من الخوف إلى الحشا
الأرشمندريت توما بيطار
باسم الآب والابن والروح القدس آمين.
هذا الخوف الذي يتحدّث عنه الربّ يسوع، كلّما عمل على بثّ الطمأنينة في نفوس تلاميذه، هذا الخوف له حكاية.
الإنسان، في البداية، كان يحيا في كنف الله. كان يتمتّع بدفء الأبوّة الإلهية. كان يستظلّ بعطف الله. كان نور الله يبعث في نفسه سلاماً عميقاً فلا يعرف الاضطراب في شيء. وإذ كان الإنسان مشمولاً برحمة الله كان، بمعنى، كأنّه في رحم الله. يغتذي من نِعَمِ الله. فجأة حصل ما حصل وفُكّ حبل الوصال بين الله والإنسان. خرج الإنسان من رحم الله وصار في وحشة، في خوف عظيم. هذا الخوف انبثّ في عمق كيانه. مذ ذاك شعر بأنّه يتيم. كأن أباه قد مات. ليس أن الآب السماوي يموت، ولكنْ، لما عصى الإنسان الله بات الله، من جهة الإنسان، كأنّه قد مات. مذ ذاك والإنسان يتيم. ويُتمه وَلّد في نفسه خوفاً لا قرار له. الخوف حين يكون منشأه كيان الإنسان لا يكون له قرار. يكون عميقاً جداً. لا شيء في الدنيا، بعد ذلك، يبعث في النفس البشريّة الاطمئنان. كل ما سُمِّي، فيما بعد، سلاماً وطمأنينة كان تمنيّات لبثّ السلام في نفس الإنسان، ولكنْ على غير طائل.
بعد السقوط، كل ما شرع الإنسان يقوم به صار ردّ فعل بإزاء الفكاك الحاصل بينه وبين الله. بنتيجة ذاك الفكاك أضحى الإنسان مستأسَراً للخطيئة، مستأسَراً للخوف العميق من الموت يشدّه إلى الخطيئة، من حيث إن الخطيئة وَعْد كاذب بالحياة، وعد كاذب بالخروج من الخوف. ثمّ الخطيئة، بدورها، متى دخل الإنسان في لولبيّتها، تعود فتلقيه في المزيد من الخوف والفراغ والموت. في هذه الدائرة المغلقة نجح الشيطان في التسيّد على الإنسان، في التسيّد على هذا الدهر.
حوّاء، بعد السقوط، صارت تلد بالأوجاع. الولادة بالوجع صورة لما حصل، كيانياً، للإنسان حين انفكّ عن الله الآب بالخطيئة، بالمعصية. مذ ذاك والإنسان يستصرخ، عن وعي وعن غير وعي، رحمة الله. الإنسان، في عمق كيانه، يئن إلى رحم الله من جديد لأنّ رحم الله هو فردوسه المفقود الذي طُرد هو منه. في علم النفس يقولون إنّ الإنسان حين يكون في حشا أمّه يكون كأنّه في الفردوس. ثمّ متى انحلّ رباطه انعكس الأمر سلباً على وجدانه كل أيام حياته. الإنسان، بعد ذلك، تكون حياته نوعاً من رد الفعل على ما حصل له حين خرج من بطن أمّه. ويقولون أيضاً إنّ الإنسان، في لا وعيه، يئن ويحنّ إلى بطن أمّه. هذا مؤشّر، في الحقيقة، على الرغبة العميقة الدفينة في نفس الإنسان للعودة إلى رحم الله.
في الحوار الذي جرى بين الربّ يسوع ونيقوديموس، في الإصحاح 3 من إنجيل يوحنّا، حديث عن ولادة جديدة. نيقوديموس لم يفهم. “ألعلّ الإنسان يقدر أن يدخل بطن أمّه ثانية ويولد”. ليس الموضوع موضوع الحشا الإنساني. الحشا الإنساني لا يمكنه أن يردّ الإنسان إلى المجد الذي نَعِم به في كنف الله. على الإنسان أن يولد من فوق بالماء والروح. هذه ليست ولادة كولادات الناس. الولادة البشرية خروج من أرحام النساء. الولادة الإلهية دخول في رحم الله. في الجسد نولد من امرأة، في الماء والروح نولد إلى الله. نستقرّ في حشا الله، في قلب الله، نصير أبناء الله. هذا حال الذين آمنوا به، الذين قبلوه. “أما كلّ الذين قبلوه فأعطاهم سلطاناً أن يصيروا أولاد الله أي المؤمنون. الذين وُلدوا ليس من دم ولا من مشيئة جسد ولا من مشيئة رجل بل من الله” (يو 1: 12 – 13).
حوّاء، حين ولدت قايين وهابيل، ولدتهما بالأوجاع. هذه هي أوجاع السقوط، أوجاع الخروج من الفردوس، إلى أن تعود البشرية لتولد من جديد إلى ملكوت السموات في رحم الله. والدة الإله هي المرأة الوحيدة، منذ حوّاء الأولى، التي وَلدت من دون أوجاع. ونحن نقول إنّ الطفل الربّ يسوع وُلد منها بالانبثاق. في استقراره فيها جعل بطنها أرحب من السماوات وأعاد إلى البشريّة، في شخصها، الإقامة في الفردوس، لأنّ حشاها عاد فصار فردوساً. الفردوس هو مستقرّ الله، والإنسان، حين يكون في عِشرة الله، يكون في الفردوس.
إذاً، عاد حشا والدة الإله فردوساً فلم تعرف آلام الوضع. هذا جعل الإنسان الجديد، ابن الله المتجسّد، جليساً للآب السماوي عن يمينه. هذا ما تحقّق في الإنسان الجديد، في الربّ يسوع المسيح. لهذا حالما عاد الإنسان واستقرّ، في شخص الربّ يسوع، في الفردوس، لم يعد الإنسان، بالنعمة، أسيراً للخوف، أسيراً للوجع، أسيراً للموت، أسيراً للخطيئة، أسيراً للشيطان. كذلك بلغ زواج الرجل بالمرأة مبتغاه. بإنجاب الإنسان الجديد، بوالدة الإله، أضحت الغاية من الزواج محقّقة. وهذه الغاية هي أن يسكن روح الله في حشا الإنسان. سكناه في حشا الإنسان أعطاه الخصب. هذا جعله يولد كإنسان جديد إلى ملكوت السموات.
قال الربّ يسوع لتلاميذه حين كان مزمعاً أن يغادرهم بالجسد: لا أترككم يتامى. هاءنذا معكم كل الأيّام. إذاً، الإنسان، بيسوع، خرج من حال اليتم التي كان فيها إثر السقوط. يسوع جعل الإنسان في رحم الله، في حضن الله من جديد. استعاد الإنسان أبوّة الآب.
إذاً، لا خوف، بعد، لأنّ الإنسان قد أُعطي الملكوت. من هنا القول الذي استهللنا به قراءتنا الإنجيلية اليوم: “لا تخف أيّها القطيع الصغير لأنّ أباكم قد ارتضى أن يعطيكم الملكوت”. بالملكوت المحقّق، الذي أُعطي لنا، لم نعد في حال الخوف، لم نعد في حال اليتم، لم نعد مستأسَرين لا للشيطان ولا للخطيئة ولا للموت. قد عرفنا الحقّ. قد اشتملَنا الحقّ. والحقّ، الربّ يسوع المسيح، قد حرّرنا بالكامل.
كل شيء تمّ. ظهور الربّ يسوع حقّق لنا كل ما تشتهيه نفسنا، في عمقها، منذ السقوط. يبقى شيء واحد أن نتمثّل ما حقّقه الربّ يسوع، أن نتمثّل حياته، أن نتمثّل قيامته، أن نتمثّل سلامه، أن نتمثّل عزاءه. كل هذا نتمثّله بشيء واحد نحن مدعوون إليه كل أيام حياتنا، وهذا الشيء هو: اسهروا، استعدّوا. علينا أن نكون في الوعي، في الصحو، في اليقظة، في الانتباه. طوبى لأولئك العبيد الذين إذا جاء سيّدهم وجدهم ساهرين. لا نسهر لأنّنا نريد أن نقيم في الانتظار وحسب. نسهر على إتمام عمل الله، على حفظ الوصيّة، على التملؤ من ذكر اسم الربّ يسوع. لا نترك فرصة لنفوسنا أن تسهو عن ذكر الله. لا نترك لأي اهتمام غير الربّ يسوع أن يستأثر بنا. نقيم كل يوم، كل ساعة، كل دقيقة، في هذا السهر على ذواتنا حتى نستفرغ الخطيئة وكل الأهواء، حتى نُفرغ ذواتنا من كل “أنا”، من كل إرادة ذاتية. كما نسعى، في آن معاً، لأن نتملأ، بالصلاة، من ذكر اسم الربّ يسوع. نسعى لأن نتملأ من جسده. نتعاطى الأسرار الإلهية بصورة دائمة. نسعى دائماً لأن نسلك في الوصيّة، في الفضيلة لأنّ الفضيلة هي المناخ الذي متى تهيّأ فينا ترسّخت إقامة روح الربّ في أفئدتنا. هذا كلّه هو معنى أن نسهر، أن نستعد إلى أن يأتي. ومتى يأتي؟ لا نعرف متى يأتي في مجيئه الثاني. ولكن هو يأتي حين نغادر نحن ما هو ههنا بالموت. إذ ذاك، في الحقيقة، يأتي ابن البشر ليقيم فينا في الروح القدس، هو الذي قال إنّه لا يتركنا يتامى. يقيم فينا، في الروح القدس، منذ الآن. كل حياتنا مساع لاقتفاء روح الربّ، للاستدعاء المتواتر لابن البشر أن يقيم فينا. وهذا كلّه يكتمل حين نخرج نحن من رحم هذا الدهر وأوجاع هذا الدهر إلى رحم الله لنستقرّ في كبده، لنقيم فيه. هذا هو سعينا اليومي الدائم والثابت والصابر إلى أن يأتي المسيح ويستقرّ فينا بالكامل كما أقام في الروح القدس في حشا البتول.
حتى ذلك الحين، لا تزال الفرصة أمامنا سانحة أن نتوب كل حين إليه، من خطايانا. والإنسان الحكيم هو الذي يعرف أن يفتدي الأزمنة والأوقات
فمَن له أذنان للسمع فليسمع.
عظة أُلقيت في 14/ 1/ 2006 في وداع عيد الظهور الإلهي وذكر الآباء المقتولين في طور سيناء ورايثو. الإنجيل الذي كان منطلقاً للعظة كان من لوقا، الإصحاح 12، الآيات 32 إلى 40.