الكنيسة والعصر
الأب أنطوان ملكي
ثمّة مناقشات دائماً حول أنّ شؤون الكنيسة بمجملها تفتقد للمعاصَرَة وتحتاج إلى تحديث. قد يكون هذا الأمر صحيحاً جزئياً اليوم وفي كلّ زمان. ولهذا، تدأب الكنيسة دائماً على أن تكون معاصرة، ويظهر هذا الدأب من تطوّر نتاجها اللاهوتي والليتورجي الذي وصل إلينا. إلا أننا في العقود الأخيرة نشهد انتشاراً المعارف ورفعاً لها إلى درجة أن البعض صار يؤلّهها، عن قصد أو عن غير قصد، ما يجعل من الضرورة التوقّف عند بعض دعوات العصرنة في الكنيسة، لا لرفضها بل لتصويبها وتحويلها للخير ما أمكن.
على سبيل الإيضاح لا السرد، يتوقّف البعض عند لغة الكنيسة، أي لغة الكتاب المقدّس والليتورجيا وسِيَر القديسين، فيرَون في عدد ليس قليل من عباراتها عتاقةً ورجعيةً لكونها لا تستعمل صور العصرِ ولا تأخذ متغيّرات علومه بعين اعتبارها. وعلى غرار اللغة مظهر الكاهن ولباسه، توقيت الصلوات وطول مدتها، الأصوام شكلاً ومضموناً، مواقف الآباء من قضايا الزواج والجنس والطاعة وغيرها… والمشتَرَك بين كل هذه المواقف الداعية إلى إعادة النظر في تراث الكنيسة هو أنّها تستند في تحليلها واستنتاجاتها إلى علوم هذا العصر وحالة ناسِه. من هنا نجد مَن يريد أن يناقش تعليم الذهبي الفم حول التربية على ضوء نظريات ديوي وهاتون وغيرهما، أو مَن يريد أن يناقش تعليم القديسين يوحنّا السلّمي ومكسيموس المعترف ومرقس الناسك على ضوء تحليل فرويد ويونغ وغيرهما. فمن جهة العلم، يبدو الأمر مغايراً للأسلوب المفاهيمي (contextual method) في دراسة الأمور. هذا الأسلوب يدعو إلى التعرّف على كلّ تعليم في إطاره التاريخي والحكم عليه ضمن ذلك الإطار وليس خارجه. ويوجد اليوم مَن اتّبع هذه الطريقة في البحث فتلاقى مع آباء الكنيسة في أمور علوم النفس والمجتمع. على سبيل المثال لا الحصر، مدرسة العلاج الإدراكي (cognitive therapy) التي يتبنّاها عدد كبير من المعالجين النفسيين الأرثوذكسيين وبينهم مَن تحوّلوا إلى الأرثوكسية عندما وجدوا أنّ علمهم يتّفق في وصفه للنفس البشرية وما يخالجها مع ما كتبه الآباء قبل وجود علم النفس الحديث وقوانينه.
أمّا من الناحية الروحية، فما يميّز أيضاً مواقف أغلب الداعين إلى عصرنة الكنيسة هي احتكامهم إلى أنفسهم. ففي محاولتهم لإثبات نظرياتهم، يضعون الكنيسة في خدمة علومهم، على عكس الآباء الذين وضعوا العلوم في خدمة الكنيسة. فالتطبيق الحَرْفي للعلوم يفتح أبواباً لا تبقي شيئاً في محله، وخبرة الغرب المسيحي شاهد كافٍ على ذلك، إذ نرى اليوم الكثيرين من الغربيين يعودون إلى التراث لأنّهم يجدونه أقرب إلى إيمانهم من العصرنة والتحديث العشوائيين. في هذا المعنى، يوضح الرسول بولس أنّ “الروحي فيحكم في كلّ شيء، وهو لا يُحكَم فيه من أحد” (اكو15:2)، ما يعني أننا نحكم على علوم الدنيا، كلّ علومها، على ضوء روح المسيح وليس بروح هذا العالم. هذا أمر يحتاج إلى تنقية ذاتية وتوبة عميقة وإحساس واقعي بالمحدودية أمام عظمة الآباء والتراث الذي تركوه، وهذا ما يفتقده علماء هذا الزمان، حتّى ممن يرون أنفسهم من أبناء الكنيسة.
إن عدم ترشيد الدعوة إلى عصرنة الكنيسة تفتح الباب على انقلاب لا يبقي من الكنيسة إلا اسمها. لذا ينبغي الانتباه قبل أن يأتي زمان يقترح فيه البعض تشريع الجنس خارج الزواج بحِجّة الحب، والإجهاض بحجة الاقتصاد، والموت الرحيم بحجة الرحمة، وإلغاء المناولة بالملعقة والدَهن بالزيت بحجّة النظافة، والتخلّي عن التغطيس في المعمودية بحجّة السلامة، وتبديل أجزاء من الكتاب المقدّس والليتورجيا وإلغاء تعابير من هنا وهناك بحجّة تطوّر اللغة وعدم اعتياد إنسان هذا العصر عليها.