الطقوس والاجتماعيات
الأب أنطوان ملكي
عن نشرة الكرمة
في المجتمعات المتعددة تُعرف الجماعة الكنسية بأنها أفراد يجمعهم إيمان واحد وليتورجية واحدة. علاقتهم بغيرهم تنبع من إيمانهم ولكنها لا تنحصر بمَن يشاركهم هذا الإيمان دون غيره. اجتماعيات المؤمن يرسم حدودها إيمانه دون أن تؤثر فيه. قد يحمل البعض على المؤمن انكفاءه عن بعض نشاطات أو جمعيات لكن هذا الانكفاء ليس تعالياً عن ما يجري في المجتمع إنما هو ترفع عن ما هو غير متوافق مع الإيمان ومستساغ من المجتمع. علاقة الكنيسة بالمجتمع معروفة وحُكي عنها الكثير. فالكل متفقون على أن مؤمناً ملتزماً ممارساً هو مواطن صالح وعضو حسن السيرة في المجتمع. هذا كلام يقوله العامة كما يثبته الباحثون. هذا بالطبع يجب ألاّ يحوّل الكنيسة إلى شرطي بخدمة المجتمع بل يجب أن تحفظ استقلاليتها حتى تستطيع قول كلمة الحق. فالكنيسة ليست من العالم ولكنها فيه، كما أن أبناءها ليسوا من العالم ولكنهم فيه، وفيه يُحفَظون بنعمة الله. من هنا ضرورة أن تكون الخطوط واضحة ومرئية من قِبَل الجميع حتى لا تتحول الكنيسة إلى مؤسسة دهرية تمارس الطقوس وليس العبادة، وحتى لا يصبح الكهنة موظفين يقومون بما أُوكِل إليهم من إجراءات الأحوال الشخصية، وبدل أن يكونوا رعاة للنفوس يتحوّلون رعاة للعلاقات والمشاعر وأحياناً للمصالح. المسؤولية هنا هي مسؤولية كل الذين في الكنيسة، الإكليروس والشعب. فلا يفرض الإكليروس على الشعب ما ليس أصيلاً كما لا يحشر الشعب الإكليروس في مواقف تتعارض مع ما يؤمنون به ويعلّمون. من أجل هذا وجب على الرعاة أن يعلّموا كي لا يستنسب لهم الشعب ما يفعلون، كما وجب على المؤمنين أن يتحققوا مما يفعلون قبل طلبه.
من دون أي تعميم للخاص، يمكننا القول بأن الفواصل بين الكنيسة والاجتماعيات غالباً ما هي مفقودة أو هزيلة سهلة الاختراق. أحد أهم أسباب هذا الخلل هو البعد بين الكاهن والرعية مما يجعلهم يقررون دون العودة إليه. يلي هذا السبب علة أخرى هي أن الرعاة يلينون أمام أبنائهم لأسباب كثيرة. وفوق كل هذا أن الجميع لا يطرحون عنهم كل اهتمام دنيوي في الكنيسة.
الأمثلة كثيرة والوارد هنا ليس إلا القليل مما يجري. أكثر الجنازات والذكرانيات فيها ما يخالف التقليد ويرضي التقاليد. فهنا عائلة تريد قداساً مسائياً، وهناك عائلة تريد كاهناً من غير طائفة، وهنا وهناك مَن لا يرضى بجنازة أو بذكرانية من دون مطران وكثير من الكهنة. أما الحديث عن الأعراس والعمادات فطويل جداً. الفيديو يترأس الخدمة. أصحاب العرس أو العمادة يتعاقدون مع المصورين ثم يأتون إلى الكنيسة يطالبون بتأمين الكهرباء والتسهيلات وويل للكاهن إن اشترط على المصور موقعاً أو حركةً لا يعرقلان الخدمة، هذا كي لا نقول ما له إن منع أحد المصورين، ولو كان غير أرثوذكسي، من الاقتراب من باب الهيكل أو كرسي المطران. ليس المكان مناسباً للحديث عن تحويل صدر الكنيسة إلى ما يشبه صدر المتكئات في زمان السيّد عند وجود زوار ممن نريد أن نميّزهم.
الطقوس معبر للقداسة. الكنيسة كاملةً تقيم الخدمة فتتبارك وتبارك. المؤمنون لا يحضرون بل يشاركون، وغير المؤمنين لا مكان لهم في داخل الكنيسة. قد يُقبَل حضور البعض تلافياً لجرح، ولكن دون أن يؤثر ذلك في الخدمة. ما يجري في الكنيسة هو صلاة وليس استعراضاً. الخفة في التعاطي مع الليتورجيا تبعد النعمة.
الرعاية علاقة بين طرفين إذ لا راعي بلا رعية ولا رعية بلا راعي. قد يسمح بعض الرعاة، عن ضعف أو جهل أو تحت ضغط، ببعض الأمور. لكنه ليس مسموحاً للرعاة أن يستنفدوا ما أُعطوا من التدبير. ما معنى التشديد على المنديل على الرأس خلال المناولة إن كان هناك اختزال للأفاشين في القداس؟ ما نفع حشمة العروس إن كان العرس في زمان الصوم؟ ما هو حمام الطفل المعمود إن لم يكن العراب مستوفياً الشروط الإيمانية؟
كل الأهل يعرفون أن الأبوة رسالة صعبة كما أن يعرف الأبناء أن البنوة مهمة مضنية. الآباء وضعوا قوانين الكنيسة لأنهم يعرفون أن النفس البشرية جانحة إلى الخطأ. حبذا لو أن الشعب يتعاطى مع قوانين الكنيسة كما مع قوانين الدول فيطلب تطبيقها قبل أن يطلب التدبير، وحبذا لو أن الإكليروس يتمسك بالقوانين وتوجيهات الأسقف مميزاً بين التدبير والتحليل. عندها لكان حُفظ بهاء عروس المسيح ولصار أسهل على الجميع أن يميّزوا بين التقليد والتقاليد وبين الجماعة والاجتماعيات. إن جماعة تستخف بقوانينها صعب أن تُفصَّل فيها كلمة الحق بصواب، وصعب أن يرضى الله عن أمورها.