مدخل إلى علم الآباء
الخورية ماري مالك دبس
مُقَدمَة
تشدد الكنيسة الأرثوذكسية على أهمية الآباء حتى عُرفت بأنها”كنيسة الآباء” فمن هم يا ترى هؤلاء؟ الوالد هو عادة الذي يلدنا جسدياً وبالتالي فكرياً وروحياً وإلى هذه الولادة الثانية يشير الرسول بولس في رسالته الأولى إلى أهل كورنثوس 15:4” لأنه وان كان لكم ربوات من المرشدين في المسيح لكن ليس آباء كثيرون.لأني أنا ولدتكم في المسيح يسوع بالإنجيل.”وكذلك القديس إيريناوس أسقف ليون(130-200م) يقول” من علمني حرفاً كنت له ابناً وكان لي أباً”. فالتعليم هو الذي يحدد الأبوة. ومنذ القرن الثاني دُعي الأسقف أباً لأنه يعلّم الإيمان ثم أصبحت هذه التسمية شائعة في القرن الرابع وكانت تُطلق بالجمع”آباء” على الأساقفة من القدامى عامة الذين عُرفوا باستقامة العقيدة، وكانت تُطلق على غير الأساقفة مثل القديس إيرونيموس الكاهن(420م) وبروسبير العلماني.أيضاً أُطلقت كلمة”آباء” على الأساقفة المجتمعين في المجامع.والقديس باسيليوس الكبير يسمي أساقفة مجمع نيقية(325) آباء. ومنذ القرن الخامس ابتدأ استخدام “آباء”في المجادلات اللاهوتية وأصبح إجماعهم يؤكد حقيقة معينة.
من هو الأب وكيف نستطيع أن نصنِّف فلاناً من آباء الكنيسة؟
الكنيسة الكاثوليكية تُجيب بأن الآباء هم مراجع لاهوتية قديمة، وتشترط في الأب:
1-إستقامة العقيدة. 2-قداسة السيرة. 3-إعتراف الكنيسة به. 4-القِدَم.
أما الكنيسة البروتستانتية فتعرِّف الآباء بأنهم” الكتَّاب المسيحيون” الأرثوذكس والهراطقة الذين أرادوا، واعين أو غير واعين، أن يكتشفوا الإعلان الإلهي ويعرضوه، وهذا الإعلان مُعلن بيسوع المسيح ومنقول في الكتاب المقدس. والكنيسة الأرثوذكسية لم تعطِ بعد تعريفاً دقيقاً وواضحاً للأب، ولكنها تقبل المقاييس التي وضعتها الكنيسة الكاثوليكية من أرثوذكسية العقيدة وقداسة السيرة. أما الاعتراف الرسمي بقداسة فلان أو أبوّته فليس حتمياً، إذ أن القداسة المعاشة تعرف عفواً في الكنيسة ولا تحتاج إلى أي دليل آخر إلاّ نفسها. بالنسبة إلى القِدم فقد تجاوزته الأرثوذكسية إذ لم تضع حداً نهائياً للفترة الآبائية أي إنها تنتظر دائماً قيام آباء قديسين.
ما هي الفترة الآبائية؟
هي الحقبة الزمنية التي عاش فيها الآباء وهذه الفترة ينهيها الغربيون بموت غريغوريوس الكبير(604) وإيسيدور دو سيفيل(636)ويقترح أندريه بونوا وهو حالياً عميد كلية اللاهوت البروتستانتية في ستراسبورغ إنهاء الفترة الآبائية(1054) تاريخ الانشقاق الكبير لأنه قبل هذا التاريخ كانت الكنيسة واحدة. أما الكنيسة الأرثوذكسية فلم تنهِ بعد عصر الآباء، كما يتصور البعض، مع يوحنا الدمشقي(749) بل على العكس تفتحه إلى الأبد. وتعد بين آبائها سمعان اللاهوتي الحديث(1022) وغريغوريوس بالاماس(1259) ونيقولا كاباسيلاس(1371) ومرقس الأفسسي(1441) وغيرهم.ويقول تيموثي وير :” مَن يخبرنا أن عصرنا لا ينتج آباء قديسين مثل باسيليوس وأثناسيوس ؟ وعندما نقول أن لا آباء بعد اليوم، ذلك يعني أن الروح القدس ترك الكنيسة.كل مؤمن مدعو أن يكون أباً قديساً ونحن ما زلنا حتى اليوم في كنيستنا الأرثوذكسية ندعو الكاهن أباً لأنه مدعو لأن يلدنا في الإيمان ويعلمنا إياه قولاً وسيرة”. إذاً، نحن نستطيع أن نعرِّف الأب باختصار:إنه صاحب الإيمان القويم الذي يعلّمه ويعيشه.
ما هي سلطة الآباء؟
كما قلنا أن الكنيسة الأرثوذكسية تشدّد كثيراً على أهمية الآباء وانه من القرن الخامس إبتدأ استخدام الآباء في المجادلات اللاهوتية. وتعتبر الكنيسة الأرثوذكسية أن الإجماع لا يعني اتفاق الكل على رأي ما ولكن إجماع معظم الذين لرأيهم وزنٌ وأهمية. كما تعتبر كنيستنا أن أقوال الآباء التي تبنتها المجامع هي على قدر كبير من الأهمية. من هنا جاء تدبير سلطة الآباء في الدرجة الثانية بعد الكتاب المقدس.
لماذا ندرس الآباء؟
في تعريفنا للأب قلنا انه صاحب الإيمان الذي يعلِّمه ويعيشه وكل عضو في الكنيسة الأرثوذكسية مفروض فيه أن يعرف إيمانه ويعيشه ويعلّمه. فمن له إذاً تحقيق هذا كله أفضل من الذين سبقوه في هذا الميدان وبلغوا ذروته، وأفضل معلّم على الإطلاق هو الذي يُقرن المعرفة بالحياة وهو الذي يدفع حياته ثمناً لإيمانه وهذا كان مصير أكثر الآباء. أن نعرف ونؤمن ونعيش ما نؤمن به هي إذاً الغاية من دراسة الآباء وإذا أردنا التفصيل نقول اننا ندرس الآباء:
1-لنكتسب المعرفة اللاهوتية الصحيحة والتفكير اللاهوتي العميق.
2-لنتعلم بالتالي شرح الإيمان والدفاع عنه ضد الهراطقة والمبتدعين.
3-لنقتدي بهم في حبهم للكتاب المقدس وحفظه وشرحه ولنقتفي آثارهم في الكمال والقداسة.
4-لنعرف تاريخ كنيستنا وتطورها في العقيدة، في الليتورجيا وفي شرح الكتاب المقدس.
5-وأخيراً، الكنيسة هي شركة المؤمنين منذ بدء الخليقة حتى نهايتها، والآباء هم أعضاء أحياء في هذه الكنيسة فقد خبروا متطلبات الإيمان في عصرهم وجاهدوا حتى الدم من أجل تثبيت هذا الإيمان ولذا فخبرتهم كنـز ثمين لنا وعلينا أن نتعرف ونطّلع عليها لنستفيد منها ونحن نواجه تحديات الإيمان وتحديات العالم ومن الممكن أننا أحياناً نواجه المشكلة نفسها التي واجهها الآباء وإن اختلف الزمن. إذاً نحن ندرسهم لنعيش معهم ونتعلم منهم ونقتدي بهم كما اقتدوا هم بربهم.
كيف ندرس الآباء؟
الطريقة الأكثر شيوعاً في دراسة الآباء هي الطريقة التاريخية التي تقوم على دراسة حياة الأب ومؤلفاته وتعليمه اللاهوتي. وللقيام بهذه الدراسة علينا أن نعود إلى المصادر التاريخية التي تتحدث عن هذا الأب وذاك، وعند غيابها نلجأ إلى المؤلفات نفسها علها تذكر شيئاً عن حياة صاحبها. ومتى وُجدت النصوص، وبعد التحقق منها، يصبح من الممكن دراسة فكر صاحبها. واستناداً إلى هذه الطريقة قُسِّمت الفترة الآبائية المحدودة (في الغرب )إلى ثلاثة أقسام:
1-من البدء حتى القرن الثالث. 2-وهو العصر الذهبي للآباء(300-430). 3-العصر الأخير(430-850).
وكل قسم يُقسم بدوره إلى حلقات ورجال. أما بالنسبة إلينا نحن الأرثوذكس فقد أشرنا سابقاً إلى أن العصر الآبائي لا يتوقف عند فترة زمنية محدودة.
الآباء وأهميتهم في الكنيسة وفي حياتنا
منذ فترة قريبة كان العالم المسيحي وخاصة العالم الغربي يجهل تقريباً الآباء الشرقيين ويجهل أهمية لاهوتهم في الكنيسة وفي الحياة اليومية. ولعل هذا كان عامل ضياعه وتمزقه وتحوله إلى إنسان بلا هوية روحانية حقيقية وإلى كائن يكاد لا يحصل على الحقيقة ولا يشهد لها ولا يترك الإله الحي يدخل إلى واقعه، إلا أنه بدأ يكتشف عالماً جديداً وواحة ارتياح في صحراء هذه الفَنائية وقد يكون دافع هذا الاكتشاف ردة فعل على الروح التي تسربلت فساداً وابتلعتها الحياة البيولوجية وعلى هذا الانفصام في شخصيته الروحية وزيف الحياة الروحية المحضة. الضياع الروحي نفسه دفعه إلى طريق العودة إلى عالم المتألهين وإلى طلب وجوده الحقيقي المشارك لحياة الثالوث الأقدس وإلى اكتشاف ذاته المرتفعة إلى قامة الألوهة في شخصية الآباء القديسين. فأخذ يهتم بآباء الكنيسة وبمدوَّناتهم ولاهوتهم وكأنهم الدليل الحي على السلَّم الذي يرتقي إلى الحياة الجديدة في المسيح.وابتدأ يفتّش عن الذين عاشوا الحياة الأبدية ليروا الإله مترجماً في حياتهم إلى أن أصبح هذا العصر أو كاد يصبح عصر تبصر آبائي وعصر إهمال اللاهوت العقلاني والشغف العقائدي المنسلخ عن الحياة.
الآباء هم المعلمون الروحانيون والكارزون ببشرى القيامة وذوو المواهب المتعددة وحَملة الرأي القويم والتقليد المسلَّم إلى الرسل وهم كما قلنا سابقاً الذين يَلدون البشر في المسيح والذين يعبِّرون نطقياً بإنارة الروح القدس عن خبرة الحقيقة الأبوية التي هي نور وهدى. الآباء هم الذين عاشوا الصحو الروحاني واليقظة الداخلية والانتباه الدائم إلى حضور الرب وفعله في الإنسان فأُطلق عليهم لقب”الآباء الصُحاة”إذ حاربوا التثاقل والفتور والغفلة عن سعي الإله المستمر لمعاضدة الإنسان وجاهدوا ضد سُكْرِ الإنسان بما هو مادي ودنيوي. الرسول بولس تكلم عن الصحو قائلاً” اصحوا للبرِّ ولا تخطئوا لأن قوماً ليست لهم معرفة بالله.أقول ذلك لتخجيلكم”(1كور34:15)”لا ننامنَّ كما يفعل سائر الناس بل علينا آن نسهر ونحن صاحون” .حياة الآباء الشخصية إذاً، هي مصدر أهميتهم في تاريخ الروح وفي حياة الكنيسة وفي حياة الناس. إذا كان الناس يؤمنون بأن الكاتب العادي أهم من مؤلفاته وكتاباته فكم بالأحرى ينطبق ذلك على معلمي المسكونة وسِيَرهم في كل مراحلها الجهادية إن من حيث الخُلق والروحانية واليقظة المستمرة أو من حيث آلامهم وشهاداتهم اليومية وشهادتهم الدموية ورقادهم وانتقالهم. فهم كمقتدين بحياة المسيح وآلامه صاروا نماذج حية لأبناء عصرهم وما زالوا مثلاً أعلى لهذا الجيل إن أراد أن يهتدي، لأن الحاجة شديدة إلى أمثالهم ، وإلى أن نجسد الأبوة الإلهية في الجيل المعاصر وإلى مَن يلِد هذا الجيل في يسوع المسيح ويوجهه روحياً ويُتْحدْه بالرب. كنيسة اليوم تصبح كنيسة المسيح عندما يحاكي أبناؤها الآباء ويبلغون قامتهم ويُظهرون للآخرين طريق الحق والحياة ويكشفون عن إنسان متأله بالنعمة.
أما مدوّنات الآباء فهي ليست امتداداً للحياة الجسدية إنما هي نتيجة طبيعية لمسرى التأله ولذا نجد فيها روحاً تميزها عن مصنفات هذا الدهر. فنحن إنما نقرأ ما نحن بعطش إليه وما هو قريب قرباً بالغاً إلى ذواتنا وما هو متعلق بالإنسان الجديد المتبدّل على صورة الخالق ومثاله. ولعل مصنفاتهم في جوانبها الوجودية عصرية أكثر من مدونات اللاهوتيين المعاصرين كما يقول الأب جورج فلورفسكي، كما أن قراءتها تحمل انسلاخاً من العالم ومخاطبة الإله وانطلاقاً نحو عالم الألوهة. أوَليست مؤلفاتهم مثبوتة في كتب الصلوات والطقوس؟ إن نصوص صلواتنا ليست سوى مجموعة لمختارات من مؤلفاتهم وعطائهم اللاهوتي الغزير الذي لا يؤلّف فهماً مُستحدثاً للإنجيل أو لاهوتاً جديداً يبشر بمسيح آخر، هو تعبير جديد عن الحقائق المستيكية(MYSTIQUE) الإنجيلية، فلاهوتهم في روحه ، لاهوت كتابي على الرغم من أنه مرتب أحياناً على نحو منطقي ومزود ببراهين وحجج منطقية ومدون بلغة أخرى وبألفاظ كانت تُستخدم في الفلسفة اليونانية، هذا ما دفع القديس غريغوريوس النـزينـزي إلى القول إن الآباء تكلموا لاهوتياً على النحو الذي تكلم به الصيّادون ولم يتكلموا “أرسطوطاليسياً”.
كنيسة المسيح لا تنمو حقيقتها مع أب من الآباء إنما تنمو في اختبار المعرفة وعيش الحقيقة إذ إن الحقيقة في حدِّ ذاتها لا تكبر ولا تنقص لأنها مماثلة للواقع الإلهي. خبرة الحقيقة وحدها تنمو وفقاً لثقافة الإنسان الروحية ومرحلة تألهه. من هذا المنطلق تفهم الكنيسة عطاء الآباء اللاهوتي المتجدد ضمن مزامنة الإله والاتصال به. الآباء الشرقيون إختطفوا أنوار الروح القدس الفاعلة في الكنيسة وترجموا هذا الإشراق في نصوصهم فجعلوا وعد الرب بإرسال المعزي حقيقة بارزة وبيَّنوا أنه ” يرشد ويعلِّم كل شيء ويذكّر بكلِّ ما قاله المسيح في حياته على الأرض (يوحنا16:14) وأنا اطلب من الآب فيعطيكم معزيا آخر ليمكث معكم الى الأبد.” إن الرب أظهر عمل المعزي من خلال أولئك العظام الذين عاشوا في الكنيسة الحيّة وجعلوا الكنيسة تعيش بتعاليمهم، ففي ضمير الكنيسة عاش معلموها متمّمين تعاليم الرسل وحاملين تقليد الروح ولهذا علمهم أرثوذكسياً لا بل قاعدة الأرثوذكسية وأساسها. إن لمسألة استمرار العصر الآبائي أهمية كبرى إذ ترتبط باستمرار فعل الروح القدس في الكنيسة وبالأهمية المعاصرة وبالمعنى الحياتي الذي يقدمه الآباء لأبناء هذا الجيل. فلو وُضِع القِدَم أساساً للإعتراف بالأبوة فكراً غابراً وأدباً مُتخفِّياً لا يستحق الدراسة والاهتمام. إذاً، الهدف الذي من أجله ندرس الآباء والاهتمام العميق بهم هو أن نتذوَّق عالمهم الروحي ونلمس آثار الروح القدس في شخصياتهم وآثارهم وفي كل ما تركوه لنا وأن نضع إصبعنا على جهاداتهم وجراحاتهم والدماء التي أهرقوها من أجل الحقيقة الإلهية الملتحمين بها.
الآباء القديسون هم جماعة عادية من حيث الطبيعة والناسوت إلا أنهم سعوا إلى اقتناء خبرة القداسة والتأله واكتسبوا الحرية المقترنة بالمحبة والمشابهة لمحبة الثالوث الأقدس التي أمست اليوم بالإرادة الاعتقادية اتجاهاً معاكساً للمشيئة الإلهية. ولهذا السبب استناروا وأثبتوا الإيمان الذي تلقنوه من الله(إينوس أحد الآباء) وأصبحوا شهداءً للأرثوذكسية وقدوةً يُحتذى بها ونماذج عن محاربة الغربة الروحية وسلامة الإرادة والهرب من العدم والموت. من هنا كان اتباع الآباء القديسين في المراقي الجهادية هو المشروب الإلهي الممزوج بكلام الحق وماء الاعتراف الذي إذ شربنا منه نبصر الله ناطقاً في الإنسان المعاصر ببيان سرِّ هذا الكون.
الكتاب المقدس عند الآباء
شهدت القرون الأربعة الأولى تطوّراً لمفهوم الكنيسة للكتاب المقدس نتج عن نشوء بدع وهرطقات استخدمت نظرية الأنماط التفسيرية لتُدخل بعض المفاهيم الفلسفية إلى العقيدة المسيحية ونشأت أكثرية هذه البدع عن سوء استعمال النهج التفسيري المرتبط بالفلسفة الأفلاطونية في مدرسة الإسكندرية.الأنماط الكتابية حُوِّلت إلى أنماط أخلاقية ليس لها علاقة بأشخاص عاشوا في التاريخ وذلك نقلاً عن نظرية عالم المُثل عند أفلاطون، ودخلت جراء ذلك بدع كثيرة في الكنيسة المسيحية أهمها بدعة الغنوسيين الذين اعتبروا المعرفة في الكنيسة معرفة نظرية بحتة لأنماط أخلاقية مثالية ونفوا بذلك التجسد واستمراره في الكنيسة في حياة الأسرار. وقام آباء إنطاكية ضد هذه البدعة مستندين إلى الكتاب ومؤكدين أن الأنماط الكتابية هي أنماط سِيَر إنسانية تاريخية اكتسبت كمالها في المسيح المثال التام. موقف الرسل في القرن الأول من الكتاب المقدس يلخصه لنا الرسول بولس في رسالته إلى أهل تسالونيكي بقوله “إذا لا ككلمة أناس بل هي بالحقيقة كلمة الله التي تعمل أيضاً فيكم أنتم المؤمنين” (1تسا13:2)ولكن قبل أن يوجد نص قانوني للكتاب وُجدت أناجيل ومخطوطات كثيرة خلقت شيئاً من البلبلة العقائدية في الكنيسة الأولى، لذا استهل البشير لوقا إنجيله مثلاُ بقوله” إذ كان كثيرون قد اخذوا بتأليف قصة في الأمور المتيقنة عندنا كما سلّمها إلينا الذين كانوا منذ البدء معاينين وخداما للكلمة رأيت أنا أيضا إذ قد تتبعت كل شيء من الأول بتدقيق أن اكتب على التوالي إليك أيها العزيز ثاوفيلس لتعرف صحة الكلام الذي علّمت به”(لوقا1:1-4) ولا بد أن نوجز المراحل الأساسية في تحديد كيفية فهمنا للكتاب على ضوء العقيدة المُعلَنة في الكنيسة إن أردنا أن نسترشد بما قاله الآباء في طريقة قراءة الكتاب مَنعاً للإلتباس العقائدي، نجد بداية جواب لنا حول موقف الكنيسة من الكتاب في قول القديس إيريناوس المشهور” علينا أن نمتحن كل شيء ونتمسّك بما اؤمِن به في كل مكان من قِبل الجميع، ما بشّرت به الكنيسة الجامعة الرسولية المنتشرة في كل مكان مُعلنة الإيمان الواحد وبصوت واحد كما تسلمته من الرسل القديسين وتناقلته بواسطة خدام الكلمة المكَرسين بوضع الأيدي” ما أراد القديس إيريناوس أن يؤكده هو وجود بُعدان للفهم الصحيح للكتاب:
1-هناك قاعدة أساسية للإيمان معترف بها من الجميع.
2-هناك استمرارية لفعل الروح القدس في الكنيسة الذي يفسّر لنا الكتاب بواسطة خدّام مكرَّسين إذ يؤلفون أنماط السلالة الرسولية في الكنيسة، السلالة الرسولية هنا محفوظة في جماعة المؤمنين ولكنها ممثَّلة بخدّام الكلمة وليست محصورة فيهم. التأكيد هنا هو على الإجماع في فهم الكتاب والإجماع قي العقيدة خاضع لإجماع الروح من خلال أشخاص مُنِحوا سلطة التمييز باستلامهم الروح القدس في ضوء السلالة الرسولية المحفوظة في جماعة المؤمنين. ويواصل القديس إيريناوس حديثه قائلاً:”إن تحديد الإيمان القويم يخضع لمصدَريْ سلطة في الكنيسة: صدارة الكتاب المقدس وتراث الكنيسة الواحدة الجامعة الرسولية.
لماذا هذا التأكيد على السلالة الرسولية والتراث؟ يجيب القديس إيريناوس نفسه قائلاً” لأن الكتاب، وهو مقياسنا الأساسي لتفسير العقيدة، فُسِّر بشتى الطرق حتى أنه أصبح من الظاهر أن نظرية الأنماط في الشرح توحي إلينا بمعانٍ متعددة تدعو إلى الإلتباس حتى أنه ليُخيل إلينا أن كل امرئ يستطيع فهم الكتاب كما يحلو له”. ومنعاً للإلتباس العقيدة يؤكد القديس إيريناوس على أن النهج التفسيري لما كتبه الأنبياء والرسل القديسون يجب أن يُمتحن في ضوء إجماع الكنيسة الواحدة”.تراث الكنيسة، أي “ما أُومِن به من الجميع”، هو مرشدنا إلى فهم الكتاب.
إذ جوبهت الكنيسة “بقصص عديدة مؤَلفة”كما يقول البشير لوقا في موقفها من الغنوسيين والآريوسيين طرحت مسألة الفهم الصحيح للكتاب المقدس.وبالتالي السؤال:
كيف نميز الفهم الصحيح من الفهم الخاطئ وكيف نتوصل إلى الأمور اليقينية؟
جواب الكنيسة واضح في هذا الصدد، فالكتاب هو مُلك الكنيسة ومَن يريد أن ينمو في الإيمان عليه الإنضمام إلى الكنيسة ولا يجوز لمن يشاء أن يفسِّر الكتاب على هواه.
يجب أن يُقرأ الكتاب في شركة الإيمان أي في شركة الذين يحيَون الكتاب وقد فهموا وحدة القصد الإلهي لتاريخ الله الخلاصي. بالإيمان نميز يسوع المسيح في العهد القديم إذ نقرأ الكتاب من خلاله ومن خلال أقواله وأفعاله وهو في الجسد، وهذا محفوظ لنا في امتداد وحدة جسده في التاريخ أي في الكنيسة، هذا ما أكده أيضاً ترتليانوس في الغرب إذ تحدث عن قانون الإيمان كقاعدة أساسية لفهم الكتاب. إن ما أشار إليه ترتليانوس، مؤكداً بذلك موقف القديس ايريناوس، هو ملخص العقيدة كما عهدت الكنيسة أن تسلمه لكل مقبل إلى المعمودية.
الفهم الصحيح للكتاب مرتبط إذاً في لقاء الرب الدوري في شركة الأسرار فهو يفتح أذهاننا إلى فهم الكتب.كما أن الفهم الصحيح للكتاب مرتبط أيضاً بحصر أفكارنا المشتّتة في مفهوم قانون إيمان الكنيسة الملخص بدستور الإيمان. هكذا ننمو في معرفة الأمور المتيقنة عندنا، حياتنا في المسيح مرتبطة بترجمة شخصية لما قاله المسيح وما بشَّر به الرسل على ضوء قانون الإيمان المعلَن في الكنيسة وتجدر الإشارة هنا إلى أن الصلوات الليتورجية التي وُضعت للخدمة الإلهية كانت بالأساس ما علّمته الكنيسة حول كل هذا:
– إن أسبوع الآلام كان مخصّصاً لتفسير معنى الأسرار للمختارين. لدينا مخطوط من القرن الرابع يُثبت ذلك يذكر لنا القديس إيثيروس وقد حضر أسبوع الآلام في أورشليم قبل نهاية القرن الرابع، أن الأسقف في عظته الأخيرة للمختارين بعد انتهاء خدمة سبت النور قال”لكي تدركوا معنى معموديتكم خلال الأيام الثمانية التي تلي الفصح ستفسِّر لكم بعض الصلوات اليومية أصول العقيدة في مبنى الكنيسة وأنتم مدعوون لمتابعة تلقّي أصول الإيمان فيما بعد في كل قداس إلهي وبصورة خاصة خلال الأعياد السيِّدية إذ تشرح لكم مراحل تاريخ الخلاص في الوعظ”. من هنا فإن أفضل وثيقة لنا حول أسلوب الكنيسة في تفسير الكتاب هي الصلوات الليتورجية التي ترافق حياة الكنيسة العبادية وهي كناية عن شرح الكنيسة للكتاب في قالب شعري نسكي رائع، نذكر على سبيل المثال عن ما يرتبط بالمعمودية من صلوات وطقوس تركز على ثلاثة أنماط كتابية توجز لنا أبعاد مسيرتنا الروحية وهي: آدم في الفردوس، نوح في الفلك وشعب إسرائيل عند اجتيازه البحر الأحمر. هذه الأنماط الثلاثة هي مدخلنا إلى حياة راشدة في المسيح وفي صلاة خدمة سر المعمودية يطلب الكاهن في الإفشين الأخير الذي يتلوه على الموعوظ قبل إتمام سر المعمودية “أيها السيد الرب الكائن السرمدي أنقذ خليقتك هذا من عبودية العدو واقبله في ملكك السماوي وافتح عيني ذهنه ليشرق فيه نور وجهك”ونحن نتعلم كيف نفهم الكتاب إذ نلازم السيّد المتجسد وسط الكنيسة المجتمعة وهو يشرق في قلوبنا نور معرفة إنجيله كلما أتينا إليه والتصقنا به في حياة الأسرار، كما يقول الكاهن قبل قراءة الإنجيل في القداس الإلهي، إن قراءة الإنجيل وتوزيعه على المؤمنين في الوعظ ليس مجرد ترتيب شكلي في صلاة الكنيسة، إننا نشترك في القداس الإلهي لكي نُهيئ لسماع الكلمة”ننضم إلى الكنيسة المجتمعة”(1كور18:11) ونُرشد إذ ذاك من قِبل الكاهن الذي يوزع علينا الإنجيل معلناً أن المسيح نفسه هو المقرِّب والمقَرَّب والقابل والموزع. لذا فتوزيع الإنجيل مرتبط بتوزيع جسد الرب ولكي لا يخرج أحد مرتاباً نتلوا معاً دستور الإيمان الذي هو مقياسنا لفهم الإنجيل”لنمتحن كل شيء ونتمسك بما نؤمن به في كل مكان من الجميع. إننا نجد التفسير الصحيح للكتاب حصراً حيث يظهر لنا الإيمان القويم في بُعده المعاش أي في الكنيسة “(ترتليانوس). ولعل تأكيد الكنيسة الأولى على قانون الإيمان وعلى الحياة الأسرارية كمنطلق لفهم الكتاب يتضح لنا في تشبيه يُنسب إلى القديس ايريناوس الذي كتب في دحضه هرطقة الغنوسيين”رسم أحد الفنانين لوحة رائعة تمثل ملكاً مرتدياً ثوباً مرصّعاً بحجارة كريمة ثم أتى رجل آخر وأخذ الصورة وقطّعها إرباً ثم أعاد لصق القطع الى بعض كما تُشكل فسيفساء من قطع صغيرة لكن اللوحة التي أخرجها بفعل ذلك كنت تمثل صورة ثعلب، وأكد الرجل أن اللوحة المنحوتة هي اللوحة الأصلية إذ أنه استخدم نفس قطع لوحة الفنان في تركيبها ولكن اللوحة الأصلية بالفعل كانت قد فُقدت وهذا بالضبط ما يصنعه الهراطقة في نص الكتاب، إنهم يجزئونه فيضيعون العلاقة الأساسية التي تمثل صورة قصد الله الخلاصي في الكتاب ثم يُعيدون تركيب الكلمات والجُمَل ليس حسب الصورة الأصلية بل حسب صورة مضِّلة من اختراعهم” ثم يتابع القديس مظهراً لنا كيف أن الصورة الأصلية للكتاب محفوظة لنا في دستور الإيمان لذلك فكل مؤمن يستند إلى إيمانه ويحيا به في شركة الكنيسة يستطيع أن يجد العلاقة بين النصوص والجمل الكتابية بحيث لا يضل في فهمه لها عن الصورة الأصلية ولكي يتابع فهمه دون التباس عليه أن ينقّي ذهنه باستمرار من تشويش الشهوات والحياة اليومية بإقباله على ممارسة الأسرار.
“المجد لك يا مظهر النور…من قبلك هي عين الحياة وبنورك نعاين النور” ما نقوله في المجدلة الكبرى يوجز لنا درب المعرفة الحق التي تُعتَلَن في المسيح إذ التصقنا به في حياة الأسرار وهذا ما يبسِّطه لنا القديس إغناطيوس الإنطاكي في رسالته إلى أهل فيلادلفيا”إن ملجأي وثباتي فيما يتعلق بتمييز العقيدة هو الإنجيل الذي هو يسوع المسيح نفسه بالجسد يقول لي بعضهم أنا أؤمن بما هو مكتوب وعندها أجيبهم بما هو مكتوب بالنسبة إلي وهو يسوع المسيح، ممالا شك فيه هو صلبه وقبره وقيامته والإيمان الذي يبعثه ويثبته فيّ بواسطة روحه القدوس هذا هو إنجيلي وهذا ما أقرأه في الكتاب” التراث إذاً بالنسبة إلى آباء القرون الأولى هو بالدرجة الأولى قاعدة لشرح الكتاب. يُقرأ الكتاب قراءة صحيحة ويُفهم فهماً جيداً في ضوء التراث الرسولي الحيّ، أي أن الكتاب يُفهم إذ يعاش كيانياً في الكنيسة ، هذا لا يعني أن التراث يضيف شيئاً إلى ما هو مدوّن في النص الكتابي بل إنه بالأحرى يعطي الإطار الواضح الذي يبرز من خلاله قصد الكتاب وبذلك يُفهم الوحي الإلهي في كمال صورته في يسوع المسيح.