عائلة الكاهن
الأب أنطوان ملكي
في حديث إلى كهنة أبرشية طرابلس والكورة وتوابعهما، في اجتماعهم، ذَكَر الأرشمندريت توما بيطار، وهو رئيس الدير الذي قارب سنته الكهنوتية الأربعين، أنّ أولى مقوّمات الكهنوت الستة هي القداسة، والثانية هي الفقر الطوعي. فالكاهن يتقدّس ويقدّس، وهذا هدف التزامه الخدمة. أمّا الفقر الطوعي فهو خيار يتّخذه، لا كنذور الرهبان، بل كسلوك في الحياة وموقف من العالم ومقتنياته ومغرياته.
هنا يأتي السؤال: أيستطيع الكاهن أن يحقق هذا الكلام دون أن يطال عائلته؟ فأين هي عائلة الكاهن من كلّ هذا؟ وإذا كانت زوجته اختارت أن تكون خورية، ولو رفضت لما صار هو كاهناً، وبالتالي التزمت وإياه بهذا التعليم، فماذا عن أولاده؟
قبل محاولة قراءة هذه الأمور لا بدّ من الإشارة إلى دور العائلة الذي تحوّله الحداثة والحضارة إلى دور جانبي. فالعائلات تضاءلت عدداً عن ذي قبل، أفقياً وعمودياً. الأهل والأقرباء صاروا للمناسبات. الاختصار بعدد الأولاد صار القاعدة. هذا وقد كُتِب الكثير عن العائلة، من وجهات نظر علوم الاجتماع والنفس والتربية وغيرها، وحتّى من باب الرعائيات، دون أن يغيّر ذلك السمة الغالبة التي هي التراجع والتفكك المترافق مع نوع من الاستسلام للتيار عند أغلب أولياء العائلات وكأنّ لا حول لهم ولا قوة. فالتيار اليوم له متطلباته في التفكير والمنطق واللهجة واللباس والتصرّف والسلوك، وهي متطلبات لا تتجانس مع دور العائلة التقليدي المسيحي. ولكون عائلات الكهنة في هذا العالم، بغضّ النظر عمّا إذا كانت منه أو لا، فالوضع يطرح عليها تحديات كبيرة لا بد أن تؤثّر على خدمة الكهنة أنفسهم.
يلاحظ الأب توماس هوبكو أن كثيرين من القديسين موجودون في “عناقيد”، يعني بها عائلات. من الأمثلة عائلة القديس باسيليوس الكبير وإخوته غريغوريوس النيصّي وسمعان وأخته ماكرينا وأمّه آميليا، وكلّهم قديسون. من الأمثلة أيضاً مريم وأليصابات وزخريا والدي المعمدان، أو يوسف الخطيب وولديه يعقوب وسمعان. لكن هذا لا يعني أن الأمر يمتد لأجيال دائماً، فالقديس غريغوريوس النزينزي، الذي ضمّت عائلته عدداً من القديسين، هو نفسه ابن أحد الكهنة الوثنيين الذين اهتدوا.
ما معنى هذه العناقيد بالنسبة لنا في القرن الحادي والعشرين؟ إنّها تذكير لنا بعدم التخلّي عن التقليد، وخاصةّ المتعلّق بالعائلة. من جهة أخرى، إنها مثال للاحتذاء والسعي إلى تحقيقه. أغلب العائلات اليوم، حتّى الملتزمة كنسياً، نسيت هذا المثال. فهذه أمّ تمارس الصوم لكنها تمنعه عن أولادها خوفاً على صحتهم. هذا لم تفعله القديسة آميليا. وهذا أب يلتزم بكل الصلوات إنما يمنع ابنه منها كي لا يتأخّر عن درسه. وماذا عن موقف الأهل من الاعتراف والأبوة الروحية وزيارة الأديار وغيرها؟
وبالانتقال إلى عائلة الكاهن، أيكفي أن تكون امرأةٌ ما خورية لتتخلّى عن كلّ ما تمارسه نساء هذا الجيل، من اهتمام بالنظافة والشكل والترتيب والهندام واللباس؟ أيكفي أن تكون الصبيّة ابنة كاهن لتتخلّى عن كل ما يشغل صبايا هذا الجيل من موسيقى ولباس وتلوين شعر وسينما وخليوي وغيره؟ أيكفي أن يكون الشاب ابن كاهن ليستغني عن ما يشغل مراهقي وشبّان هذا الجيل من ارتياد أماكن وطريقة في الكلام وقصّ شعر وإنترنت وغيره؟ الأمور ليست سوداء وبيضاء، لذا الإجابة ليست بسهلة.
في تقليد الشرق، أن عائلة الكاهن، هي على غراره، أي العائلة التي ينبغي أن تكون النموذج للرعية. لكن هذا الواقع يضع الكثير من الضغط على الخورية والأولاد، ويقع الكثير من التخفيف من هذا الضغط على عاتق ربّ العائلة المُطالَب بالمبادرة إلى وضع أسس جوٍ عائلي مكيّف بحكمة. التصرّف بتمييز مطلوب من الكاهن في بيته أولاً. يُلاحَظ اليوم أنّ لدى العديد من زوجات الكهنة وأولادهم ميل إلى رفض دور النموذج، لكن الحقيقة تبقى أن أغلب أبناء الرعية لا يرونهم، عائلة وأفراداً، إلا كذلك. من أعظم الأخطار التي تهدد كلّ المسيحيين، عائلات وأفراداً، وخاصةّ عائلات الكهنة، هو الخوف من أن يكونوا مختلفين والرغبة في أن يكونوا “طبيعيين وعاديين” على مثال كلّ الباقين. ويزداد الخطر خاصةً إذا تمادى البعض في إبراز هذه الطبيعية.
لكن الانسجام مع معايير المجتمع والنزعات السائدة ليس هدفاً مسيحياً، ولا يمكن أن يكون، ولا يجوز للكاهن أن يضعه لنفسه ولا لعائلته، وخاصةً لأبنائه. بل بالتأكيد، على عائلة الكاهن الاستعداد لأن تكون مختلفة، لا بهدف الاختلاف بل لأن اتّباع المسيح وإنجيله يتطلبان ذلك.
إن بنية العائلات في المجتمع قد تعرّضت للتآكل بشكل حاد، والمؤسف أنّ عائلات الكهنة ليست بمنأى عن ذلك، من جهة لكونها غير محصّنة ضد الموضة الخبيثة، ومن جهة أخرى لأن هذا التحصين أمر صعب جداً في زمن التلفزيون والإنترنت والعولمة. من هنا، أنّ التعرّف على الخطر هو الخطوة الأولى للغلبة. أمّا الادّعاء بأنّ الخطر غير موجود ورفض التنبّه إليه، فلا يمكن إلاّ أن يرفعا من درجة الخطر والأذى على العائلة.
ليس الكاهن معلّماً ومرشداً لرعيته أكثر مما هو لعائلته نفسها. لا يستطيع الكاهن المتزوّج أن يتخلّى عن موقعه كأب ورأس لعائلته كما يفعل أغلب الآباء اليوم في شريحة كبيرة من عائلات مجتمعنا. الكاهن، كمعلّم لأبنائه كما لغيرهم، لا يستطيع أن يكون أقلّ صرامة معهم مما هو مع الباقين من أبناء الرعية.
من الضروري اليوم، وأكثر من أي وقت مضى، أن يكون بيت الكاهن نموذجياً للجماعة كلّها. غالباً ما يكون الكاهن مذكِّراً للعلمانيين بأنّ البيوت هي كنائس صغيرة، وبالتالي مقدّسة، يصلّي فيها أهلها معاً كما يأكلون معاً، ويتعاملون بالمحبة والاحترام، هذه المحبة التي تشكّل القوة التي تجمع الكلّ معاً، دون أن تكون رباطاً عصبياً قبلياً أو ما شابه. الشائع اليوم، في كافة المجتمعات، أنّ البيوت تحوّلت إلى أماكن للنوم والأكل على السريع وتغيير الملابس. في مجتمعاتنا اليوم تخلو بيوت كثيرة من مائدة الطعام، لأنّ كلّ واحد في البيت يأكل في الوقت الذي يناسبه وبالشكل الذي يناسبه، والمكان الذي يناسبه، وغالباً ما يكون هذا المكان طاولة الحاسوب أو الكنبة مقابل التلفاز. الصلاة، إذا مورسَت في البيوت، صارت أمراً خصوصياً بالكامل. نادرة العائلات التي تصلّي معاً. لكن هل بيوت الكهنة مختلفة عن غيرها؟
الكاهن الكاهن يعرف أنّ عليه أن يؤدّي حساباً عن أمانته التي هي جسد المسيح. في سيامته يعطيه الأسقف الحمل قائلاً له: “خذ هذه وكنْ أميناً عليها فإنّها تُطلَب منك يوم القيامة”. معنى هذا أنّه مؤتَمَن على جسد المسيح، وجسد المسيح هو الكنيسة بكلّ مكوّناتها. بهذا الائتمان يكون الكاهن مقدِّساً ومقيماً للخدم وراعياً، أي أنّه مسؤول عن شعب الله، ولا يستطيع أن يكون سبب معثرة لهم. لا يكفي أن يلتزم الكاهن بالتعفف عن المال والصدق والمسالمة وبإقامة الخدم وافتقاد المرضى والمحتاجين والاهتمام بالجميع. هذا كلّه يثبّت المؤمنين وقد يجذبهم أيضاً. لكن في مقابل هذا، عليه ألاّ يكون سبب معثرة لأحد، هو وعائلته. أيستطيع كاهن أن يعظ عن الحشمة ما لم تمارسها خوريته وبناته؟ أيستطيع كاهن أن يعظ عن الصوم فيما تفوح من بيته روائح الشواء؟ أيستطيع كاهن أن يعظ عن ضبط النفس فيما أبناؤه يتنقّلون بين المقاهي ومراكز السهر؟ أيستطيع كاهن أن يعظ عن القناعة فيما لا تلبس بناته الفستان مرتين، وفيما أبناؤه يغيّرون السيارات كالثياب؟ أيستطيع الكاهن أن يطلب من الناس أن يأتوا إلى الكنيسة فيما أوّل المتخلّفين زوجته وأبناؤه؟ كلّ هذا إن حصل يكون سبباً للمعثرة، والويل لمَن تأتي على يده العثرات. التراجع عن النموذج هو تشويه للصورة وفقدان للمثال، ولهذا يُعثِر.
ليس المقصود من الكلام عن عائلة الكاهن زرع الكآبة بل التحفيز على الالتزام، بقدر ما يعطي الله. مهم أن يثبت الكاهن في معرفة أن جهوده لعيش حياة ترضي الله ولتربية أبناء أتقياء ليست بلا مكافأة. هذا لا يعود إليه بل إلى طبيعة النعمة التي لا يستطيع أحد أن يصف فعلها أو أن يخمّن نتائجها. إذا ما استسلم الكاهن لله ووثق به، هو يعطيه حياة النعمة ويرسل الخير إليه وإلى أحبائه، وأوّلهم عائلته الصغيرة. في صلاة الإكليل تقول الكنيسة “لأن صلاة الوالِدين تثبِّت أساسات البيوت”. هذا حافز لكلّ كاهن للالتزام بالصلاة اليومية من أجل الأولاد والزوجة، وربما الأحفاد، وبإعطاء هذه الصلاة الوقت الضروري الذي تستحقه.