الأرثوذكسي في مكان العمل
الأب أنطوان ملكي
المؤمن الأرثوذكسي مدعو دائماً إلى أن يعي حضور الله وأن يسعى باستمرار إلى خلاص نفسه. الوسيلة الأكثر وضوحاً لهذا المسعى هي الحياة الرهبانية، حيث يتخلّى الإنسان عن اهتماماته الدنيوية، أو أقلّه أنّه يتفرّغ لنظام محدد من الحياة الروحية. لكن الدعوة إلى هذه الحياة هي لقلّةٍ وليست للجميع، فالأغلبية مدعوة إلى الزواج وحياة العائلة، مما يعني، مع استثناءات نادرة، أننا نجد أنفسنا مضطرين للعمل في بعض الوظائف أو المهن لنؤمّن معيشتنا. بالمقابل، أغلب أصحاب العمل لا يهتمّون بحياة موظفيهم الروحية وبالإجمال مكان العمل ليس مكاناً روحياً. فالتركيز هو على الإنتاجية والفعالية وليس على الروحيات. نادراً ما يكون زملاؤنا أرثوذكسيين أو حتى مسيحيين. لهذا فالأحاديث في مكان العمل تكون مشبَعَة باهتمامات العمل والعالم، ولهذا يواجه المؤمن الملتزم سؤالاً: كيف نستطيع أن نعمل لخلاصنا فيما في الوقت نفسه نكون جزءاً من العمل؟
الجواب البديهي هو في أن يكون المؤمن منتبهاً وواعياً لدعوته في كل الحالات. هناك بعض الممارسات التي تسهّل هذا الأمر، كأن يضع أيقونة على مكتبه أو يحملها في رقبته. ممارسة أخرى هي أن يخلق المؤمن روتيناً لتكرار الصلوات القصيرة، فيمكن مثلاً أن يستعمل منبّهاً يرن كل ساعة ليذكره بالتوقف لبضع ثوانٍ يخصصها لصلاة يسوع “يا رب يسوع يا ابن الله ارحمني أنا الخاطئ”، أو ليصلي أحد المزامير التي يحفظها أو يقرؤها، أو، بحسب خبرة البعض، فإن صلاة القديس يوحنا الذهبي الفم على ساعات اليوم الأربع والعشرين الواردة في آخر كتاب السواعي، هي صلاة ممتازة لهذه الحالات. تنظيم الصلوات والقراءات اليومية من الإنجيل أو الكتابات الروحية يساعد كثيراً على تركيز الفكر والقلب على ملكوت الله. أن يخصص المؤمن قسماً من استراحته عند الظهيرة أو غيرها ليغذي روحه، كما يغذي جسده، بالصلاة والقراءة الروحية، هي فرصة لإعادة الفكر إلى مكانه في وسط النهار. إلى هذا، هناك أمور كثيرة يمكن أن تشكّل مذكّراً ثابتاً للمسيحي بدعوته.
لكن بالرغم من كل جهودنا فإننا نواجه حالات كثيرة نجد فيها أن حياة الكنيسة تتعارض مع حياة مكان العمل ولا تتلاءم معه. هناك تعارضات عملية وتعارضات أخلاقية، نواجهها منفصلة أو معاً. بعض التعارضات العملية يتعلّق بالدورة اليومية لحياة الكنيسة، كمثل الصوم والصلوات والأعياد. إذا ما كنا نسعى للحفاظ على الأصوام، فسوف نفاجأ بمجموعة الإغراءات التي تدفع بنا إلى كسر صومنا ومنها الأكل في المكتب، بما فيه من الوجبات الخفيفة وال”fast food” وما تحتويه جميعاً من اللحوم والبياض. يُضاف إلى هذا ضرورة الجواب على الأسئلة حول فحوى الصوم وأهميته ودوره، ما يستدعي الشرح وتحمّل نظرة الزملاء بما فيها من النقد، وحتى من الإدانة. كل هذه تدفع الكثيرين إلى التخلي عن الصوم.
من جهة أخرى، وعلى مستوى أقلّ من الأهمية، قد يجد المؤمن نفسه في تعارض مع جو مكان العمل، خاصةً إذا كان عمله في مكان ثابت. فقد يرغب في أن يضع على مكتبه أيقونة كما يفعل الآخرون حين يضعون صور عائلاتهم وأحبابهم، وحتى حيواناتهم أحياناً. عالم اليوم يقبل كل تلك الصور ولا يجد فيها أي أذى لأي شخص، لكن في أغلب أماكن العمل يجد القيمون أن الأيقونات أو الصلبان قد لا ترضي الآخرين. هذا تحدٍ على المؤمن أن يمتلك التمييز لكي لا يودي به إلى المشاكل، فمن السهل أن نخبر الناس في هذا الزمان الدهري عن علاقتنا بأهلنا وأولادنا أو حتى ببعض الممثلين أو غيرها، لكن العالم الدهري غير مستعد ليقبل علاقتنا بالقديسين وبالكنيسة.
ويواجه المؤمن مسألة الاشتراك في صلوات الأعياد التي لا يُعطَّل فيها وهي كثيرة كمثل التجلي ورفع الصليب وأعياد السيدة والبشارة وغيرها. أغلب العاملين لا يستطيعون التغيّب لحضور القداس في رعاياهم، إذا كانت تقيمه. فهذا التحدي يمكن تلافيه إذ يمكن أن توجَد دائماً رعية، أو أحد الأديار، حيث يقام القداس المسائي لهذا العيد. وفي السياق نفسه، لا بد من ذكر التحدي الناشئ من الإغراء الذي يعرضه علينا العمل الإضافي الذي نجد تبريره، خاصةً في ظروفنا الحالية، ممكناً وسهلاً. فالعمل الإضافي لا يبقي حرمة لا للآحاد ولا للأعياد، فيما الوصية واضحة في الكتاب حول استراحة اليوم السابع، وقد علّم الآباء عنها كثيراً.
التحدي العملي الأخير هو في أين تقف المحادثات مع الزملاء. الكلام هنا هو عن إغرا “القال والقيل”. إذا لم نشترك في القال والقيل نخسر بعض “المعلومات” المهمّة. لكن من جهة أخرى، أغلب الأحاديث بين الزملاء هي حول السياسة وهموم المعيشة، وقد تكون أسوأ حين تتركّز على الموضة والممثلين والبرامج التلفزيونية. أحياناً، تكون حول أمور شخصية ومنها الإيمان والمعتقد، وهنا ينشأ تعارض جديد إذ قد لا يرى بعض زملائنا، من غير الأرثوذكس، أن للفروقات بيننا أهمية وأنها تنحصر في الشكليات أو تقوم على اختلاف سياسي بين الرئاسات. والتحدي هنا هو في الاختيار بين محاولة الشرح، وبالتالي توسيع الخلاف، أو بالسكوت وبالتالي ترك الفهوم الخاطئ سارياً.
هنا لا غنى عن قول الرسول بولس لأهل فيليبي : “كُلُّ مَا هُوَ حَقٌ، كُلُّ مَا هُوَ جَلِيلٌ، كُلُّ مَا هُوَ عَادِلٌ، كُلُّ مَا هُوَ طَاهِرٌ، كُلُّ مَا هُوَ مُسِرٌّ، كُلُّ مَا صِيتُهُ حَسَنٌ، إِنْ كَانَتْ فَضِيلَةٌ وَإِنْ كَانَ مَدْحٌ، فَفِي هذِهِ افْتَكِرُوا.” (9:4). السؤال الحقيقي أمام المؤمن هو في وضع الأولويات. هل أنا مستعد لتحمّل كل الأسئلة والنظرات أو حتى الكلمات من أجل الصوم، وأصلاً هل نسمع أقل من ذلك في أغلب البيوت؟ هل أنا مستعد لأن أذهب من مدينتي أو قريتي إلى دير أو رعية أخرى للاشتراك في قداس العيد؟ هل أنا مستعد لتحمل اتّهام الآخرين بأني منعزل لتلافي الثرثرة؟ وفوق كل هذا، هل أنا مستعد للتعبير عن التزامي عملاً وقولاً، فلا أستحي بما أمارس، وأقول للآخرين بأن لكل خياره في طريقة حياته وعلى كل واحد أن يحترم ما عند غيره؟ في النهاية، العمل مهم كونه مصدر عيشنا، لكن الأهم هو قيمة إيماننا وهويتنا وسلوكنا للطريق المؤدي للخلاص.