التمجيد لغَة الأرثوذكسيَّة
البروفسور قسطنطين سكوتاريس
لسنوات عديدة، شكّلت مسألةِ اللاهوت، بطبيعَتُها ووظيفَتُها وطريقَتُها ولغَتُها، مادةً للدراسة والتفسير والبحثِ والاستطلاعِ، عند عَددٍ كبيرٍ من العلماءِ الأرثوذكسيينَ وغيرهِمْ من علماءِ التقاليدِ المسيحيَّةِ الأخرى.
فمن ناحية ما، يمكن النظر إيجابيّاً إلى هذا الأمر، لكن من ناحيةٍ أخْرى يظْهر أنَّ اللاهوتَ في الوقتِ الحاضِرِ هو بالإجمال في حالةِ أزمةٍ، وإلى حدٍ ما في حالةٍ من التشوّش. كثيراً ما تتميَّزُ تأمُلاتنا اللاهوتيّة المعاصرة إمّا بشعورٍ من الإكتفاءِ الذاتِيّْ أو بالإنفتاحِ المصطنَعْ. فالأوَّلُ يتجلّى في تردادِ هو نوعٌ من الإلتصاقِ المحافظِ بالماضي. والأخيرُ يُشَكِّلُ نوعاً من التأمُّلِ المعاصِر، النظريّ والدينيّ. لا يستطيع أيُّ مراقبٍ عاقلٍ إنكار وجود هوَّةٌ واسعَةٌ في مِنْظارِنا اللاهوتيِّ بين الجماعةِ التي نسميها “لاهوتيَّةِ” (الأكاديميّة أو العلميّة أو النظريَّة) وبينَ الإهتماماتِ الكنسيّةِ الرِعائيَّةِ لدى المَسؤلينَ عن سلامةِ شعبِ اللهِ الروحيّة. غالباً ما يُفتَرى على العملُ اللاهوتِيُّ والمسؤولية الرِعائيَّةُ، فيُعالَجا كمهمتينِ مختلفتين.
بالطبعِ، لستُ أرغَبُ في أن أكونَ مُشَكِكاً أو سلبيّاً تُجاهَ إجتماع على مستوى المؤتَمَرِ العالميِّ الثالثِ للمدارسِ اللاهوتيّة الأرثوذكسيَّة، ولكن يتراءى لي أنَّ من الضروري مواجَهة الحقيقة حتّى لا نبني قصوراً في الهواء. مهم جداً أن نُدركَ أينَ نقِفُ وماذا نُمَثِّلُ، حتى يكون بحثنا صادقاً وواضحاً وبنَّاءً.
أوَّلَ سُؤالٍ متعلّق بموضوعِ البَحْثِ يجب طرحه على الشكل الآتي: ما هي أهميَّةُ التمجيد، الذي هو لغة الأرثوذكسيَّة، في عصرنا؟ ماذا يعني تمجيد الله في واقعنا المعاصر؟ المسألَةُ هي: هَلْ نملِكُ رؤيةً واضحةً تكفي لفهمِ ماهيّة اللاهوتُ التمجيديُّ، في زمنٍ أضحت فيه عقولنا مظلمة الى حدٍ بعيد، ووعينا اللاهوتيّ والكنسيّ، في أغلب الأوقات، دنيوي أو مشوّش؟ يقتضي الجواب على هذا السؤال الهدوء والصدق والصراحة والوضوح.
فمن وجهةِ نظرِ آباء الكنيسة، إنَّ تمجيد الله هو جوهرُ الحياة المسيحيَّة. لهذا، موضوعنا حيويّ وضروريّ، ويتطلَّبُ تفكيراً دقيقاً وانتباهاً كامِلاً. نحن لا نناقشُ أمراً لمجرَّدِ التأمُّلِ بمُعْضِلَة فلسفيَّة. كما أننا لسنا نبحثُ في مسألَةٍ جدليَّةٍ ولا حتَّى في نهجٍ لاهوتيٍّ بسيط. بالأحرى نحن نبحثُ في حقيقة مرتبطة مباشَرَةً بالإيمانِ والمحبَّةِ والشركةِ معَ الذي مِنْ لَدُنِهِ تنحَدِرُ “كلُّ عطيَّةٍ صالِحةٍ وكل ّموهبةٍ كاملةٍ” (يعقوب 17:1). عندما نتكلَّمُ عن تَمجيدِ الله، نحن مُلْزَمون بتناولَ القلبَ الذي هو كيانُ الفهمِ المسيحيّ والحياةِ المسيحيَّةِ عينها. بالطبعِ، عندما نتحدَّثُ عن تمجيدِ الله، نقترِبُ من قلبِ اللاهوت الأرثوذُكسيّ.
قبلَ متابعةِ بحثِ الموضوع الذي نحنُ بصددهِ، من المناسبِ أن ندرُسَ التعابير التالية: “تمجيدِ الله”، “اللاهوت” و”الأرثوذُكسيَّة”. إذ في الحقيقةِ، يتداخَلُ معنى هذه التعابير الثلاثة في كتابات الآباءِ اليونان بَعْضَهُ بِبَعْضٍ، وغالِباً ما تُسْتَعْمَلُ هذه التعابير بالتبادل، أحدها مكان الآخَر. إنَّ عبارةَ “تَمجيدِ الله” تعني “حديثاً بعيداً عن المجد”. ولكنَّ المجدَ، في نهاية المطاف هو الله نفسَهُ أي، بلُغَةِ القديس يوحنّا الذهَبيِّ الفَمْ، “المجدُ الثابِت”.
إنَّ اللهَ هو المجدُ المُطلَقْ. إنَّهُ المجدُ والكمالُ عينُهْ، بحسَبِ القديس ابيفانيوس. على هذا النحو إنَّ التعبيرين “تمجيدُ الله” و”اللاهوتُ” يصفانِ حقيقة واحدة. إنَّ عبارة “تمجيدِ الله” هي الحديث عن المجد، أي عن الله. وهكذا فالعبارتان: “تمجيدُ الله” و”اللاهوت” متشابتهان. وقد عبَّرَ أوريجانُس عن هذا التشابُهْ بشكلٍ كاملٍ، في كلامه عنِ الصلاة، مُعَلِّقاً على ما جاءَ في متَّى 6:7، ومحذَّراً المسيحيين أن لا “يُكرروا الكلامَ باطِلاً” ولكن أن يتكلَّموا لاهوتيّاً أي أن ينسبوا المجد الى الله.
فضلاً عن ذلِكَ، منَ المعروفِ أنَّ أوريجانُسْ استعملَ عبارَةَ “التكلُّمَ لاهوتيّاً” لكي يشير الى تمجيدِ الله مرات عديدة. فعبارتا “اللاهوت” و”تمجيدُ الله” ترِدان في العديد من كتاباته بالتبادل وبالتساوي. وابتداءً َمن أوريجانس، خاصةً في التقليد النُسكيّ، أصبح تشابه عبارتا “اللاهوت” و”تمجيدُ الله” قائماً بذاتهِ وأكثرَ وضوحاً. “إذا كُنْتَ لاهوتيّاً أنتَ ستُصَلِّي في الحقيقة، وإن أنتَ صليّتَ في الحقيقة، فأنتَ لاهوتيّ”: هذه الكلمات المعروفة لأفغاريوس هي خلاصة ما ذكرناه.
من جهةٍ ثانية، لا تُشيرُ عبارةَ “الأرثوذكسيَّة” فقط إلى مُجرَّدِ الرأي أو الإيمانِ المستقيم (الصحيح)، على أنه منافٍ للهرطقة، بل أيضاً الى التمجيدِ الصحيح. وبكلام أكثر دقَّةٍ، إنَّ التمجيدَ الصحيح يحوي الإيمان الصحيح والطريقة الصحيحة التي تعبِّر عنه. هكذا تكون الأرثوذكسية، كتمجيد صحيح لله أو تمجيدَ الله، أكثر شمولاً منها كإيمانِ مستقيم.
في هذا الخصوص، منَ المُمكنِ أن نضيف أنَّ التقليد العقائديّ، بحسَبِ المفهومِ الأرثوذكسي، ليس نظاماً عقلانيّاً محضاً. لكنَّهُ بالأحرى مُرتبِط بشكلٍ وثيقٍ بالعبادة. إنَّ العقيدة تصبح، ضمنَ الجماعةِ المتعبدّة وعلى ضوء الحياة الليتورجيّة لهذه الجماعة، “حقلاً منَ الرؤيَة، حيثُ جميعُ الأشياءِ التي على الأرض تُرى من خلال علاقتها بالأشياءِ التي في السموات”.
من هذه الناحية تصبح ال Lex orandi مركز نشاط ال Lex gredendi وال Lex cognoscendi وال Lex vivendi . بكلامٍ آخر، ليست العقائد تخمينات نظريَّة مُجرَّدة في ذاتها ومن ذاتها. كما أنَّ الحياةَ المسيحيَّةَ ليست سلوكاً أخلاقيّاً خارجيّاً قائماً على أنظمةٍ وقوانين. إنَّ كلا العقيدة وطريقة الحياة المسيحيَّة تُفْهمانِ في إطار العبادة. في نطاق الجماعة المصليّة، تُصبحُ العقيدة ذلكَ العمل الذي يشكّل ذروة السلوك المسيحي. وهكذا، إنَّ المقاربة الأرثوذكسيَّة لكلا العقيدة والحياة المسيحيّة هي، في الأساس، مقاربة عباديّة.
بالنسبَةِ للأرثوذُكس، منَ الواضحِ أنَّ اللاهوت، كتمجيدِ الله، ليس لهُ صفاتِ الحوارِ الخاص المُوَحِّدِ بين الشخص المتكلِّمِ لاهوتيّاً والله. وَلكِنْ بالرغمِ من أنَّ الأقنوميَّة تبقى محوره، فهي تقدِمَةٌ كهنوتيَّة. يُدرِكُ اللاهوتيّ في تكلِّمه لاهوتيّاً فكرَ الجسم الكنسيّ ويُقدِّمَهُ الى الله، الذي له مما له، بطريقةٍ شخصيَّةٍ فريدة.
إن الدعوة “لنُحِبَّ بَعضُنا بعضاً لكي بعزمٍ واحدٍ نعترفُ مقرّين بآبٍ وابنٍ وروحٍ قُدُسٍ”، قبلَ اعترافِنا بإلإيمان المُشتَرَك بالثالوث الأقدس وقبل دستورِ الإيمان، هي تعبير عن وَعْينا في الكنيسة للاّهوت الذي نُعبِّرُ عنهُ في خدمة قدّاسِنا. إنَّ الجسم الكنسيّ هو الأساس الوحيد الذي يُمكِنُ أن يقومِ عليهِ اللاهوتُ كحدثٍ تمجيديٍّ. فبسببِ العنصرة المستمرَّة في الكنيسة، منَ المُمكنِ أن يُعيدَ تَوجيهُ عُقولِنا نحو الله، وهي المُفْتَقِرَةِ غالِباً اليه، وبالطبعِ يضحي ممكناً أن تستنيرَ وتتحوَّلَ إلى عقولٍ لاهوتيّة. علاوةً على ذلكَ، إنَّ تجلّي الإنسان الفرد يتمُّ فقط ضمنَ الواقعِ الكنسيّ. ليسَت الكنيسةَ نفسها جماعة دنيَوِّيَّة بل هي “هيكلُ الله”، التي، بالرغمِ مِنَ كونها هنا وفي الزمنِ الحاضِر، هي تتخطّى الزمانَ والمكانَ إلى “الدهرِ الآتي”. إنَّ المسألةَ المهمَّةَ هي في أنَّ الجماعةَ الكنسيَّة “مُلتئِمَة ببعضها البعض” بواسطةِ الروحِ القدس، “المُعزّي الآخَر” الذي يصونُ الوِحدَةَ الكنسيَّة، وبذلكَ يُؤَمِّنُ أساساً متيناً لتقدمةٍ لاهوتيَّةٍ صادقَةٍ. إنَّهُ هو الذي يُحَوِّلُ، في الكنيسةِ، الأشخاصَ البُسَطاءَ إلى “لاهوتيين”. فقط “بِهِ نصرخُ يا أبَ الآب” (رومية 15:8). في الحقيقةِ، نحن نعني عملَ الروح عندما نتكلَّمُ عَنْ تمجيدِ الله، “لأننا لسنا نعلمُ ما نُصلّي لأجلِهِ ولكنَّ الروحَ نفسه يشفعُ فينا بأنّاتٍ لا يُنطقُ بها”. (رومية 26:8)
مسألةُ اللغة
إنَّ اللغة هي وسيلة التعبير في اللاهوتَ كما في تمجيدُ الله والصلاةِ الأرثوذكسيَّةِ. التمجيد عملٌ يتمُّ بواسطةِ اللغة. عندما نتكلَّمُ عنِ اللغةِ في سياقِ هذا الكلامِ، ليسَ مِنَ الضروريِّ أن نحصرها بالحدودِ الضيّقةِ للكلمةِ المبتدَعةِ والمنطوقِ بها. إنَّ الكلماتِ المعبَّرِ بها، لا تُمثِّلُ بالطبعِ إلاّ جزءاً منَ اللغةِ اللاهوتيَّةِ وليسَ كلّها. وبالتأكيدِ ليس الجزءَ السامي منها. سأتجرأ على القولَ بأنَّ الكلمات المُعبَّر بها لا تماثلُ إلا القليل من اللغةِ اللاهوتيَّةِ التي في جوهرها تفوقُ الكلماتُ والتعابير.
ليسَ قصدي هنا أن أظهر حدة التبايُنِ بينَ الكلماتِ التي يُمكنُ أن يُعبَّرَ عنها والكلماتِ التي تفوقُ التعبير. على العكسِ فأنا أود أن أؤكِّدَ أنَّ اللغةَ كأداة للتعبير عن الحقائقِ الإلهيَّة وأيضاً كحدثٍ داخليٍّ ذاتيّ، هي حقيقةٌ فريدةٌ وهيَ تُشكِّلُ العنصُرَ الأساسيَّ لعلمِ اللاهوت.
لقد أدركَ فيلسوف اللغة الشهير لودويغ ويتجنستين حقيقة وجود لُغَة لاهوتيَّة لا يُمكنِ التعبيرِ عنها. لقد تكلَّمَ بالتحديدِ عن خاصيَّةِ اللغةِ الدينيَّةِ. ويدرك ويتجنستين في كتاباتهِ Tractus logicophilo Sophicus بأنَّ هناكَ حقائقَ دينيَّة “من غيرِ المُمكِنِ أنّ يعُبَّرَ عنها بالكلماتِ”. أمامَ هذهِ الحقائقِ يجبُ أن نبقى صامتين. الصمتُ هنا يعني أنَّهُ بالنسبَةِ للدينِ والأخلاقيَّاتِ، ليسَ بإمكاننا أن نستخدِمَ دائماً “الإفتراضاتِ” كما نعملُ في العلومِ الطبيعيَّةِ. من هذا المنظارِ، إنَّ اللغةَ الدينيَّةَ هي إلى حدٍّ بعيدٍ تحريفُ اللغة. ومعَ ذلكَ، تُصبحُ الحقائقَ الدينيَّةَ واضحةً تماماً من خلال هذا التحريف.
يوجدُ في مقاربةِ ويتجنستين مكانٌ للتعبيرِ من خلال اللغةِ عمّا عُرِفَ بالخبرةِ الصوفيَّةِ. بالرغمِ مِنَ هذا، ما زال هناكَ إختلاف جوهريّ بينَ اللغةِ والفهمِ الكتابيِّ والآبائيِّ لها. إلى هذا، ومن خلالِ عجز ويتجنستين عن شرح كيفَ يُستطاعُ تحويل ما لا يُدركهُ العقلُ إلى مُدرَكٍ، نحنُ نُلاحظُ أنَّ أسلوبَهُ كلَّهُ يعتمدُ على بنيةٍ محورُها الإنسانُ بالمُطلَق. إنَّ خبرَةَ الله والتكلُّمِ عنهُ يعتمدانِ على الإنسانِ وحدهُ، وينحصرانِ ضمنَ حدودِ الإمكانيّاتِ البشريَّةِ. في نظريَّتهِ عن اللغةِ، لا يوجد أيُّ مجالٍ لخبرةٍ تفوقُ جهدَ الإنسانِ وقدرته، خبرة تُماثلُ خبرةَ القديسِ بولُسَ الذي “أُختُطِفَ إلى السماءِ الثالثةِ … وسمِعَ كلماتٍ لا يُنطَقُ بها” (2 كور 12: 2-4).
إنَّ باستطاعَةِ ويتجنستين أنّ يتقبَّلَ لُغةَ الإيمانِ بسهولَةٍ، أو حتّى اللغة الدينيَّةِ التي تُعبِّرُ عن شيءٍ يفوقُ كل العلمِ البشريِّ الذي يُنقلُ بواسطةِ اللغةِ، ولكن لا يوجدُ في فلسفتهِ مكانٌ للغةِ التي تُمنحُ للبشرِ كنعمةٍ. لقد أشارَ بولُسَ إلى حقيقةَ جوهريَّةَ هي “إنَّ الروحَ نفسَهُ يشفعُ فينا بأنّاتٍ لا يُنطقُ بها”. تبقى هذه الحقيقة شيئاً غريباً بالمطلق، متناقضاً ظاهريّاً لا بل مخزياً للإدراكِ البشريّ.
أعتقدُ أنَّهُ منَ الضروريِّ إيضاحُ هذه المسألةِ أكثر لكي نصلَ إلى فهمٍ ما تمثِّلُهُ اللغةُ من وجهةِ النظرِ الكتابيَّةِ والآبائيَّةِ بشكل أفضلٍ. بحسبِ المفهومِ الأرثوذكسيّ، جميعَ الطرقِ المتعلِّقَةِ بالحقائقِ الإلهيَّةِ متداخلةٌ بشكلٍ وثيقٍ. يُشكِّلُ الكلامَ والتأمُّلَ، وحتّى الشركةِ معَ الله عبرَ خبرةٍ صوفيَّةٍ، وحدةً لا تتجزَّأْ. وتتلخَّصُ هذهِ الوحدةُ إلى حدٍّ بعيدٍ بعبارةِ ال “Logos” (أي الكلمة). إنَّ هذا التعبير يونانيٌّ متعدِّدُ المعاني، وهو يفوقُ الفضيلة. وككلِمةٍ مُعبَّرٍ عنها شفهيّاً وكتابيّاً، هو مركب منَ الكلماتِ والعباراتِ هي بالحقيقة الوسيلةَ التي بواسطتها يفهمُ البشرُ بعضهمُ بعضاً. على المستوى اللاهوتيّ، إنَّ الكلمةَ المعبَّرِ عنها هي وسيلةٌ لنقلِ الحقائقِ الإلهيَّةِ التي يمكنِ نقلها بواسطةِ كلماتٍ مخلوقةٍ، لأنَّ الكلمةَ كمقدرةٍ باطنيَّةٍ ذاتيَّةٍ تُفهمُ كتأمُّلٍ. إنَّ الكلمةَ كتأمُّلٍ في الله تفوقُ الكلمةَ التي تُعبِّرُ عنهُ. إنَّ هذا ما قالهُ أرسطو، وأعادَ قولهُ بطريقةٍ أو بأخرى بعضُ الآباءِ اليونانيين. المسألةُ هي أنَّهُ بالرغمِ من صعوبةِ تكوينِ مفهومٍ وافٍ عنِ الله، فإنَّ صعوبة التعبيرَ عنهُ هي أكبر. وهكذا فإنَّ الكلمةَ بمفهومها كتأمُّلٍ تملِكُ إمكانيّاتٍ أوسعَ نطاقاً منَ “الكلمة” بمفهومها كتعبير. فالكلمةَ كحقيقةٍ تفوقُ كُلاً منَ التأمُّلِ والتعبير. إنَّ الكلمةَ كحقيقةٍ هيَ الكلمةُ الإلهيَّةُ الذي “صارَ جسداً وحلَّ بيننا ورأينا مجدهُ، مجداً كما لو حيد من الآبِ مملوءاً نعمةً وحقّاٍ” (يو 14:1).
وهكذا تبنّى القديسُ يوحنّا الإنجيليّ التعبيرَ اليونانيّ “لوغس” (الكلمة)، ومن بعدِه تبنّاها كاملُ التقليدِ المسيحيِّ للإشارةِ إلى الإبنِ، الأقنومِ الثاني في الثالوثِ الواحدِ غيرِ المنقسمِ الذي وحدهُ “يعرفُ الآبَ” (يو 15:10) ويُعلِنَهُ “لمن يريد” (متّى 27:11). وهكذا، أعطى تجسُّدُ كلمة اللهِ الأزليِّ اللاهوتَ نظرةً جديدةً وفريدةً. فبإخلاءِ الكلمةِ الإلهيَّةِ ذاتهِ، انتقلت حقيقة اللهِ الأزليَّةِ إلى البشرِ، وعُبِّرَ عنها ضمنَ حدودِ اللغةِ البشريَّةِ الضيِّقةِ. لقد كلَّمَ الكلمة المتجسِّدِ الإنسانِ عنِ اللهِ بطريقةٍ بشريَّةٍ. ولقد فعلَ ذلكَ مستخدماً الكلماتِ والصورِ والأمثالِ والمفاهيمِ حتّى يتمكَّنَ البشرُ منَ التكلُّمِ عنِ اللهِ بطريقةٍ تليقُ بهِ.
لقد علَّقَ أوريجانُس بأنَّ ابنَ اللهَِ يُدعى الكلمة (لوغس) لأنَّ ما هو عقلانيّ، وبالطبعِ متسمٍ بالمنطقِ، ظهرَ في شخصِهِ. إنَّهُ يُدعى الكلمة (لوغس) لأنَّهُ هو الذي حوَّلَ حياتنا الخالية منَ المنطِقِ إلى حقيقةٍ جديدةٍ، وجعلنا عقلانيينَ حقيقةً. وهكذا “إن أكلنا أو شربنا أو فعلنا شيئاً، فافعلوا كلَّ شيءٍ لمجدِ الله” (1 كو 31:10). وبكلامٍ آخرٍ، لقد منحنا الكلمةُ الإلهيّ بتجسُّدِهِ إمكانيَّةَ الإشتراكِ فيهِ. وعليه، فإنَّ اشتراكنا في حياةِ الكلمةِ الإلهيّ يُشكَّلُ استعادةَ حياتنا المعقولة الأصليَّةِ. لقد تمثلت حياة الإنسان بحياة الله عبر الاشتراك في حياة الكلمة. في المسيح، تصبح حياة الإنسان قائمة إذ يرتفع عقله إلى مستوى العقلانية الإلهية. هذا يعني أن عقله (ذهنه) قد خلُص من كل انحلال وتشويش. علاوة على ذلك، بقدر ما يكون الإنسان شريكاً في المسيح، لا تكون لغته اللاهوتية مجرد كلمة بشرية بل تأخذ كلّ قوة الكلمة الإلهية.
ولتحاشي أي سوء فهم، يجب أن أوضح هنا أن اللاهوت كعمل كنسي في بعده التمجيدي لله، ليس مجالاً مقتصراً على بعض النخبة المحاطة بالاختصاصيين. على العكس، إنه عمل ثنائي (diakonia) منفتحٌ وحقيقةٌ ذاتَ مدلولٍ جَماعيَ. أيضا، بالرغم من عدم اقتصاره على بعض الأقلية من المفكرين، ليس اللاهوت من الأعمال التي يسهل عملُها. فالقديس غريغوريوس النيصّي يبدي انتباهاً أكبر بالاستعداد والافتراضات اللاهوتية. أرغب في معالجة واحدة فقط من هذه النقاط. من أجل الإجابة على السؤال: كيف يمكن التكلم لاهوتياً؟ يذكر القديس غريغوريوس، من بين جملة أمور أخرى، الهدوء الداخلي والصمت الروحي. والقديس أنطونيوس، معلم البرية، يشدّد بشكل واضح وصريح على الصمت كطريق ضروري يؤدي إلى اللاهوت. فهو يقول في كتاباته عن حياة القداسة “في الصمت أنت تستعمل عقلك وباستعمالك عقلك تتكلّم سراً في نفسك. لأن العقل في الصمت يَلِد الكلمة. والكلمة التي تعبّر عن الشكر والتي تقرّب إلى الله هي خلاص للإنسان”.
يجب أن نقرّ بأننا لا نشير كثيراً إلى الصمت في محيطنا اللاهوتيّ. إن ثقافتنا اللاهوتيّة تغالي في التشديد على أهميّة الكلمة المنطوق بها والمكتوبة. فالخَطابة والوعظ أصبحا مادتين لاهوتّيتين أساسيّتين في كلياتنا. فنحن، بتأثرنا بعقلية المجتمعات التي نعيش فيها، نمنح القليل من الانتباه لما سمّاه القديس غريغوريوس بالهدوء الداخلي والصمت. بإمكاني أن اقول بأن تربيتنا اللاهوتية تعاني مّما أسمّيه بالأعراض “الديموستينية” المزمنة أو بالعقدة “الديموستينية”.
بحسب سيرة ديموستين، الذي كان الخطيب الأكثر شهرة بين الأثينائيين، أنه جاهد، عندما كان تلميذاً في علم البلاغة، أن يقاوم تلعثمه، إلى أن حصل على قدرة الكلام بفصاحة. كثيراً ما كان يذهب إلى شاطئ البحر حيث مارس فن الكلام بوضع بعض الحجارة في فمه والتوجه إلى البحر. لقد أجبر ديموستين نفسه على أن يكون بليغاً. لا يختلف المجتمع الأثينائي عن مجتمعاتنا المعاصرة، إذ لا يقبل إلا الناجحين. لديّ شعور بأننا نحن أيضاً ندرّب تلاميذنا وندفعهم كي يصيروا وعّاظاً وخطباء ومعلمي لاهوت ناجحين. فمن وجهة نظر ما، هذا جيد. لكن هل نحن نعدّهم كي يدركوا قيمة الصمت؟ هل نوضح لهم الطريق التي تؤدي إلى الهدوء الداخلي والسكون؟ نقرأ في كتاب الشيوخ (الييرونديكون Gerontikon) أن الأنبا أغاثون قضى ثلاث سنين وفي فمه حصاة إلى أن تعلّم حفظ الصمت. لقد استعمل أغاثون وديموستين الوسيلة ذاتها لتحقيق إنجازات مختلفة تماماً. ما يميّزهما عن بعضهما، هو الهدف الذي حملَهما إلى الانحراف. فالأول أراد أن يكون واعظاً بينما الثاني قرر جدياً أن يتعلّم حفظ الصمت.
المجد والتمجيد
عندما نحكي عن الصمت، لا نفترض أنه تلك الحالة من الانحراف في الشخصية البشرية والتي تتمثل في الحزن والفردية والركود. فالصمت لا ينتج عن هلع مرضي في البشر، بل بالأحرى يتجلّى في طبيعة روحيّة وباطنيّة عميقة. إنه قوة وجوديّة خلاّقة، يشفي الإنسان بكليّته موجّهاً إياه من جديد نحو الحياة الإلهيّة. فالصمت هو موقف مسيحي عميق يتعلّق مباشرة بتنازل الطبيعة الإلهية في التجسد (التخلّي الإلهي). فإذا تمعنّا في دراسة الحقائق الواردة في الإنجيل، والتي تتعلّق بتنازل الكلمة وآلامه وصلبه، نجد أن المسيح واجه آلامه بطاعة وصمت مطلَقين. نقرأ أنّه عندما سأله رئيس الكهنة “أما تجيب بشيء؟… أمّا يسوع فكان ساكتاً” (متى 62:26-63). أيضاً عندما سأله بيلاطس: “أما تجيب بشيء؟… فلم يجب يسوع أيضاً بشيء” (مرقس 4:15-5). وفي ما يتعلّق بذبيحته على الصليب، تقدّم نبوءة إشعياء ايجازاً ملفتاً للنظر: “ظُلِم، أمّا هو فتذلّل ولم يفتح فاه، كشاةٍ سيق إلى الذبح، وكنعجة صامتة أمام جازّيها فلم يفتح فاه” (إشعياء 7:53).
إني أركز على مسألة الصمت الذي لا يشبه أبداً رفض الكلام، بل قبل كل شيء هو موقف داخليّ وسلوك مرتبط بمجد الكلمة المتجسد وبالقدرة المعطاة لنا كي نقدّم المجد لله. نحن نواجه في هذه الناحية تناقضاً مسيحياً ظاهرياً أساسياً، لأن الصمت كتعبير عن إخلاء الكلمة لذاته، والصمت كتعبير عن مجده، مرتبطان بعضهما ببعض. إن هذا التناقض الظاهريّ هو ما اعتبره اليهود “عثرة” (1كورنثوس 23:1). ففكرة أن يكون رب المجد صامتاً ومصلوباً بحد ذاتها، لم تكن فقط فكرة مرفوضة بل كانت تجديفاً. إلى هذا، بحسب حكمة اليونانيين، إن فكرة الإله المذلول، المتألم بصمت والفاشل في إظهار قوته، كانت بعيدة عن التصوّر، لا بل هي جهالة حقيقية. ولكن في النهاية، ما هو عثرة لليهود وجهالة لليونانيين، هو “قوة الله وحكمته” (1كورنثوس 4:1).
ما يجب تأكيده بشكل واضح ولا ريب فيه هو أن مجد الله الأزلي الممتنع وصفه وقوته وحكمته، يتجلى لنا من خلال تنازل الكلمة الإلهي. هذا ما أظهره القديس يوحنا في إنجيله: “والكلمة صار جسداً وحلّ فينا ورأينا مجده، مجد وحيد من الآب مملوءً نعمة وحقاً” (14:1). لقد انتقل المجد إلى الواقع البشري لأن الله في حركته الانجذابية الصوفية والفريدة قد دخل في حدود الفكر البشري. لقد انحدر بإرادته إلى مستوى البشر حتى أننا “نحن جميعاً ناظرين مجد الرب بوجه مكشوف كما في مرآة نتغيّر إلى تلك الصورة عينها من مجد إلى مجد” (2كورنثوس 18:3).
في التحليل الأخير، ما يشكّل التناقض الأعظم هو حقيقة ظهور مجد الله الأزلي على مسرح التاريخ البشري من خلال الاتضاع الأقصى للإله الكلمة. إنه يشكّل تناقضاً لا يقبل الجدل بالنسبة للمجتمع اليوناني، أو مجتمعاتنا الحديثة التي تجاهد سعياً إلى التطور والنجاح واكتساب المجد البشري والسلطة. إنه تشويه صريح لكل قوانين هذا العالم. كمسيحيين، نحن غالباً ما نفتقر إلى القدرة العقلية على فهم هذا التناقض الذي يقود إلى الحقيقة وإلى “حرية مجد أبناء الله” (روما 21:8). ليست رؤيتنا على الدرجة الكافية من الوضوح حتى نرى حقيقة الأشياء بدل أن نكتفي بظواهرها.
مهم أن نذكّر، في هذا الخصوص، بأن فن رسم الأيقونة الأرثوذكسية يجسّد فقط أيقونة واحد للمسيح هي “ملك المجد”. هذه الأيقونة الفريدة ليست صورة ابن الله في ملكه وسيادته بل هي أيقونة المتألم في صورته الصامتة كعبد في اتضاع أقصى لا جمال له ولا صورة (إشعياء 2:53). أما في سر صليبه، فتظهر لنا حكمة الله ومجده وقوته الكائنة في أقنوم الآب ومجده وألوهيته.
إن ما ذكرناه آنفاً في ما يتعلق بالصمت والتواضع، ينطبق مباشرة على موضوع تمجيد الله. فالتمجيد ليس التكلّم بألفاظ عقيمة أو حتى بكلمات الابتهاج والنصر، بل بالأحرى هو لغة الذين أنكروا ذواتهم وخسروا حياتهم (متى 24:16-25). إن تمجيد الله هو حقاً لغة هؤلاء الذين تعلّموا أن يحفظوا الصمت. وهكذا يكون تمجيد الله مرتبط مباشرة بالحياة في المسيح. إنه نتيجة الحياة في المسيح. في الحقيقة، إن تمجيد الله هو لغة القديسين وكل الذين سلكوا طريق التواضع والطاعة. فالاعتقاد بإمكانية وجود لغة لتمجيد الله من غير قداسة هو شبيه بالاعتقاد بإمكانية تقديم لاهوت بدون الله.
على المرء أن يكون متأكداً بأن اللاهوتيين الأرثوذكسيين، عند الكلام عن تمجيد الله كلغة للأرثوذكسية، هم بالحقيقة يشهدون لتوقهم العميق ولألمهم الوجودي المبرّح من أجل الحفاظ على الفكر والروح والموقف الأرثوذكسي وتعميقها. هذا هو في الحقيقة نضالنا ودعوتنا.
+ عنوان النص الأصلي “Doxology, the Language of Orthodoxy”. عربته سعاد رزوق وراجعه الأب أنطوان ملكي وقام بتجهيزه على الكومبيوتر ماهر سركيس.