هل اللهُ يعاقِب؟
الشيخ يوسف الفاتوبيذي
مقتطف من كتاب “النسك أمّ القداسة”
نقلها إلى العربية الأب أنطوان ملكي
لماذا يعاقبُ اللهُ؟ هذا سؤال فضولي يطرحه دائماً بعض الذين لا يعرفون، سوف نعطي جواباً عليه مختَصَراً استناداً إلى الكتاب المقدس والآباء.
الله وضع تصميم خلق الإنسان وضمّنه الحكم الذاتي في الخيارات واتّخاذها وعنصر الحرية في الشخصية. الإرادة الإلهية وقرار أنّ “الله لم يخلق الموت، ولا هو يُسَرّ في هلاك الأحياء” (حكمة سليمان 13:1)، يقنعانا بأنّ العقاب أو الإدانة ما كانا مطروحَين في البدء. طَلَب الله من خلائقه، (أو “أوصاهم” على اعتبار أنّهم خرجوا منه ولا يمكن لهم أن يوجَدوا من دونه ككينونة مسَبَبة) بأن يتّكلوا عليه وهو العلّة الأولى. هذه الوصية من الله لم تكن فرضاً ولا طَلَباً بحد ذاتها، بل نصيحةً للإنسان المنطقي يستعملها لمعرفة حدود حياته الطبيعية. لو تبع الإنسان هذه النصيحة لانتفَت الحاجة إلى تمديد قوانين وجود المخلوقات.
إذاً، السبب الضمني للشواذ كان الفكرة غير العقلانية والقرار والخيار واستغلال الحقوق من قِبَل الكائن المسَبَب أي الإنسان، لفصل ذاته عن السبب الحيّ على الدوام أي الله. والنتيجة كانت أنّه حوّل نفسه إلى قابل للموت. إن الإنسان، بأعماله، هوى إلى حالة الموت وبالتالي عانى كل نتائج قابلية الموت والفساد التي تسرّبَت إلى كامل طبيعته. بمعزل عن الوجه المادي، عانى الإنسان من انهيار وخسائر في عالمه الروحي. بالإضافة إلى الآلام والخوف والأحزان اكتسب أيضاً “عقليّة ميّالة إلى الشرّ” من لحظة مولده. انقلب عالمه بأكمله وكنز عظمته العقلي (أي الصورة والمثال الإلهيين) بشكل مدوٍّ، وللأسف صار “الجمال الطبيعي مشابهاً للوحوش غير العاقلة (إن لم يكن للشياطين)”.
منذ تلك النقطة بدأت نتائج ذلك الاستقلال الأبله، الذي قاد إلى نهايةٍ فاجعة. بقطع ذاته عن سبب الحياة الأبدية، صار الإنسان، ذلك الجزء الأدنى، ضحية جديرة بالشفقة للإضلال الشامل الذي فيه انطفأ النور وحكمة المنطق. أوّل العلامات كان ثورة الإنسان ضد نفسه وضد خالقه وصانعه. إن وحش الإضلال العجيب، الشيطان، أخمد نور العقل بتقديمه الشهوة بدل الاتّكال، والاغتصاب والكذب بدل الترتيب والاتفاق، والأنانية والحقد بدل السلوك الحسن.
إنسان ما بعد السقطة، الذي صار أسيراً، عاجز في لاعقلانيته عن أن يحكم بعدل ويكون حكيماً، لا كشخص ولا كجماعة. صار عاملاً ثورياً وخطيراً وهدّاماً لتناغم خليقة الله. العناية الإلهية الكريمة وتنازل الإله الكلمة وفّرا الشفاء الكامل من هذا الانحراف، دون أن يُفرَض على الشخصية البشرية فرضاً. كونَ الإنسان قد حصّل الفساد والموت من خلال اختياره الخاطئ للحكم الذاتي، عليه، على المنوال عينه، أن يعود طوعياً إلى المنطق وإلى اتّكاله الطبيعي على العلّة الأولى، أي الله، لكي يعيد اكتشاف الحياة وعدم الفساد اللذين فقدهما. لهذا السبب “يطلب” الله الطاعة والتوكّل من خلائقه. التوكّل ليس ضريبة سلطوية من الخالق، بل ضرورة كيانية ووجودية للمخلوقات. من دونه، حياة الكائنات ووجودها يُعاق. التوكّل على البداية والعلّة الأولى هو بالتالي قانون طبيعي وشرط لوجود كل الكائنات وتركيبها. رفَضَ الإنسان عملية الترميم التي تقدّم بها الإله المحيي والمخلّص، وتمسّك بناموس اللاعقلانية ونظامها بعناد (ربّما لكونه ما زال ضعيفاً من الأسر) وهكذا صاغ دينونته.
بحضور الإله بيننا، لم تمحُ العناية الإلهية الكريمة الذنبَ الأول وحَسْب، بل كافأت بفيض من النعمة كلّ الذين اشتهوا الشفاء والعودة إلى الحالة الأصلية. مع هذا، التشوّه القاسي الذي أصاب الصورة والمثال، يدفع نحو الأسوأ في الميل والحركة؛ من هنا فكر الإنسان المُتَعَرّي من الاستنارة الإلهية والمتحوّل إلى البهيميّة. ولكن بتجسد المسيح المخلّص المعتِق الكريم، برهَن أنّ الإنسان الساقط لم يُجَرَّد من إرادته وحقّه بالاختيار، وعليه، هو قادر على إيجاد صحّته مجدداً وتحقيق إعادة ولادته، لأنّ المخلّص أعاد النعمة التي فقدها الإنسان بسقوطه. وليس هذا فقط! مخلّصنا، الربّ المسيح اختارنا حتّى التبنّي وأعطانا الكنوز “الَّتِي تَشْتَهِي الْمَلاَئِكَةُ أَنْ تَطَّلِعَ عَلَيْهَا” (1بطرس 12:1).
ربّنا، كمخلّص لطبيعتنا الساقطة، بَرهَن عملياً بحياته أنّه بلسم جرحنا وضعفنا وأعاد الإنسان إلى مكان أرفع من حيث كان قبل سقوطه. كنتيجة، يمكن للإنسان المعاصر أن يستعيد شخصيته، ويعود إلى الصورة والمثال، كما ويمكنه أن يصل إلى أعلى من ذلك لأنّ “كُلُّ الَّذِينَ قَبِلُوهُ أَعْطَاهُمْ سُلْطَانًا أَنْ يَصِيرُوا أَوْلاَدَ اللهِ” (يوحنا 12:1). هذا ما برهنه الملايين من أبطال الإيمان الذين تبعوا أسلوب حياته الفاضلة وقلّدوه لأنّ “مَنْ يُؤْمِنُ بِي فَالأَعْمَالُ الَّتِي أَنَا أَعْمَلُهَا يَعْمَلُهَا هُوَ أَيْضًا، وَيَعْمَلُ أَعْظَمَ مِنْهَا” (يوحنا 12:14).
عندما يكتشف الإنسان قيمةَ مشابهتِه لله، يسمع من مخلّصه “حيث أكون أنا يكون خادمي” (يوحنا 26:12)، وبالتالي لا تعود المسألة محاكمةً ولا إدانة. بالطبع، العقاب موجود. لكنه خارج الله وبعيداً عنه وهو للشياطين الماكرين طوعياً. الله لا يعاقب الناس الذين يثبتون معه حسب شخصيتهم وقوانين طبيعتهم. بالمقابل، إنّه يكافئهم بالتبنّي ويجعلهم ورثة لملكِه الأبدي. إن الذين يرسلهم الله إلى “الجحيم المُعَدّ للشيطان” هم أولئك الذين، بشكل شخصي، أرادوا أن يُقطَعوا من ظروف طبيعتهم الفطرية وقوانينها. إنّهم أولئك الذين ثبتوا بعناد في الحالة غير العقلانية وطريقة عيش الوحوش والأبالسة، والذين ثابروا عِبْر حياتهم في الضلال المطلَق، فيما يرفضون أن يصلِحوا أنفسهم بالتوبة.
الله، لكونه عالماً بضعف الجنس البشري وسهولة زلّته، أعطاهم عنصر التوبة الذي يمتد طوال زمان حياتهم. إن الذين يسقطون ويستسلمون لحماقة اللاعقلانية قادرون على إصلاح خطئهم بالعودة إلى غايتهم الحقيقية. هناك أمثلة كثيرة، من الإنجيل كما من سيَر بعض الناس، حيث الإصلاح والعودة إلى قواعد الأخلاق والطريق الإلهية للعيش أثبتت صحّتها من خلال التوبة التي أظهرت النجاح في العودة والستر الإلهي للذين شردوا وأبعدوا ذواتهم عن طريق التقوى. لكن للأسف، أغلب الناس يبقون راسخين في خطئهم وحتّى في السقوط الكامل، وبالتالي يجعلون أنفسهم أمثلة عن الارتداد والابتعاد عن طريقة الحياة بحسب الله. في مسألة الخلاص، يتمّ التداول اليوم، من قِبَل مَن يسمّون أنفسهم “كنائس” في الغرب، بعدد من التعاليم الحافلة بالمظاهر الخادعة التي تحرّف التعليم الأرثوذكسي. خلاص الإنسان، بحسب ما يعلّمنا الإعلان الإلهي، ليس في تخلّص الإنسان من وضع أو موقف سيء ونقله إلى “مكان أفضل” أو إلى جو “أكثر سعادة”.
إن المركز السطحي لهدف الإنسان هو العودة مجدداً إلى مكانه الأصلي: الصورة والمثال. الغاية الرئيسية من تجسّد الله الكلمة كانت اتحاده الشخصي مع الجنس البشري. لهذا السبب، آباؤنا كحاملين صادقين لهذه الصفة، تكلّموا وصوّروا الثيانثروبيا على أنّها الهدف الرئيسي للإيمان (الثيانثروبيا أو حالة التألّه: أي أن يصير الإنسان متألّهاً باتّحاده مع قوى الله وليس مع جوهره الذي لا يُبلَغ من الطبيعة البشرية).
إن كلمات “… أنت، أيها الآب، فيَّ وأنا فيك… والمجد الذي أعطيتَني أعطيته لهم، ليكونوا واحداً، كما أننا واحد، أنا فيهم وأنتَ فيَّ…” (يوحنا 21:17-23) كما أنّ الكلمات المبرَّرة “… الذين قبلوه، أعطهم السلطان أن يكونوا أبناءً لله…” (يوحنا 12:1) تكشف بالتحديد الحقيقة المُشار إليها أعلاه، التي هي جوهر المسيحية. وليس من القساوة القول بأنّه لو كانت الشخصانية من الأهداف الأساسية للإيمان المسيحي أو هي غايته، لكان الالتزام بهذا الإيمان والتضحية من أجله بلا قيمة.
في ما سبق (من فصول هذا الكتاب) شدّدنا على أهمية النسك الشامل كوسيلة ضرورية لاسترجاع كلِّ ما خسرناه. لقد أشرنا إلى أن سبب تفتت شخصية الإنسان كان عقليّته المنحرفة بعد ابتعاده عن الله، هذه العقليّة التي صارت “تميل نحو الأمور المؤذية”. من دون علاج، يجاهد الإنسان عبثاً. إن مخلّصنا، كطبيب، منحنا بالممارسة طريقةَ موازنةِ المشكلة. فهو، من غير حاجة، التزم بالنسك الشامل والروح المجاهدة، لكي يقنع عنادَنا أنّ من دون كدحٍ وجهاد لا يمكن أن نعيد تجميع ما انتثر. عندما ينكبّ الإنسان بالجهادات على مقاومة ناموس الانحراف واللاعقلانية اللذين يميّزان الحياة الشهوانية، يعود إلى أساس وضعيته الأصلية المخلوقة، ويستحقّ بعدل الاتّحاد والتعايش مع خالقه في الأبديّة.
في صلاته الكهنوتية، أشار الرب بوضوح إلى التعايش والسكنى الأبدية مع الجنس البشري: “… أُرِيدُ أَنَّ هؤُلاَءِ الَّذِينَ أَعْطَيْتَنِي يَكُونُونَ مَعِي حَيْثُ أَكُونُ أَنَا…” (يوحنا 24:17). لقد تحدّانا سيّدُنا بجدارةٍ إلى أن نحاكيه، كوننا عشيرته، بقوله “… كونوا قدّيسين، لأني أنا قدوس” (1بطرس 16:1).
بناءً على ذلك، الإدانة الفعليّة، للذين يشوّهون مظهرهم ويهملون شروط الطبيعة العاقلة وقوانينها بسلوكهم البهيمي الشيطاني، ليست من الله. إنهم هم مَن يقطعون أنفسهم عن قوانين المنطق والكرامة. حتى ولو كان الجود الإلهي يتسامح مع ضلال الخطأة ويستقبلهم من جديد إذا تابوا وعادوا، إلا أنّهم هم أنفسهم يختارون ألا يكونوا قابلين للتوبة والتغيير في حياتهم ومعتقداتهم الفاسدة. إنّهم بخيارهم الشخصي يفضّلون ويختارون حياة الانحراف والجريمة والكراهية ويفرضونها على أنفسِهم (روحياً) حتى الموت! كيف، إذاً، يكون الله هو مَن يدينهم وهم قد فضّلوا الحقد والضلال من خلال رأيهم وقرارهم وعملهم؟ ألا يكون من الجور وضعُهم، على عكس إرادتهم، في وضعٍ يناقض ما اختاروا وفضّلوا؟ بالتأكيد، إنّ عدالة الله المطلَقة توزّع على كل إنسان ما يستحقّه تماماً، على أساس أعماله وخياراته.
في الحياة الحاضرة، أصدقاء أعمال الشرّ والجريمة ومحبّوها هم الغالبية. لقد فرضوا أنفسهم على الناس الأخلاقيين والملتزمين بالدقّة. لقد استغلّوهم وقتلوهم. الملايين ارتُكَِبَت بحقهم المجازر على يدَيْ عمّال الشيطان، وبالحقيقة من دون أن يكونوا قد عملوا ما يستوجب ما لقَوه، بل لمجرّد أنّهم آمنوا بالحقّ وأيّدوا قوانين الأخلاق والكرامة. إذاً، ما رأيُكم؟ أيستحقّ قاتلوهم أن يشاركوا أيضاً في بهجة اللطف والمحبة وسكونهما؟
بحسب الكتاب المقدّس، حالة ما بعد الموت ثابتة وبالتالي، كلّ ما كان عليه الإنسان في حياته، يبقى على المنوال نفسه إلى الأبد. لهذا، كلّ الذين رحلوا من هذه الحياة كمجرمين وذوي رغبات غير عاقلة سوف يبقون في الحالة التي أظهروا ميلاً إليها في حياتهم وثبتوا فيها، لذا سوف يستحيل عليهم أن يحيوا إلى جانب الكرام ومحبّي السلام عمّال الخير والمحبة.
وهكذا، الله لا يدين الجنسَ البشري؛ إنّه يقوم بتسويات وفقاً لما يرغب الواحد منّا بحمله معه إلى الأبدية. لذلك، فلننتبهْ، فالآن هو الزمان لكل منّا ليهيئ مستقبله الخاص.