تذكار آبائنا الأبرار المقتولين في طور سيناء ورايثو
الأرشمندريت توما بيطار
باسم الآب والابن والروح القدس الإله الواحد آمين.
يا إخوة، نحن نعرف أنّ الرهبان يؤدّون النذور الرهبانية. وهم يؤدّونها بملء إرادتهم لأنهم يرغبون في أن يسلكوا فيها. النذور الرهبانية تصير لهم محورَ حياة جديدة. مَن نذر نفسه لا يعود يهتمّ إلاّ بما نَذَر نفسه من أجله. والأمانة تقضي بأن يلازم الراهب نذوره إلى المنتهى. هو، في الحقيقة، لا يعود مطالَباً بشيء آخر سوى بالنذور التي أدّاها. الشيء نفسه يُقال عن المعمودية المقدّسة. المعمودية المقدّسة تجعل المؤمنين جميعاً منذورين لله. ليس أحدٌ من المؤمنين إلاّ وهو نَذيرٌ لله. الرب يسوع المسيح بالنسبة إليه هو محور الحياة. أن يكون الإنسان نَذيراً لله معناه، في ضوء هذا الإنجيل الكريم الذي تُلِيَ على مسامعنا، أن يبقى ساهراً على الدوام ينتظر سيّده متى يأتي إليه أو متى يأتي هو إلى سيّده. وهو، إلى ذلك الحين، يهتمّ بأمر واحد فقط: إعداد نفسه ومساعدة الآخرين على إعداد أنفسهم لاستقبال العريس وتالياً القيام بما هو مكلّف به. إعداد العُدّة لمجيء السيّد يكون بحفظ الأمانة له قبل أن يأتي، مع أنه ليس عن أحدٍ غائباً. أجل، الرب يسوع يأتي في أوقات محدَّدة، في أزمنة جهادية تكتمل.
لذا، علينا أن نسهر على هذا النذر الذي قطعناه على أنفسنا، على هذا الوعد، على هذا المسرى الذي اقتبلناه لذواتنا. نحن لمّا عُمِّدنا مُتنا، في الحقيقة، عن العالم، أو يُفتَرَض بنا أن نكون قد مُتنا عن العالم. لذا همُّنا، مِن بَعد، هو أن نموت من أجل المسيح لكي نحيا أيضاً معه. المسيح هو المثال، هو الرائد، هو الطليعة. ونحن نسير في إثره. طعامي، كما قال الرب يسوع، هو أن أعمل عمل الآب السماوي وأُتمِّم مشيئته. وهذا ما ينبغي أن يكون عليه طعامنا نحن أيضاً: أن نعمل عملَ الله وأن نتمِّم مشيئته. مَن اعتمد، في الحقيقة، أي مَن نَذَر نفسه ليسوع، صار مطالَباً بكل ما له علاقة بيسوع. ولا يُطالَب أحدٌ بالوصايا الكبار فقط، بل بالوصايا الصغار أيضاً. لم يُقَلْ يوماً إنّ الأمين في الكثير يكون أميناً في القليل، بل العكس: الأمين في القليل أمينٌ أيضاً في الكثير. لذلك علينا أن نجتاز امتحان الأمانة بالانتباه إلى الصغائر، بالاهتمام بالتفاصيل. ونحن نعلَم، من جهة أخرى، أنّ وصيّة الرب يسوع تشمل كلّ ما له علاقة بحياتنا. ليس هناك أمرٌ، ولا واحد، إلاّ وله علاقة بوصيّة الرب يسوع. ما لا علاقة له بالرب يسوع هو من الخطيئة. في ما عدا ذلك، كل تفصيل إنما يَمُتّ بصلة إلى الرب يسوع. سواءٌ أكلتم أو شربتم أو لبِستم، افعلوا كلّ شيء من أجل المسيح. نحن نعلم أن الرب الإله هو الذي يعطينا كلّ شيء، ولكن علينا أن نتعلّم أن نطلب، في الحقيقة، لا العطيّة بل المعطي، لأنه هو شاء أن تكون عطيّتُه عربون محبّة. نحن أيضاً ينبغي أن نقتبل ونقابل كلّ ما يعطينا هو إيّاه بفرح ومحبّة وشكر وأمانة، ملتمسين، في كل حين، أن نتعاطاه بالطريقة التي وضع هو أسسها. محبّةٌ تنادي محبّة. لجّة تنادي لجّة. الله يعلّمنا لغته بلغتنا.
“التي لك ممّا لك نقدّمها لك على كلّ شيء ومن جهة كلّ شيء”.
نحن، يا إخوة، لا نملك أنفسنا، ولا نتعاطى ما يختصّ بنا وحسب. نحن في العالم، وإذاً ينبغي أن نحمل العالم في دواخلنا، في ذواتنا. نحن، في كلّ أمر، لا نتعاطى خلاصَ أنفسنا فقط بل خلاص الآخرين أيضاً. نحن ننتمي إلى الجماعة، إلى العالم، كما تنتمي الجماعة والعالم إلينا نحن أيضاً. لا انفصال بين الواحد والكثرة، بين الشخص والجماعة، بين الإنسان والعالم. لهذا، نحن، في كل أمر، نرفع إلى الله التقدِمات عن أنفسنا وعن الآخرين أيضاً. العالم في الحقيقة يُقدَّس بنا، أو، إذا لم نسلك في القداسة، يُنجَّس بنا. فإذا ما عرفنا حقيقة معنى وجودنا في الوَسَط الذي نحن فيه، عَرَفنا أننا مكرَّسون لله، منذورون لله في العالم لنتقدَّس ويتقدَّس العالم بنا. والعالم يتقدَّس بنا إذا ما حَمَلْنا العالم لا في ذواتنا وحسب، بل إلى الرب الإله أيضاً، كتقدمة، كقربان. لا ننسى أبداً أننا جميعاً مكرَّسون كهنة للعليّ، كل واحد منا. مسؤوليتنا، على هذا الأساس، هي مسؤولية خلاص العالم. كل واحد منا حافِظٌ لإخوته. ليس أحدٌ يخلص بنفسه. لا خلاص لأحد ما لم يكن همُّه أيضاً أن يَخلُص إخوتُه. ما نشاؤه للآخرين نشاؤه أيضاً لأنفسنا. وهذا إياه يشاؤه الرب الإله لنا. إذا ما نحن أعرَضنا عن إخوتنا نكون، في الحقيقة، قد أعرضنا عن أنفسنا، وعن خلاص ذواتنا. الله، إذ ذاك، يُعْرِض عنا. وإذا كنا، بالعكس، مهتمّين بعضنا بالبعض الآخر، حاملين بعضُنا بعضاً، إذ ذاك مهما كان الواحد منّا معيوباً، فإن محبّته للآخرين تَسْتر عيوبَه لدى الله، لأنه قيل: “المحبّة تستر جمّاً من العيوب”.
ليس أحدٌ منا بلا خطيئة. ليس أحد منا بلا تقصير. قد يكون الواحد منا متهاوناً في أمور كثيرة ترتبط بقانونه، بعمله، المهمّ أن يتعلّم ألاّ يقصِّر في أمور محبّته للإخوة أولاً. لماذا؟ لأن محبّته للإخوة تعوِّض عن تقصيره في آداء قانونه إذا ما قَصَّر فيه. ولكنّ العكس ليس صحيحاً. إذا قصَّر الواحد في محبّته للإخوة وكان يؤدّي من السجود وفروض الصلاة والأسهار وأتعاب النسك القدَرَ الكبير، فإنّ هذه كلّها لا تعوِّض عن تقصيره في المحبّة، ولا تنفعه في الخلاص. فإنّ الرب الإله شاء أنّ كلّ واحد منّا يخلُص بإخوته. أعطانا الإخوة صورةً عنه لكي نتعلّم بهم ومن خلالهم كيف نحببه هو لا لأنانية عنده بل لأنه محبّة. نحن نتعلّم المحبّة إذا أحببناه. لهذا، مَن لا يحبّ الإخوة لا يمكنه أن يكون محبّاً لله كما أنّ مَن لا يحبّ الله في الإخوة وبهم لا يمكنه أن يحببهم. من دون محبّة الصلوات مهما كثُرَت والسجدات مهما تعدّدَت، لا تنفع شيئاً. نصلّي بمحبّة ونسجد بمحبّة ومن أجل المحبّة. إن لم تكن فيّ المحبّة فقد صرت نحاساً يطنّ أو صنجاً يرنّ. إن سلّمت جسدي حتى أحترق ولكن ليس لي محبّة فلا أنتفع شيئاً. ليست الوصيّة أن نسجد وأن نصلّي، مع أن الرب الإله علَّمَنا أن نصلّي ويتوقّع منا أن نسجد وأن نصوم وأن ننسك، الوصيّة الأساس هي: “وصيّة جديدة أُعطيكم أن يحبّ بعضكم بعضاً كما أنا أحببتكم”. حول المحبّة تتحلّق كل الوصايا. إذا ما استقامت المحبّة، استقام المسرى إلى الله. كل شيء إذ ذاك يَقَع في موضعه. وكل تقصير عن غير قصد، إذ ذاك، لا يعود مهمّاً، لأن المحبّة تستر كلّ العيوب. المحبّة تكمّل كل شيء.
فيا إخوة، لا يَسْتَهِن أحدٌ منا بمحبّة الإخوة. ليس الإخوة وجوداً مزعجاً. لا يظنّ أحدٌ أنّ حاله يمكن أن تكون أفضل مما هي عليه لو كان من دون الإخوة. لو كان الواحد منّا من دون الإخوة، لَقُضِيَ عليه قضاءً مُبْرَماً. ولا نتحدَّثَنَّ عن النسّاك، هؤلاء لا ينسكون إلاّ بعدما يكونون قد تروَّضوا على المحبّة، وصار الإخوة، بين ظهرانَيهم، حاضرين دائماً. حتى إنهم يبكون من أجلهم وتنفطر قلوبهم عليهم ويتشفّعون بهم لدى الرب الإله في كل حين عسى أن يتعطّف عليهم ويشملهم بمراحمه.
إذاً، يا إخوة، لا يُسقِطنَّ أحدٌ منّا تفصيلاً له علاقة بمحبّة الإخوة لأنه يكون، إذ ذاك، في الحقيقة، قد أسقط تفصيلاً يرتبط بخلاصه هو. لهذا، إذا ما أنا اهتَمَمْتُ بإراحة أخي أو أختي على حساب راحتي أنا، في هذا الجسد الضعيف، فهذا ينعكس، لا محالة، عليَّ راحةً في الروح. أنا، إذ ذاك، أربَح نفسي. أنا إذ ذاك أربَح المسيح. “مَن وجد حياته يضيعها. ومَن أضاع حياته من أجلي يجدها” (مت10). فإنّ أخي، هذا الذي أعطاني إيّاه الرب يسوع المسيح إيقونة له، أنا أعلمُ أنه لا وصول لي إلى الرب يسوع إلاّ من خلاله. إذا ما رفضتُه أكون قد رفضت المسيح، وإذا ما قبِلتُه أكون قد قبِلتُ المسيح. إذا ما خدَمتُه أكون قد خدَمتُ الرب يسوع، إذا ما أرَحتُه أكون قد أرَحتُ الرب يسوع. وإذا ما غضَضْتُ الطّرْف عن خدمته وعن راحته لأني مشغول بخدمة نفسي وخدمة راحتي، إذ ذاك أكون قد فَرَّطتُ لا به وحسب، بل بالرب يسوع أيضاً. وتالياً أكون قد فرَّطتُ بخدمة نفسي أنا في الرب يسوع وبراحتي أنا في الرب يسوع.
يا إخوة، نحن بحاجة إلى توبة عميقة على هذا الصعيد لكي ندرك قيمة وجود الإخوة، قيمة الشركة. الشركة إطار سماوي. ليست الشركة فريقاً من الناس يأتون معاً لغاية مشتركة بصورة عامة. الشركة في المسيح هي إطار للملكوت. هنا بالذات يَحيك الواحدُ منّا خلاص نفسه. هنا يوظِّف أتعابَه في خدمة الله، وتالياً في خدمة نفسه في الحقّ.
إذا ما أردنا أن نعرف ما إذا كانت الشركة، أيُّ شركة، سالكة في مخافة الله، وما إذا كان الربّ الإله مقيماً فيها، فلننظُر إلى المحبّة التي يتعاطاها مَن هم في هذه الشركة. إذا ما كان كل واحد في الشركة مهتمّاً بما لنفسه فيها، ولا يرى في الآخرين إلاّ مصادر للإزعاج والقلق، فإنّ الرب الإله، إذ ذاك، لا يكون في الشركة. وهو لا يكون فيها لا لأنه لا يريد أن يكون فيها، بل لأننا نحن نستدعيه بمحبّتنا لبعضنا البعض. نستدعيه بخدمتنا لبعضنا البعض، أو لِنَقُل نستدعيه بخدمتنا له في بعضنا البعض، وهو الذي قال: “حيثما اجتمع اثنان أو ثلاثة باسمي، هناك أكون في وسطهم”. لكي يكون الرب يسوع في وسطنا، علينا أن نتعب كل يوم، وأن نتعب إلى المنتهى، أن نبذل ذواتنا من أجل الإخوة. إذ ذاك نعرف أننا ننفق ذواتنا حيث ينبغي. مَن ينفق ذاته على نفسه يبدّد نِعَم الله، يُفسدها، ولا ينتفع منها. فقط مَن يبدّد على الإخوة كلّ ما لديه، هذا يدوم بِرُّه إلى الأبد.
نحن، إذاً، يا إخوة، بحاجة، بالدرجة الأولى، لأن نتعلّم كيف نتنقّى من ذواتنا، في إطار الشركة، في تعاطينا مع الإخوة. الإخوة أُعطيناهم لنتعلّم كيف ننسى أنفسنا من أجلهم. كيف نتخطّى ذواتنا، كيف نلتمس وجهه هو. هنا نتروّض على العافية، على عافية النفس. ليست الفضيلة، في الحقيقة، شيئاً إذا لم نَحْسَبْها عافية لهذه النفس. نحن بشر مرضى بمحبّتنا لأنفسنا. هذه خطيئتنا. والعافية معناها أن يخرج الإنسان من استعباد نفسه له، كي يستعبد نفسه طوعاً لخدمة الرب يسوع في الإخوة. لسنا نخدم لحماً ودماً، بل المسيح المتمثِّل في أخصّائه، في أحبّائه. وهو قال: “مَن سقى أحد هؤلاء الصغار كأس ماء بارد باسمي، فالحقّ أقول لكم إنّ أجرَه لا يضيع”.
لذا علينا أن نراجع حساباتنا. نحن بحاجة إلى تنقيح أنفسنا، لئلا تَكُرّ الأيام في حياتنا ولا ننتفع منها. العمر قصير والدينونة على الأبواب. كل واحد منّا بحاجة لأن يشهد له إخوته لدى عرش العليّ. طوبى لِمَن يعرف كيف يصنع أصدقاء، في الشركة، بمال الظلم الذي اقتناه لنفسه، بِنِعَم الله التي أساء استعمالها في أزمنة الجهل. فإذا ما تَنَبَّه الواحد إلى هذه الحقيقة، إذا ما تاب الواحد إلى ربّه، إذاً لاستحالت الآلام والضيقات والإزعاجات في الشركة إلى مطارح فردوس. مَن لا يعرف أن يذوق الملكوت هنا على الأرض، لا سيما في وجوه الإخوة، لن يكون له فيه نصيب.
فمَن له أذنان للسمع فليسمع.
عظة في السبت 14/1/2004 حول يو 12: 32 – 40