الرعاية والفكر الدهري
الأب أنطوان ملكي
الرعاية هي فن شفاء المؤمنين. فالكنيسة، كونها جسد المسيح، لا بد أن تعمل على علاج أعضائها، شأن كل جسم في هذا الكون ينشئ دفاعاته ويطوّر نظمه لكي يبعد المرض أو الجراثيم خارجاً. على ضوء هذا المبدأ تُقرأ القوانين الكنسيّة. فالصوم ليس تعذيباً للنفس ولا إماتة، احترام الأوقات والأماكن ليس تعقيداً لما هو بسيط، فالالتزام بمختلف التعاليم هو للشفاء أو للمساعدة على الشفاء. والمرض في الكنيسة قد لا يبدو بمظهر العَطَب، إذ قد تكون كنائسنا مكتظّة وجوقاتنا في أفضل الأحوال ومؤسساتنا في قمة الازدهار، دون أن تكون صحة كنيستنا بخير. الشفاء هو الأرثوذكسية، والأرثوذكسية هي العقيدة المستقيمة أو الرأي المستقيم، كما أنها العمل المستقيم. لا تقوم العقيدة من دون العمل ولا العمل بمعزل عن العقيدة يكون صحيحاً. من هنا أن أحد مظاهر المرض هو مغايرة ما يُعمَل به للقوانين. فلو أخذنا موضوع الأكاليل مثالاً، نجد أن القوانين تمنع الإكليل في الأصوام وفي مساء السبت، كما أنها تحدد الكنيسة مكاناً للإكليل، فلا البيت ولا الفندق ولا المنتَجَع هي أمكنة إقامة هذا السرّ. مع هذا، تُقام الأكاليل هنا وهناك وفي السبوت وفي يوم قطع رأس يوحنا المعمدان وفي عيد الصليب. أين العَطَب؟ في القوانين؟ لا فهي واضحة. إذاً العَطَب في تطبيقها، أي في الرعاية.
قبل المتابعة في مناقشة الموضوع، ينبغي التشديد على أن الرعاية عملية في الاتجاهين. الراعي يرعى رعيته وهي ترعاه. رعايته لها تقوم في تعليمها العقيدة المستقيمة وتوجيهها نحو العمل المستقيم. ورعايتها له تكون ليس فقط في تأمين معيشته أو بعض منها، بل في عدم جعله يحسّ أنّه موظف لدى مجلس الرعية، وفي عدم الضغط عليه ضغطاً يؤدّي إلى انحرافه في العمل. كثير من الحالات الشاذة سببها أن بعض الرعية يصرّ على أن تكون الأمور على هواه. فإذا رفض الراعي تلوكه الألسن على أنه عنيد لا يحبّ ولا يرحم رِجعي متعصّب. وإذا ساير الراعي آخذاً المعاندين بطول الأناة والترفّق تلوكه الألسن على أنه محبّ للمال مستعد لعمل أي شيء في سبيله.
نجد اليوم أكثر من نوع من الرعاة. هناك المتكاسلون ولن نحكي عنهم. هناك الفاعلون الذين لا تحرّكهم الأحداث بل هم يبادرون، زياراتهم دورية، يعودون المرضى، يعزّون الحزانى، يسألون عن المتغيّبين عن الصلاة. إلى هؤلاء نجد المتفاعلين الذين أعمالهم ردة فعل على ما يجري، فلا يزورون من دون سبب كالمرض أو التعزية أو التهنئة أو المباركة. أغلب هذه الفئة من الذين ارتضوا أن يحملوا صليب الكهنوت إلى جانب وظيفة أو عمل فكَبُرَت عوائلهم ومعها رعاياهم وصاروا بالكاد يستطيعون أن يلحقوا بهذه وتلك. هؤلاء مهتمّون ويرغبون في أن يكونوا فاعلين. وفي هذه الفئة أيضاً مَن بدأ مسيرته الكهنوتية فاعلاً مبادراً منفتحاً فتوالَت الضربات عليه من الأبناء وأحياناً من الإخوة، فصدمه أن بين الناس مَن لا يرى في الكنيسة إلا مؤسسة للتزويج والتجنيز ولا ترى في الراعي سوى ناشط اجتماعي، وراعه أن الكثيرين من الناس، من العامة والإكليروس، يتعاطون القوانين الكنسية بِتَذاكٍ فلا يرون فيها إلا آراء وُجدَت ليتم تخطيها حسب الحاجة. واخيراً نجد الذين يعملون، وأحياناً يعملون كثيراً، لكنّهم يرون رضا الله من رضا الرعية، عن طيب نية في أغلب الأحيان. هؤلاء مستعدون لأن يناولوا مَن يتقدّم كائناً مَن كان أو أن يقبلوا بأي عراب أو أن يقيموا الإكليل حيث يشاء العروسان وفي أي وقت كان أو أن ينقلوا الأعياد من مواعيدها ويختصروا الخِدَم شرط أن تكون الرعية راضية. طيّبو النية من بينهم يرون في مثال الراعي الصالح الذي لحق الخروف الضال إلى الجبال دعماً لمسلكهم. لكنهم لا ينتبهون إلى أن الراعي الصالح لحق الخروف الضال وأتى به إلى الحظيرة، لكنّه لم يحمل العلف والماء له إلى الجبال حتى يأكل ويتنعّم هناك، ويعود إلى الحظيرة إذا رضي. أن يحمل الراعي العلف للخروف الضال لا يعبّر بالضرورة عن محبة بل هو انحراف يفتح الباب للخراف جميعاً حتى يهرب كل منها إلى حيث يرغب. ماذا يفعل الراعي إذا تشتت قطيعه بعضٌ في الجبال وبعضٌ في الأودية وبعضٌ في السهول؟
إن التعاطي الدهري مع الرعاية والاستخفاف بقوانين الكنيسة يعيق الكنيسة عن أداء دورها أي عن شفاء الناس وتهيئتهم ليستحقّوا الله. لا يكفي أن يخاف الناس، رعاة ومَرعيين، من الله فهذا عمل العبيد، ولا يكفي أن يؤمنوا به ويحترموه فهذا عمل الأجراء، بل ينبغي أن يكونوا أبناء فيحبّوه ويتقدّموا إليه بخوف وإيمان ومحبة. أن يستحق المؤمن التقدّم على هذا الشكل هو نتيجة الرعاية التي ترضي الله ويرجوها المخلِصون.