عمل الله في القدّيسين
الأرشمندريت توما بيطار
باسم الآب والابن والروح القدس الإله الواحد آمين.
“ولنا هذا الكنز في آنية خزفية ليكون فضل القوّة لله لا منّا”.
هذه سِمة قدّيس الله أنّه صريحٌ في ضعفه، ولكنّه، في آن، واضحٌ في قوّة الله فيه. الخبرة التي أُعطيت لنا هي خبرة الضعف في القوّة وخبرة القوّة في الضعف. الراهب يكتشف، يوماً بعد يوم، أنّه أوهى من خيوط العنكبوت. يكتشف أنّه تراب ورماد. يكتشف أنّه لا صالحةَ فيه، بل كل ما هو صالحٌ هو من الله. وحين يَنسِب إلى الله كل الصالحات، فإنّما يفعل ذلك عن قناعة عميقة، لأنّه، في كل يوم، يمرّ بأدوار، كل دور منها يعطيه أن يكتشف ضعفَه كما يعطيه أن يكتشف قوّة الله. كيف يقيم الله في ضعف الناس؟ هذا مَدْعاة للدَّهش في كل حين. خبرة الإنسان بعد السقوط أن الضعف والقوّة لا يلتقيان. إذا كنتَ ضعيفاً فلا يمكنك أن تكون قوياً وإذا كنت قوياً فلا يمكنك أن تكون ضعيفاً. أما هنا، فبتجسّد ابن الله تبنّى الربّ الإله ضعفَ الناس، اتّخذَه، أقام فيه، اختبَرَه بكل معنى الكلمة. اختبَرَ الطفولة الواهية. كان معتمِداً على الآخَرين بصورة كاملة، على مريم وعلى يوسف وعلى غيرهما. طبعاً، هناك حقيقة ينبغي لنا أن ندركها في هذا العمل التجسُّدي، أنّ نعمة الله كانت حاضرة دائماً في يسوع، وهي حاضرة دائماً في القدّيسين. ليست حاضرة فقط بمعنى أنّها تقوِّيهم، ولكن حاضرة أيضاً بمعنى أنّها تحفظهم مهما بلغوا من الضعف. هي نعمةٌ مؤازِرة، هي نعمة حافِظة. يسوع، حين كان طفلاً، كان طفلاً بكل معنى الكلمة، وكان ضعيفاً بمعنى الكلمة، ولكنّه، في آن معاً، كان محفوظاً بكل معنى الكلمة. كل شيء بيد الله تحت الضبط. القوّة تحت الضبط والضعف تحت الضبط. القوّة لها دورها والضعف له دوره. لذلك، سواءٌ اختبَرْنا ضعف الله في الجسد أو اختبرنا قوّتَه، فإنّنا نكون محفوظين بحيث لا يمكن لأحد أن يخطف من يد الله ما هو لله. القدّيسون كانوا يزدادون في خبرة الضعف كونهم محفوظين من الله يوماً بعد يوم. لذلك معرفتُهم بالله بثَّت فيهم اليقين أنّهم ليسوا متروكين. حتى حين يكونون متروكين يَختَبرون أنّهم ليسوا وحيدين وأنّ الله أقرب إليهم مما يتصوَّرون. يسوع قال بوضوح وهو على الصليب: “إلهي إلهي لماذا تركتَني”. ولكنّه سَبَق له أن قال: “أنا لستُ وحدي لأنّ الآب معي”. أن يختبر المرءُ الأمرَين معاً خاصِّيّة إلهية أُعطِيت لبني البشر منذ أن ارتضى ابن الله أن يستقرَّ في الجسد. الخراف دائماً يُذبَحون، ومع ذلك لم يَنقرض الخرافُ إلى الآن. الحقّ دائماً يُذبَح، لأنّ الشيطان هو أمير هذا الدهر، ومع ذلك إشعاع الحقّ لم ينطفء إلى الآن. الله يجعلنا، في القدّيسين، نختبر الوجود في عدم الوجود، يجعلنا نختبر الحقّ في وسط الظلم، يجعلنا نختبر الحياة في وسط الموت. هذا لا يأتي علينا في وقت متأخّر، بمعنى أنّنا مَوْعودون بنوع من القيامة المستقبلية. نحن في القيامة. نحن نختبر القيامة في كل لحظة. كل لحظة مشبَعة، في الحقيقة، بالقيامة. الإنسان يعرف كل لحظة في حياته مشبَعة بالموت، مشبَعة بالضعف، ولكن إثر قيامة يسوع بتْنا نختبر الأمرَين معاً. فقراء ونُغني كثيرين. في ضيق ونُفرِّح الكثيرين. مطروحين ولكن غير هالكين. حاملين في الجسد كل حين إماتة الربّ يسوع، لكي تظهر حياة يسوع أيضاً في أجسادنا المائتة. لذلك، القدّيس، بمعنى، خليقةٌ جديدة، خليقة ليست من هذا الدهر. القدّيس يولَد من فوق. نحن حين نولَد من البطن نخرج إلى الأوجاع، إلى الضيقات. ولكن حين نولَد من رحم الله ندخل في الراحة، ندخل في الفرح. لذلك، القدّيس حين يطالعنا، يطالعنا كمَن لا هيئة له ولا منظر نشتهيه. لا يأكل والدنيا أكلٌ، ولا يشرب والدنيا شُرْب، ولا يلبس والدنيا لباس، ولا يملك المال والدنيا مال. لا هيئة له ولا جمال. لا نشتهيه في هذا الدهر. نشعر بإزائه بالاختناق. أما هو فيقيم في الفرح، وليست له طاقة على الكلام، لأنّ فرح الدهر الآتي لا يعبَّر عنه بلغة هذا الدهر. فقط إذا لمَسَتْ نعمة الله قلب إنسان، أمْكنَه أن يعاين ما لا يعايَن وأن يَفقَه ما لا يُفقَه وأن يعرف السرّ المحفوظ طيَّ الكتمان منذ فجر الخليقة. لذلك، القدّيس يثير فينا العجَب دائماً، يثير فينا الفرح دائماً إذا ما ذُقنا طعْم النعمة الإلهية. لا نعرف كيف ولا نعرف لماذا. نعرف فقط أنّ هناك جديداً يأتي علينا في حفنة من القدّيسين يَطيب لنا أن نخطَّ رسومهم على الجدران وعلى القطع الخشبية، لأنّنا نودّ أن نكون في تماسّ معهم لا في الروح وحسب، بل في العين وفي الأذن وفي اللمس وفي الشّمّ وفي الذّوق. نعرف أنّهم ههنا، أنّهم حاضرون. نعرف أنّ الله يأتينا فيهم، أنّه يأتينا من خلالهم، أنّه يطلّ علينا بخفر شديد، ولكن بواقعيّة أخّاذة، بحيث لا يمكننا أن نحبس أنفسنا عن الدّهش، عن الغبطة، عن الفرح بقدّيسي الله، بقصصهم، بأخبارهم، بأقوالهم، بطلاّتهم. وجوهُهم غيرُ وجوه، قاماتُهم غير قامات، حضورهم غير حضور. كل هذا ليس من بنات خيالنا. كل هذا هو تجسُّدُ ابن الله الذي جَعَل نعمتَه مقيمة معنا وفيما بيننا. لذلك كلّما احتفلنا بعيد قدّيس ننتقل إلى فوق، ونختبر، في آن، كل السماء حاضرةً فيما بيننا. نرى أنفسنا في الوهن وفي الضعف كل يوم. نرى أنفسنا وكأنّنا، في كل لحظة، على وشك أن نسقط. ولكنْ نعمة الله تؤازرنا فلا نسقط. فنَعجَب كيف لا زلنا بعدُ مستمرّين، كيف لا زلنا بعدُ قائمين في حضرة الله ونحن لسنا أهلاً لأن نقف قدّامه لأنّنا تراب ورماد. هذا يجعلنا في العَجَب ويجعلنا أيضاً في الشكران. عظيم هو الله لأنّه ارتضى للحجر الذي رذله البنّاؤون أن يصير رأساً للزاوية. ارتضى لنا أن نكون مَوْطناً له، عُشَراء له، ارتضى أن يقيمنا عن يمينه، إلى مائدته، في ملكوته. لَمْلَمَنا ويُلَمْلِمنا من هنا ومن هناك، من زوايا الشوارع والأزقّة. المطروحين الذين لا يبالي بهم هذا الدهر، هو عَينُه عليهم. يذهب إليهم، يرافقهم، يواكبهم، يجعل نفسَه عشيراً لهم. أحبَّهم. لا شكّ أنّ في الحبّ جنوناً، وإلاّ ما كان الربّ الإله أحبَّنا. علامَ يحبّنا؟ لا شيء فينا يُحَبّ. ولكنْ هنا عظمة الله أنّه أحبّنا، بالضبط، لأنّنا لا شيء، ليكون فضل القوّة لله لا منّا، لأنّه هو محبّة.
لهذا، كلّما طالَعْنا وجهَ قدّيس، نطالع محبّة الله التي لا تُتَصوَّر. يأتينا فيه ومن خلاله. نحن لسنا قدّيسين، نحن لسنا بشيء. ولكن نشكر الله أنّنا نرى قدّيسين بيننا. نراهم في الكتب، نراهم على الجدران، ونلمحهم أحياناً هنا وثمّة، في وجهٍ أو في آخر. الله يطلّ علينا دائماً بأنواره حتى لا نيأس. كل شيء من حولنا مدْعاة لليأس. البشرية نفسُها، كلّها مدْعاة لليأس. النفس البشرية كأنّها لا تتغيّر ولا تريد أن تتغيّر. ولكنْ نعمة الله التي تتخلّلها تُلَطِّفها وتجعل فيها تغييراً رغم صلابتها. لهذا، نحن مقيمون على الرجاء، والرجاء بالله لا يخزي. الله يبُثُّنا نفْسَه ونفَسَه مراتٍ ومرات كل يوم، من خلال زهرة هنا، ورقة هنا، وجه هنا، طَلّةٍ هناك. فنفرح ونحن نرى أنفسَنا مقيمين في الأحزان. نتهلَّل ونحن نرى أنفسنا في يأس يتزايد يوماً بعد يوم من أن نتغيّر. تمرّ الأيام وكأنّنا لا نتغيّر. الثرثار يبقى ثرثاراً والغَضوب يبقى غضوباً. وقد تمرّ لُحيظات هنا وثمّة يَمَسّ فيها الله بأنعامه نفْساً فتَخلُد إلى شيء من الوداعة، تخلد إلى شيء من الصمت، إلى الدَّهش. ويبقى أنّنا مقيمون في السِّر، سائرون في السّر، لا نعرف ما الذي يحرِّكنا ولا كيف نتحرّك. نعرف أنّنا لا زلنا إلى الآن مستمرّين بنعمة الله. لأنّ فينا كلّ أسباب الوَهَن والسقوط. مع ذلك، إلى الآن، لم نسقط سقوطاً نهائياً مع أنّنا نختَبر أنفسَنا في زلاّتها تَكدُّنا كل يوم، تُتعِبنا كل يوم، ليكون فضل القوّة لله لا منّا. لذلك حَسْبنا أن نسير، أن نتقدّم إلى الأمام، أن نثبت، رغم كل شيء. كلّما أتانا اليأس عزَّينا النفْس برحمات الله. وكلّما جنَحَت نفوسنا إلى أرحام الله كلّما عاينّا بالأكثر ضعفاتِنا، فيتوازَن هذا بذاك. حتى إننا بهذا التوازن نسير قُدُماً. نَدفع الأيام أو تدْفعنا الأيام، أو بالأكثر يدفعنا الله في اتجاه أو آخر. أحياناً لا ندري إلى أين يأخذنا ولا ماذا يفعل بنا، فنهتف إليه: أللهمّ لا تُسْلمنا إلى أوهاننا ولا تُسلمنا إلى زهْوِنا. أعطنا دائماً أن نُسْلِم أنفسَنا إليك، في اليأس وفي الرجاء، في الحزن وفي الفرح. أنت عارف بنا أكثر مما نحن عارفون بأنفسنا، فأنت أعنّا على أنفسنا فإننا قد آمنّا بك وأسْلمنا أنفسنا إليك. ارحمنا يا أعظم الراحمين. شُدَّنا إلى رضوانك وإلى ألطافك، فإنّك أنت حياتنا، أنت ملاذنا. أنت أللهمّ ثبِّتْنا فيك إلى المنتهى. لا تجعل أحداً من خرافك هؤلاء يخور في الطريق. خُذْه على عاتقك وشدِّده متى استَسْلم للوهَن، حتى يتقوّى، وبعد ذلك تُلقيه لكي يمشي دربَه إليك. المهم أن تكون أنتَ الكل في الكل يا أَرحَم الراحمين ويا أعظم العظماء. أنتَ إلهنا فالمجد لكَ في كل حين.
عظة في تذكار القدّيس البار أفثيميوس الكبير 20 / 1 / 2007