سيرة القديس مارون البار
اسبيرو جبور
التوحّد في شرقنا
وإن كانت الرهبنة قد نشأت في مصر، إلا أنها سرعان ما انتقلت الى شرق المتوسط حيث عرفت ازدهاراً منقطع النظير. وتفنن النسّاك في أساليب النسك، لأن إنسان مشرقنا فرديّ. فابتكر العيش على الأعمدة، فإذا بنا نظفر بجيش من العموديين على رأسهم سمعان العمودي[1] مفخرة دنيا المسيحية الذي تقاطر إليه الناس من جميع أنحاء الإمبراطورية البيزنطية شرقاً وغرباً للاستشفاء وسماع المواعظ، فضلاً عن بلاد فارس وبدو الصحراء. فكان عموده خير منبر وعظ.
وما زال ديره المهجور قائماً في منطقة دير سمعان في محافظة حب، هذه المحافظة التي حظيت بعناية العلماء عناية فائقة لاستخراج كنوز تاريخ مسيحي مجيد لم يبقَ منه سوى الأطلال[2] . والتفرّد السوري جعل التوحد أساس النسك قبل الأديرة المشتركة. وللتوحد أشكال. بعضهم عاش حبيساً لا يخرج إلا لقضاء حاجات. وبعضهم عاش في العراء الكامل كالقديس يعقوب الكبير، تلميذ مار مارون. مارون عاش في عراء نسبي. وكذلك القديستان مارانا وكيرا الحلبيّتان اللتان زارتا قبر المسيح، وكذلك قبر تقلا في سلفكيا[3] ، بدون تناول طعام.
وما كان حبساء منطقتنا غير اجتماعيين، بل كانوا يستقبلون الزوار من ملتمِسي الوعظ والشفاء[4] . في منطقة غزة بفلسطين لمع حبيسان هما القديسان يوحنا وبرصنوفيوس اللذان أغنيا الكنيسة بما تركاه من رسائل مدهشة تحلّ مشكلات ملتمسي الحلول والإرشاد.
ثيئوذوريتوس وتاريخه
ثيئوذوريتوس[5] ، الكاتب الكنسي اللامع في القرن الخامس (457) كان صديقاً كبيراً للرهبان والحبساء وسمعان العمودي. اهتدت أمه الى التقوى، والكفر بالزينة والثياب الفاخرة (فعشقتْ النسك والزهد في الحبل والولادة)، وذلك على يديّ الراهب بطرس الغلاطي الذي شفى وجع عينيها العسير. فصارت مُعجَبَةً كبيرة بالمتوحدين والنساك والذهبي الفم. فحبلت وولدت ابنها الوحيد بوعد ونذرته[6] لله. ترهَّب، ثم صار أسقفاً لمنطقة قورش التابعة لمتروبوليَّة منبج (محافظة حلب) رغماً عنه. شاء أن يؤرخ لرهبان المنطقة كما أرَّخ آخرون لمصر، فترك لنا تاريخاً رائعاً قام على معلومات شخصية استقاها من الثقات مثل أمه وأكاكيوس مطران حلب (بالدرجة الأولى) وسواهما. وسمع بحبيس يقيم في شمال شرق جبله (محافظة اللاذقية) اسمه ثليليئوس Thalelaios فزاره وتعرَّف عليه. إلا أن تاريخه اقتصر غالباً على لمحات. وبعده غرقت المنطقة في الصراعات الكنسية، فلم يسدّ أحد النقص. ولهذا فانتقاصُ كتاب “الموارنة في التاريخ” من وزن مار مارون هو بلا قيمة.
بعد زوال الاضطهاد حلّ الرهبان محل الشهداء. أعمدةُ الكنيسة رسولٌ وشهيدٌ وراهب وأسقف وكاهن في وسط شعب يصلي بحرارة. وراءهم تقف أمهات مثل أم ثيئوذوريتوس، فنحظى بأساقفة رهبانيين يلوذون بالرهبان كما كانوا في طفولتهم يلوذون بأمهاتهم. الأمر واضح في كتابات ثيئوذوريتوس ولجوء أساقفة الى الحبيسَين يوحنا وبرصنوفيوس الغزيَّين. انحطاط الرهبنات هو سبب رئيس لسطحيَّتنا الروحية[7] وندرة قديسينا المعاصرين[8] .
مار مارون
منطقة قورش القديمة في ذمة التاريخ. في الخريطة المرفقة[9] يرى المرء مواقع نسك مار مارون وصحبه. اسم قورش غاب، وحلّ محله اسم “قلعة النبي هوري”. المنطقة مجاورة لمنطقتي عفرين واعزاز في محافظة حلب. وهي جبلية تتعرض لمجاري رياح قاسية وللبرد القارس والثلج والمطر. وجارتها منطقة دير مار سمعان العمودي منطقة رياح. فمن ريحا حتى هناك بحيرات زيتون يقابلها غرباً على الشاطئ الجبلُ الأقرع (1759 متراً) والجبلُ الأحمر (1777) شرق رأس الخنزير، فجبال أمانوس فضلاً عن غابات الصنوبر البرّي الكثيفة شمال اللاذقية. المناخ جاف إجمالاً وصحي. ويمَكّن المتوحدين من السهر ليلاً في جهاد صلاة بارّة لا تنقطع. اختار مار مارون لنسكه جبلاً اسمه الآن برساداغ يبعد 10 كيلومترات عن عمود سمعان. كان مكرّساً لعبادة أرطاميس برسيئا Parsaia قريباً من بلدة اعزاز[10] . يرتفع عن سطح البحر 850 متراً. المنطقة ممتازة للنسك بفضل مشارفها الجبلية.
وكان الهيكل الوثني مخصصاً لعبادة الشياطين، فكرّسه مار مارون، وبنى قربه كوخاً صغيراً، ولكن قلما استعمله. مار مارون طلب الكمال، فاتخذ قراراً مصيرياً بأن يقضي حياته في العراء، فسكن في ذروة الجبل ليناجي ربه في خلوات لا تنقطع. هو أبو هذا اللون من النسك.
مصدرنا الوحيد عن حياة مار مارون هو ما كتبه ثيئوذوريتوس الذي اعتلى سدّة قورش (423) بعد وفاة مارون. وأنشأ كتابه في العام 444. ولم يحرص على إعطائنا سيرة كاملة للقديسين، بل حرص على رسم لوحة رائعة عن القداسة النسكية في المناطق التي أتى على ذكرها، متغنياً في بضع كلمات بأمجاد النسك من مصر الى فلسطين فشمال سوريا. لذلك لم يروِ لنا قصة كاملة، لا عن ميلاد مار مارون وحياته، ولا عن أحواله.
وتجدر الإشارة إلى أن مارون هذا هو وحده مارون الأرثوذكسية القديس. ودير مارون في أفاميا هو على اسمه لا على اسم سواه. إنما يقرّ الاختصاصيون لمار مارون بأنه زعيم حركة الحبساء في القورشية. وقد استقى ثيئوذوريتوس معلوماته عن مار مارون من تلميذي هذا اللامعَين: يعقوب الكبير وليمنيئوس. فكان يعقوب صَديقاً كبيراً لثيئوذوريتوس، فخصَّه بالمدائح.
كان مار مارون يعيش ـ كما قلنا ـ في العراء. وكان يتوقى الثلج والمطر بارتداء جلد الماعز. وكان مُجلـِّياً في ميدان النسك، فقطع أشواطاً بعيدة الأغوار أحرز فيها قصب السبق على سواه. فابتكر ألواناً من التقشف وشظف المعيشة. وكلل الله جهاداته بفيض غزير جداً من البركات والنِعم والمواهب. وإن كانت العجائب لا تدلّ على قداسة الحياة الشخصية، إلا أنها إكليل في جملة أكاليل الأبرار.
فالقديس يوحنا السلمي ينوه بما يخصّ به اللهُ الرهبانَ من مواهب. إنما الحياة الشخصية الطاهرة الكاملة هي الأساس[11] . وقد خصّ الله مار مارون بموهبتي شفاء الأمراض وطرد الشياطين حتى طبَّقت شهرته الآفاق، فتقاطر إليه الناس من كل المناطق. فشفى الأمراض من جميع الألوان. ولم يكن يلجأ الى أدوات وعقاقير. أداته الوحيدة كانت الصلاة الطاهرة البارّة. كانت بركته تحلّ كالندى، فتطفئ السخونة وتهزم الشياطين، وتشفي كل مرض وسقم. وتعلق الناس بالحبساء أكثر من الأطباء[12] ، فأتوهم خاضعين مستسلمين في الأمور المستعصية وغير المستعصية[13] .
وما كان الحبساء يحبسون أنفاسهم. فمار مارون أطلق العنان ليشفي مرضى النفوس من أسقامهم. فوقف مرشداً روحياً كبيراً يقود الخاطئين في سُبُل البرّ والقداسة حتى تحوّلت منطقة قورش الى روضة مقدسة تعجّ بالغروس التي غرسها، أي بالرجال الأفاضل. وهكذا برز فلاحاً مجيداً في حقل الرب. فشفاء النفوس أهم من شفاء الأجساد. وربما ـ على ما نرى في الإنجيل ـ كان شفاء النفس باكورة لشفاء الجسد. فالجسد من صلصال يعود الى تراب، أما الروح فصورة بارئها وإليه المعاد. فهداية الخاطئ أرفع بما لا يُقاس من حشو بطنه بما لذ وطاب، ولو كان يشتهي الخروب الذي كانت تأكله الخنازير في مَثَل الابن الشاطر[14] . الذهبي ومكسيموس المعترف علـَّمانا أن الإحسان الى الروح أهم من الإحسان الى الجسد بما لا يُقاس.
ويبدو أن مار مارون كان ثقة حتى لدى اليهود. فكان قوم منهم قد التجأ الى سمعان القديم (هو غير العمودي)، فأجرى عجيبة على أحدهم. ثم جاء يرويها (في حضرة مار يعقوب الكبير) لمار مارون. فنقلها يعقوب لثيئوذوريتوس الذي نعت هنا مار مارون بـ “الملهم” (6: 3).
وكان مار مارون شديد الإعجاب بالناسك القديس زيبيناس. فكان ينصح زائريه بأن يقصدوا زيبيناس ليحصلوا على بركته. وبلغ إعجابه به حداً دعاه معه: “أباه ومعلمه والنموذج الكامل لكل أنواع الفضائل. وكان يلتمس بإلحاح كبير “أن يودَع جسداهما قبراً واحداً”. ولكن توفي زيبيناس قبل مار مارون.
وطعن مار مارون في السنّ وشاخ. فأصابه، لبضعة أيام قليلة، داء كشف “وهن طبيعته وحيوية روحه”. فتوفاه الله ونقله الى الفردوس. وتنازع المجاورون على جثمانه الطاهر، فحضر أهالي قرية مجاورة كثيرةِ السكان، فنجحوا في عملية إقصاء الآخرين، وأخذوا الجثمان، وبنوا فوق القبر كنيسة كبيرة، يحتفلون فيها علانية ورسمياً، فيمنُّ الله عليهم بثمار من الإنعامات الإلهية الغزيرة.
لم يذكر ثيئوذوريتوس أن مارون أنشأ أدياراً، إنما ذكرت التقاليد ذلك. وهذا التنازع على أجساد القديسين كان شائعاً جداً. فبالقوة العسكرية تمّ نقل جثمان القديس سمعان العمودي الى أنطاكية. وكان رفات الأموات يحظى بالتكريم ويؤتى به من بعيد. فذكر ثيئوذوريتوس (24) أنه أقيم هيكل كبير في كيتا Kitta على قبر زيبيناس تمّ إيداع ذخائر الشهداء (الذين اغتالهم الفرس) فيه. وكان القديس ماروثا حاذقاً في الحصول على ذخائر شهدائنا في شرق الفرات المستشهدين على أيدي الفرس، فأتى بكمية كبيرة منها الى مركزه ميافرقين التابعة لمتروبولية آمد (ديار بكر)، حتى أُطلق عليها باليونانية اسم مدينة الشهداء Martyropolis[15] .
والأعجب من هذا أن هناك حالات كانت الاستعدادات تسبق فيها الوفاة: دخل يعقوبُ تلميذ مارون الغيبوبة، فظن الناس أنه مات، فتنازعوا حاملين السلاح، ونتفوا شعر رأسه. فأتى أهل قورش وأبعدوا الناس بإطلاق النبال، وحملوه الى بلدهم. ولكنه عاد الى الحياة. ومواطنو سلمانيس اختطفوه من محبسه قبل وفاته لئلا يفقدوا هذه الذخيرة. ماركيانوس القورشي نسك في برية قنسرين في أيام والنس Valens (القرن الرابع)، فلما ذاع صيته أتاه أساقفة أنطاكية (القديس فلافيانوس)[16] وحلب (أكاكيوس) وقنسرين (أفسابيوس) وقورش (ايسيدوروس) ومنبج (ثيئوذوتوس) يستمعون لعظاته. صلـّوا ورفعوا أيديهم ليرسموه كاهناً، فلم يرسموه لأن كل واحد منهم كلف الآخر وضعَ اليد عليه. فاعتذروا بالتتابع لأنهم ـ كما أرى ـ تهيَّبوا وشعروا بعدم جدارتهم للمهمة. فانحنوا أمام قداسته وَجلين. وقبل وفاته أقام كثيرون هنا وهناك معابد مدفنيّة لتقبيل جثمانه الطاهر. منهم أليبيوس ابن أخيه الذي أقام له معبداً في قورش، وزينوبياني، السيدة النبيلة المَحتِد والمشرقة الفضيلة، معبداً في قنسرين. علم بذلك، فتدبّر الأمر مع الحميمين ونجا جثمانه دهراً.
أما وفاة مار مارون فمجهولة التاريخ[17] . في حسابات Canivet كان مارون حياً في العام 406. ولا نعلم شيئاً سوى ذلك[18] . ففي العام 406 تركه تلميذه يعقوب الكبير ليعيش في العراء، فكان ذلك في 444، عام تدوين التاريخ، أي بعد 38 سنة.
نعرف أنه في العام 536، في عهد الأمبراطور جوستينيانوس الكبير، بُني دير هام على اسم القديس مارون في “ارمناز” احتلّ المكانة الأولى في سوريا الثانية البيزنطية. وكان الأمبراطور مركيانوس قد أمر في العام 452 بإشادة دير بالقرب من أفامية (محافظة حماه الآن) على اسم مار مارون. وهناك غالباً أديرة أخرى. إلا أن أشهرها هو الدير المذكور الذي اختفت آثاره كلياً، فلا يهتدي الباحثون اليوم الى أطلاله[19] . والجدير بالذكر أن لغة رهبانه كانت اليونانية[20] .فالبقعة كانت خاضعة للثقافة اليونانية فضلاً عن كون الكتاب المقدس المستعمل والتراث المسيحي آنذاك يونانيَّين بالدرجة الأولى. وقد حضر رهبان منه المجمعَ الخامس المسكوني[21] . وترأس رئيسه بولس وفد رهبان سوريا الى مجمع في القسطنطينية في العام 536 وقدّم شكاوى ضد سويروس أنطاكيا وبطرس أفاميا المعاديَين لخلقيدونيا.
سيتساءل كثيرون عن معنى النسك والتقشف. الجواب العملي سهل، أما النظري فسفسطة. إما أن يعشق الانسان ذاته وبطنه وجلده وجسده وجيبه، وإما أن يعشق الله. النسك والتقشف المغمّسان في دم الصلاة بالروح القدس يقتلعانا من أجسادنا، لنكون في المسيح للآب السماوي. ثم تنعكس قداسة الروح على الجسد، فيمنحُ الروحُ القدس أجسادنا رجاءَ قيامةِ عدم البلى في القبر.
كلامي عسير جداً، ولكني واثق بأن جسدي سيبلى في القبر، وأن روحي لن تلاقي يسوع إلا إذا أمَتُّ شهوات الجسد ورغباته وأهواءه بالروح القدس، لتحيا الروح. متى اخترع الناس دواءً ضد الموت أعدتُ النظر في موقفي. ولكن من هو الإنسان المجنون الذي لا يفهم أن العيش أكثر من مائة سنة عبءٌ ثقيل على الأهل وحتى على صاحبه؟ فحتى الموت هو رحمة لنا، ما دمنا نشيخ ونهرم ونصاب بالخرف.
مار مارون هو إمام من أئمَّتنا للكُفر بالدنيا وملذاتها. فلنسِرْ على خطاه الرَّشيدة.
متى يقع عيده؟ الأرثوذكس واللاتين يعيّدون له في 14 شباط، أما الموارنة ففي 9 شباط.
تواريخ أعياد القديسين القورشيين[22]
يعقوب الكبير تلميذ مارون، 26 تشرين الثاني
ماركيانوس وتلميذاه، 2 تشرين الثاني
أغابتوس وافسابيوس مارَيس، 25 كانون الثاني
افسابيوس (أسيخا)، 15 شباط
برداتوس، 22 شباط
لمنيئوس، 22 شباط
ثلاسيوس، يوحنا، موسى، 23 شباط
داميانوس، أنطيوخوس، 23 شباط
أنطونيوس، زيبياس، 23 شباط
بوليخرونيوس، 23 شباط
يعقوب (نيموسا القورشية)، 27 شباط
أسكليبيوس، 27 شباط
دومنينا، 1 آذار
بقي معنا من القورشيين الذين ذكرهم ثيئوذوريتوس أكْبسيماس المتوحد. هو غير سميّه الشهيد الذي نعيّد له في 3 تشرين الثاني. لم أعثر على عيده في “رفيق المسافر” اليوناني. ونوّه ثيئوذوريتوس بامرأة ناسكة كانت تمارس الضيافة، دون ذكر اسمها. أما القديس سلمانيس المذكور قبلاً، فعيده في 23 كانون الثاني. وعيد القديستين الحلبيَّتين المذكورتين مارانا وكيرا في 28 شباط.
الخاتمة
إن عالمنا السائر بخطى حثيثة نحو الفراغ الروحي والضياع، ونحو العبودية لسادة قساة أجلاف يجلدونه بالميكانيك والتقنية، نحو الاستغلال لصالح الطغاة في عالم الفساد الحاضر، هو اليوم أحوج منه في أي يوم مضى الى الانبعاث بالنسك والصلاة. الإنسان يتعرّى بسرعة من إنسانيته ليضحي آلة مسخّرة. لم يعد سيّد نفسه حتى في أتفه شؤون منزله. النسك طريقة الى الحرية الروحية، الى اكتشاف نفسه الضائعة، الى إنقاذ عالم الغد من استفحال سرطان الجرائم ومن الاختناق الداخلي في عالم مشحون نفسياً بالغازات السامة. فلا الراديو ولا التلفزيون، ولا السينما، ولا المسجلة، ولا القصص، ولا الجرائد، ولا المجلات، ولا العمل المتواصل، ولا المطالعة المتواصلة، بقادرة على إنقاذ إنسان الغد ـ على المدى البعيد ـ من الوحشة الداخلية والضجر والسأم والملل. ولا أذكر المخدرات والمُسكرات والقمار والجنس لأنها أسوأ الحلول لانتحار الإنسان كانسان. مهووسون يجلدون أنفسهم ساديين sadomasochists ضد أنفسهم. يتم اليوم تطبيب السكارى ومدمني المخدرات في مشافي الأمراض العقلية. ولكن من يهتم بهم ؟؟؟ إنهم كارثة اجتماعية. المرض مرتبط بعيوب تربية الطفل الصغير من رضاعة وشراهة ونظام وغيره و…..
مدنية العلم والنظام رائعة، لولا القفا القاتم:
1- تفسُّخ الحنان البشري. رواسب تاريخ إنساني طويل تحمي بعض العالم المتمدن من تدهور سريع. إنما يعيش على مصل (سيروم) يدوم ما شاء الله.
2- طغيان آلة الحرب والدمار طغياناً أعمى، على الاقتصاد والمجتمع وأفكار الناس، وتفشي الإجرام، وانتشار السلاح الفتاك بين أيدي الناس. فأي طارئ جنوني (ينتاب أحد الذين بين أيديهم تحريك كبريات أدوات الدمار) قابلٌ لأن يحرق الكرة الأرضية. فمصيرنا معلق على النزوات. وعلمَنا التاريخ أن قرارات الحرب والإبادة غير عسيرة على السياسيين. ومتى كان السياسيون رجال الله؟
أما الحبساء فقد انتصروا على الضجر، وملأوا فراغهم بتنشق روائح يسوع وامتصاص أنواره الزاهية. عرفتُ كم يتضايق المرء متى دخل السجن أو الزنزانة. يختنق. لماذا؟ لأنه عاجز عن الخلوة. تعوَّد أن يتسلى بالقشور الخارجية ذاهلاً عن أعماقه الداخلية. الإنسان عدو الانطواء الروحاني (لا المرضيّ النفسانيّ) على ذاته. يهرب من مواجهة نفسه.
الحبساء خير الأدلاء على طريق الانعتاق الداخلي. عالمنا الحاضر بحاجة إليهم ليطردوا منه شياطين العنف، والتوحّش والبغضاء، والتلاشي في المستنقعات، والاختناق في السموم. مار مارون ومواطنوه علاماتُ طريق لقوم يعقلون. وأين العقول؟ في توافه الأرض.
الإنسان قلق. استقراره هو عدم استقرار. لا يستقر على حال. يسعى الى الامتلاء. ممَّ؟ لكلٍ فلسفته الخاصة. الإنسان جائع لا يشبع ـ نفسياً ـ من أي شيء. لا يرضى بأي واقع أو حال. عدم الاطمئنان يقلق البشر. الإنسان معرَّض دوماً للطوارئ والأحداث. يلجأ الى المخدرات المادية أو النفسية ليَقرَّ باله. ولكن، لا قرار. يسوع وحده القرار والامتلاء والكمال والاطمئنان والسرور الأبدي. لا خلاص لعالمنا الحالي إلا بالنسك. الرهبان سيُخلـِّصون العالم (دوستويفسكي).
الحواشي
1 – اسبيرو جبور، سمعان العمودي، حلب، 1992.
2- يهتم Canivet وصحبه منذ سنوات بنشر آثار ثيئوذوريتوس مع ترجمة من اليونانية الى الفرنسية، محققاً النصوص اليونانية. ويهتم الآن بمنطقة أفامية (محافظة حماه) حيث نسك ثيئوذوريتوس، لينبش آثارها الرهبانية وسواها. وكتب 3 آباء لاتين 3 كتب وصدرت قبلهم جميعاً كتب رائعة، مثل كتب الأب Festugière وVooleus وتشالنكو وسواهم مما يراه المُطالع في ثبت مراجع كلٍ من الكتب التالية:
Pierre Canivet, Théodoret de Cyr, Histoire des Moines de Syrie, Sources Chrétiennes (2 Tomes) 1977
Pierre Canivet, Le Monachisme syrien selon Théodoret de Cyr, Ed. Beauchesne, 1977.
Ignace Pena…, Les Stylites syriens, Milano, 1975.
Ignace Pena…, Les Reclus syriens, Milano, 1980.
Ignace Pena…, Les Cénobites syriens, Milano, 1983.
3 – تقع في منطقة ايسافريا Isavrie بتركيا شمال كيليكيا، لا في معلولا. لها دير في معلولا فقط. وهذا ثابت بكتاب ثيئوذوريتوس وخطبة غريغوريوس اللاهوتي 21: 22، وأعمال استشهادها. اعتماد الحقائق خير من الأوهام. حتى الأب لعازر مور وقع في هذا التوهّم في تدوين حياتها بالانكليزية (لديّ نسخة منه على “الدكتيلو”). أنشأتُ حديثاً سيرة الشهيدة تقلا.
4- كان في منطقة دمشق حبيس مشهور يطلّ على الناس كل أسبوع، فيشفي أولّ مريض يقع نظره عليه (في مجاني الأدب، الجزء الأول، ص 116 من طبعة 1956). لم أعثر لدى Pena على ذكر له.
5 – لغتنا العربية خالية من حرفين أجنبيَّين، لذلك اصطلحت على كتابة الأسماء اليونانية التي تحمل اسم الله هكذا ثيئو Theodoritos.
6 – نحن مدينون بكبار آباء الكنيسة لأمهاتهم: باسيليوس الكبير وأخوته وأمه تلاميذ جدَّتهم مكرينا. غريغوريوس اللاهوتي يذكر أمه بحنان كبير يشبهه فيما بعد أوغسطينوس وثيئوذوريتوس الستوديتي بأمهما. أم غريغوريوس بالاماس خلاصة النبل. فإن كنا تافهين روحياً في عصرنا فليس الاستعمار العثماني وسواه وحدهما المسؤولين، إنما تراخي أمهاتنا في عمق التقوى هو المسؤول الأكبر. البيت هو الأساس. والأم هي ربَّة البيت الملازمة لأطفالها. كما تزرع تحصد. واحسرتاه!!
7 – لا أعرف في شرق المتوسط رهبنة أصلية على الطراز القديم سوى دير مار سابا في وادي الأردن بفلسطين الذي زرته في 4/11/1946 و4/7/1947. هو دير محافظ على التراث النسكي السليم. تبنى جبلُ آثوس تيبيكونه فصار تيبيكون العالم الأرثوذكسي. الراهب الروماني يوحنا غادره بعد حين وصار حبيساً في وادي الكلت الى أن قضى أجله صدِّيقاً. سدى الرّهبنة ولحمتها زهدٌ في الدنيا والطعام والشراب والمقتنيات، ونسكٌ وتقشف وصلاة متواصلة. وهذا مفقود في شرقنا “المقدَّد” روحياً كأنه في ثلاجة.
8 – في العام 1977 أيضاً أصدر سيادة المطران فيلبس صليبا (نيويورك) كتيّباً جرد فيه أسماء القديسين الأنطاكيين مع لمحة عن كلٍ منهم، وذلك عن السنكسار اليوناني على ما أظن: Harvest of Antioch. وهذا ما نفتقر إليه حتى في الوطن. وهدف سيادته واضح ألا وهو ترسيخ أنطاكية في شمال أميركا، كما عهد فيه ذلك الطوباوي البطريرك الياس الرابع، فدعم ترشيحه في 1966.
9- نقلناها عن Canivet. في المصوّرات الجغرافية وخرائط محافظات حلب والجزيرة وادلب وكتب الدارسين وخرائط “لسان العرب المحيط” وجزء الخرائط من الموسوعات الفرنسية والانكليزية (دوائر المعارف) يتعرّف المرء على المناطق جغرافياً.
10- كانت اعزاز جزءاً من القورشية التي كان فيها 800 رعية. تقع برساداغ شرق قورش، على مسافة 5 كيلومترات الى الشمال والشمال الغربي من بلدة اعزاز. هذه في محافظة حلب.
11- راجع كتابنا “المواهب الإلهية”.
12- في سيرة القديسة تقلا غار الأطباء منها فحاكوا مؤامرة ضدها.
13- ثيئوذوريتوس ذكر عجائب أجراها المتوحدون في حياتهم. ولكنه لم يذكر ذلك عن بلاديوس وزيبياس اللذين صار قبراهما ينبوعَي عجائب (7: 3 و24: 2). فلربما لم يجريا عجائب وهما على قيد الحياة.
14- في كتب الأرثوذكس الطقسية اسمه “الشاطر”. في معجم “لسان العرب المحيط” تتعدد معاني لفظة “شاطر”. المنجد الأخير (1975) أثبت اللفظة في ص 387: “الابن الشاطر”: هو الذي عصى أباه وعاش في الخلاعة بعيداً عنه، ثم عاد اليه تائباً”. انما هذا تعريف بالابن الشاطر في الإنجيل لا تحديد لغوي للفظة. بعضهم ترجم نقلاً من الفرنسية “مبذر”. وردت اللفظة في اليونانية في لوقا 15: 13 وأفسس 5: 18 وتيطس 1: 6 وبطرس الأولى 4: 4 بمعنى “الخليع” و”الخلاعة”.
15- إن القديسين هم أوعية اللاهوت والروحانية. أما ديار بكر (أو آمد قديماً) فهي في القسم الذي اغتصبته تركيا، بعد ماردين، الى الشمال الغربي من القامشلي.
16- خلف القديسَ ملاتيوسَ الذي توفي في المجمع المسكوني الثاني (381). اليوم نقول بطريرك أنطاكية.
17- يعتبر Canivet الاختصاصي الكبير أن الرسالة 39 التي وجّهها الذهبي الفم (بين 404 و407) الى كاهن راهب يدعى “مارون” عنت شخصاً من الأقربين اليه في القسطنطينية. وحجته أن ثيئوذوريتوس ما ذكر أن مارون كان كاهناً. لهذا السبب أيضاً أهملتُ كلياً التعرض للموضوع في عدد آب 1972 من مجلة “النور” الغرّاء. وزدتُ عليه حديثاً حجة أخرى، ألا وهي عدم تنويه ثيئوذوريتوس بهذه الرسالة. ألم يكن ـ مثل والدته وأهالي أنطاكية والقسطنطينية ـ مسحوراً بسيّد المنابر، ورجل الأيام الحالكة، وداعية النسك، وإمام المصلحين، وأحد منقذي أرثوذكسية الأمبراطورية من استفحال خطر الجرمان الآريوسيين؟
18- Canivet, Monachisme, P. 199n. 175
19- ذكره ابن المسعودي في “النبيه والإشراف” (946) كدَير كبير جداً.
20- Fliche et Martin, Histoire générale de l’Eglise, Tome V, p.116 & 481 تعصبوا جداً للأمبراطورية البيزنطية بعد كل ما شاهدوا من مساوئ اجتياح الفرس للمنطقة في مطلع القرن السابع، ونقل عود الصليب الى فارس، إذ حاك اليهود مؤامرة خبيثة ضد المسيحية.
21- Mansi, VIII, 624
22- ذكر ثيئوذوريتوس بين القورشيين موسى وداميانوس. نعيّد لهما في 23 شباط. وهما غير قوزما وداميانوس 1 تموز أو 1 تشرين الثاني. وليس بين القورشيين أي ابراهاميس. إنما هناك اثنان أحدهما من “بني شهير” (Imma قديماً) في مقاطعة أنطاكية، والآخر من “النبي عيس” (قنسرين قديماً) شرق منتصف الطريق العام بين سراقب وحلب. كنيسة بلا قديسين هي اسم بلا مسمّى. الكنيسة هي “فبركة” تفبرك قديسين. فالقديسون هم نجوم الجلد في سماء الكنائس التاريخية وإحدى ثرواتنا المشتركة الكبرى.