في القداس الإلهي هذه الليتورجية غير المخلوقة التي تتم في السموات، في الهيكل غير المخلوق. في القداس، نحن نعيش مسبقاً جو الليتورجيا السماوية.
نحن غالباً ما نحسّ بمحبة القديسين وحمايتهم، كما بمحبة وحماية المنتقلين من المقرّبين منا، ونتمنى أن نلاقيهم. أحدى بناتي الروحيات كانت سعيدة جداً عند ساعة موتها لأنّها، بحسب ما قالت، سوف تلتقي بهذه الكنيسة السماوية. إذاً، تستمر النفس بالحياة بعد خروجها من الجسد ولا تمضي إلى العدم. إذا عاش إنسان ما بالتوبة خلال حياته، فنفسه بعد الخروج من الجسد، تدخل هذه الليتورجيا الإلهية وتصلّي، ككاهن روحي، من أجل كل العالم وتنتظر قيامة الأجساد حين تدخل النفس الجسد لكي يشترك الجسد بدوره في الاحتفال بالفصح السماوي.
10. سؤال: ما هي النصيحة التي علينا إسداؤها لمَن هم حولنا بخصوص موقفنا من شخص مقبل على الموت عند يوم أو ساعة أو لحظة موته؟
جواب: عملية الموت ضرورية لكل إنسان إذ إن أمامه إما طريق الخلاص أو طريق الهلاك الأبدي. للأسف، في هذه الحالات، كثيرون لا يهتمّون إلا بالصحة الجسدية لأقربائهم أو أحبائهم، من دون أي اعتبار لما هو أبدي. لهذا علينا أن نهتمّ بأن الشخص المقبل على الموت يعترف ويتناول ويتلقّى نعمة الله من خلال سر المسحة بالزيت المقدس ويقوم بكل ما توفره كنيستنا. بوجه خاص علينا أن نقضي آخر لحظات أحبائنا في الصلاة. علينا أن نتأمّل ليس فقط في أننا نخسر قريبنا أو صديقنا بل بأنه ينتقل من طريقة وجود (بجسد وحواس) إلى طريقة أخرى من غير جسد. فعند ذلك الوقت تكون الحاجة للصلاة الحارة. أذكر لحظات أبي الروحي الأخيرة، كنت بجانب سريره ولم يكن بإمكاني تقديم أي شيء آخر، كنت أصلّي فقط لكي تتقبل الملائكة نفسه. إحدى قريباتي التي كانت موجودة ظنّت أني كنت حزيناً لأني كنت مركزاً على الصلاة. بينما أنا كنت أصلّي ليس إلا، لأنّ تلك اللحظة كانت مقدسة وحاسمة.
عموماً، علينا أن نختبر يومياً، كما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم، أن الحياة الحاضرة هي “نزل”. نحن ندخل هذا النزل، نحيا، لكن علينا أن نهتمّ بالخروج في رجاء حسن من دون أن نترك هنا أي شيء حتى لا نخسر ما هو هناك. إلى هذا، ينبغي أن يدرك كل المسيحيين أنّ الموت قد انغلب بصليب المسيح وقيامته، وأن الشركة مع المسيح هي تجاوزٌ مستمر للموت والخوف منه، وأن خروج النفس من الجسد هو مسيرة نحو الكنيسة العلوية واللقاء مع المسيح والعذراء الكلية القداسة والقديسين، وأنّ النفس سوف تعود إلى الجسد وأنّ الجسد سوف يُقام ويحيا إلى الأبد، بحسب ما عاش هنا على الأرض. يكتب القديس مكسيموس المعترف أنّ من لحظة الموت، وخاصة بعد الحكم الأخير، هناك إمكانيتان: الذين في شركة مع المسيح سوف يحيون في “وجود أبدي سعيد” والباقون في “وجود أبدي بائس”. إذاً، الكل سوف يتمتّعون بالوجود الأبدي. الفرق هو بين السعيد والبائس. لهذا، نصيحتنا لأقربائنا وأصدقائنا المشرفين على الموت هو بأن يؤمنوا بالمسيح ويثقوا بأننا لسنا مجرّد مواطنين في هذا العالم، بل نحن مسافرون متوجهون إلى بلدنا الحقيقي الذي هو السماوات. نحن مواطنون فوق في السماوات وينبغي أن تكون رغبتنا في الأرض السماوية غامرة.