سقطة آدم وأحكام الله
القديس سمعان اللاهوتي الحديث
تعريب الأب أنطوان ملكي
إن لم يدرك المرء أنه أدم، أي ذاك الذي أخطأ أمام الله في الفردوس، كيف له أن يدرك أن نزول ابن الله وكلمته كان من أجله؟ لقد وُضع الناموس بعد السقوط. وكما أن كلاً منا هو من آدم، أي أنه قابل للفساد والموت، ليس بسبب خطيئة صنعها، بل بسبب عصيان جدنا الأول آدم، الذي نأتي نحن من ذريته؛ كذلك كل منا هو من المسيح، لا يموت ولا يفسد، ليس بسبب فضائلنا الشخصية بل بسبب طاعة آدم الثاني الذي هو المسيح ربنا الذي نزل من السماء. نحن نصبح عظماً من عظامه ولحماً من لحمه. وتماماً على غرار ما ينتقل الفساد والموت من جيل إلى جيل من آدم القديم، كذلك ينتقل عدم الموت وعدم الفساد إلى المسيحيين من آدم الجديد. وكما أن مشاركتنا في طبيعة جدنا آدم الذي سقط هي حقيقة ظاهرة في كوننا نخطئ ونخالف وصايا الله، كذلك هي حقيقة أننا مشاركون في النعمة الإلهية التي هي بالمؤسِّس الثاني لجنسنا، الرب المسيح، ونحن نعرفها بهذه العلامة: أننا نخطئ بعد امتلاكنا النعمة الإلهية*. نحن نخرج من ملء المسيح، تماماً كما تصدر من النار وفرة من الأضواء. وتزداد الأضواء بقدر ما تتفجر من مصدرها الذي يزخر بالنار: فالمسيح كونه الله غزير بكل خير.
المسيح، إذ لم ينأى بنفسه عن كل ما هو موجود، تنازل ودخل في الرحم الطاهر للدائمة البتولية، وُلِد، وتغذّى بالحليب، ونما ليصبح رجلاً، وعلى المنوال نفسه عطش وجاع وقام بالأعمال وعَرِق وتعرّض لحسد اليهود بسبب المعجزات التي قام بها مظهراً ألوهيته، رُفِع على الصليب مع اللصوص كما لو أنّه صانع شر، مات ميتة مخزية بإرادته، دُفن وقام مجدداً، صعد إلى السماء ليرسل على المؤمنين الروح القدس الذي ينبثق من الآب الذي أرسله بالحقيقة. فكل التدبير من وراء تجسّد المسيح كان غايته وهدفه أن ينزل الروح القدس في نفوس الذين يؤمنون بالمسيح كإله وإنسان، مسيحاً واحداً في طبيعتين، إلهية وبشرية، من دون امتزاج أو تشوش، حتى يكون هذا الروح القدس، نفسَ نفسِ المؤمنين، وحتى أنهم لهذا يُدعَون مسيحيين، وبفعل الروح القدس يُعاد سبكهم وخلقهم وتجديدهم وتقديسهم في الفكر والضمير وكل الحواس، فلا يحملون من بعد في ذواتهم أياً من أنواع الحياة الفاسدة التي قد تنشئ في نفوسهم ميلاً نحو المتع الجسدية والشهوات الدنيوية ورغبة فيها.
كل إنسان، من يوم ولادته، من لحظة تكوّنه، هو عرضة للفساد والموت، ما يتطلّب قوة إلهية عظيمة لتجديده لعدم الفساد والموت. إذا نما الشر في أي إنسان، مترافقاً مع نموه في الجسد، فبالطبع سوف تنمو قوة الفساد وسلطة الموت سوف تزداد. هذا لأن لسعة الموت تتغلغل في الإنسان بحسب درجة الفساد التي يطورها في ذاته. إذا كان الطفل البريء بحاجة إلى قوة إلهية عظيمة لكي يتحرر من الفساد فكم تكون أعظم القوة التي يتطلبها ذاك الذي ترافق مع نموه في الجسد نمو الشر في نفسه، وبهذا نما في الفساد؟ هذا الفساد هو ما سمّاه داود في المزامير رباطات ومسح، عندما دعا الرب “لأَنَّ الرَّبَّ قَدْ أَحْسَنَ إِلَيْكِ. لأَنَّكَ أَنْقَذْتَ نَفْسِي مِنَ الْمَوْتِ، وَعَيْنِي مِنَ الدَّمْعَةِ، وَرِجْلَيَّ مِنَ الزَّلَقِ ” (مزمور 7:115-8)، أي أرفع لكل الشكر والتمجيد لأنك فككت قيودي أي الفساد. ومرة أخرى “حَوَّلْتَ نَوْحِي إِلَى رَقْصٍ لِي. حَلَلْتَ مِسْحِي وَمَنْطَقْتَنِي فَرَحًا، لِكَيْ تَتَرَنَّمَ لَكَ رُوحِي وَلاَ تَسْكُتَ. يَا رَبُّ إِلهِي، إِلَى الأَبَدِ أَحْمَدُكَ” (مزمور 11:30-12)، أي أنت عريتني من لباس الوبر الذي كنت ألبسه، أي الفساد، وألبستني الفرح حتى أمجدك، ليس أنا بل الروح القدس من خلالي، لأن الفرح والمجد اللذين أخذهما داود من الله كانا الروح القدس. وبامتلاكه الروح القدس في ذاته، يقول “منطقتني فرحاً”، فلا أكون بحاجة للتوبة، أي لن أخطأ.
وهكذا فإنه ضروري بالمطلَق لكل إنسان أن يبذل كل الجهود الممكنة حتى يكتسب من فوق، من المسيح الإله، هذا الفرح وهذا المجد، أي نعمة الروح القدس ليصبح قادراً على عدم الخطيئة مجدداً. إذ إن ما يقوم به الإنسان باختياره يستطيع أن يبطله باختياره، لكن ما هو من الطبيعة لا يمكن إبطاله طوعياً. إذا كان الإنسان قد صار قابلاً للفساد والموت في الطبيعة، فهو لا يستطيع بقوة الإرادة الحرة وحدها أن يتحرر من الفساد والموت. من وقت ما طُرد آدم من الفردوس، أي منذ أن أصبح قابلاً للفساد والموت بسبب عصيانه، حتى إلى يومنا هذا، لم يكن هناك أي إنسان من دون فساد ولا موت.
وهكذا، إذا كان ضرورياً للإنسان أن يعود إلى الحالة الأصلية التي خُلق فيها، أي ليصبح بلا فساد، لا تستطيع أي إرادة بشرية حرة أن ترفعه إلى تلك الحالة، بل وحدها القدرة الإلهية التي تلقّاها بالامتزاج مع الطبيعة الإلهية. فالطبيعة الإلهية هي من القوة لتغلب فنائية الطبيعة البشرية ولتدعوها إلى حالتها الأصلية. إن كلمات الله وأحكامه تصبح ناموس الطبيعة. إذاً، إن الحكم الذي لفظه الله كنتيجة لعصيان آدم الأول، أي حكمه عليه بالموت والفساد، صار للطبيعة قانوناً أبدياً وغير متغيّر. لذلك، لإبطال هذا الحكم، صُلب ابن الله ربنا يسوع المسيح ومات مقدّماً ذاته ضحية لخلاص الإنسان من الموت، ضحية رهيبة وفائقة العظمة. إن حكم الله، “أنت من التراب وإلى التراب تعود”، على غرار كل ما وُضع على الإنسان بعد السقوط، سوف يكون فعلياً إلى نهاية الدهر. لكن برحمة الله، بقوة تضحية المسيح العظيمة، لن يكون لهذا الحكم أي فعل في الزمن الآتي، عندما تتمّ القيامة العامة، فالقيامة لم تكن ممكنة لو لم يقم ابن الله نفسه من الموت، وهو الذي مات لإبطال الحكم المذكور ولقيامة الطبيعة البشرية بأكملها، لأن الذي قام كان إنساناً أي المسيح، تماماً كما أن الذي مات بالأصل كان إنساناً، أي آدم، وكلا الاثنين يحملان كلٌ في ذاته كلَّ الجنس البشري.
في أي حال، فليعلم الجميع أنه بعد تدبير التجسّد ما زال هناك وقت في هذه الحياة لإلغاء القانون الإلهي المتعلّق بالعقاب على الخطايا. إن أحكام الله التي وُضعَت على آدم الأول الذي أخطأ في الفردوس حين كان يحيا حياة بلا اهتمامات، لم تُبطَل عن حق في هذه الحياة وقد وُضعَت للجنس البشري كقانون طبيعي. لكن أحكام المسيح، بعد تدبير التجسد، التي أنزِلَت علينا نحن السالكين في هذه الحياة البائسة، صار ممكناً إبطالها في هذا الجيل. وكل مسيحي، إذا كان قد سقط تحتها، عليه أن يهتمّ بكل غيرة وجهد بأن تُرفَع عنه فيما هو هنا؛ لأنها أكثر هولاً من القوانين السابقة كونها تمتد إلى الدهور الآتية. إذا كانت القوانين السابقة، التي جرّدت الإنسان من الحياة الوقتية، أي قوانين الموت والفساد، تبدو غير مُحتَملة، فإنّ قوانين العقوبات الأبدية التي لا تنتهي التي سوف تُفرَض في الدهر الآتي سوف تكون أكثر ثقلاً ولن يطيقها الذين سوف يحبَرون على اختبارها.
فلنسمعْ الآن لماهيّة هذه القوانين بالتحديد. يقول سيدنا يسوع المسيح “وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ كُلَّ مَنْ يَغْضَبُ عَلَى أَخِيهِ بَاطِلاً يَكُونُ مُسْتَوْجِبَ الْحُكْمِ، وَمَنْ قَالَ لأَخِيهِ: رَقَا، يَكُونُ مُسْتَوْجِبَ الْمَجْمَعِ، وَمَنْ قَالَ: يَا أَحْمَقُ، يَكُونُ مُسْتَوْجِبَ نَارِ جَهَنَّمَ.” (متى 22:5). هذا يعني أن الذي يوجّه هذا الكلام لأخيه، ما أن يلفظه حتى يصير تلقائياً وبشكل مباشر عرضةً للعذاب الأبدي. لكن هذا القرار أو القانون الإلهي يفقد فعله ما أن يتوب الإنسان ويقرر صادقاً وبتصميم ألاّ يقول لأخيه مرة أخرى “يا أحمق”، وأنّه يفضّل أن يموت على أن يقول لأخيه المسيحي “يا أحمق”. على المنوال نفسه، بالتوبة والندم والتصميم على الامتناع عن الخطايا، تفقد كل قوانين الله الأخرى فاعليتها.
لكن فليكن معلوماً عندنا أنّه فقط هنا في هذه الحياة وحيث يوجد انتهاك لوصايا الله، فقط هنا يمكن إبطال قوانين الحساب الإلهي المرعِبة، بسبب رحمة الله غير المحدودة وبقصد توبة صادقة وكاملة. لكنّ مَن لا يتوب تقع عليه هذه القوانين بشكل أكيد. من دون تقصير سوف يُعاقَب الذي يعبد الرب بالإثم مثل شرير: مَن ينظر إلى امرأة ليشتهيها سوف يُعاقَب مثل زانٍ، المغتصِب سوف يُعاقَب مثل عابد أوثان. إلى هذا، إذا تاب أحدٌ عن هذه الخطايا وما شابهها، ولكن في الوقت عينه كان بلا رحمة، غير شفوق وقاسي القلب، أي أنه يقابل الشر بالشر ولا يغفر لأعدائه، فهو لن يحصّل أيّ مردود من توبته، بل سوف تكون عقيمة، بحسب حكم الرب الذي يقول: “لأَنَّكُمْ بِالدَّيْنُونَةِ الَّتِي بِهَا تَدِينُونَ تُدَانُونَ، وَبِالْكَيْلِ الَّذِي بِهِ تَكِيلُونَ يُكَالُ لَكُمْ.” (متى 2:7). وليس هذا فقط بل قد يكون ما هو أسوأ.
قد يكون أنّ أحدهم بعد أن يتوب توبة صادقة سوف يحصل على رحمة الله وغفران كل ديونه من الخطايا. لكن بعد هذا يصير بلا رحمة ولا شفقة على الآخرين لا يغفر لهم ما له عليهم، فهو يكون قد بدّد بنفسه تنازل الله نحوه والرحمة التي أظهرها له، على ما يقول الكتاب المقدّس: “أَفَمَا كَانَ يَنْبَغِي أَنَّكَ أَنْتَ أَيْضًا تَرْحَمُ الْعَبْدَ رَفِيقَكَ كَمَا رَحِمْتُكَ أَنَا؟. وَغَضِبَ سَيِّدُهُ وَسَلَّمَهُ إِلَى الْمُعَذِّبِينَ حَتَّى يُوفِيَ كُلَّ مَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِ.” (متى 33:18-34).
فليعطِنا الرب أن نتوب عن خطايانا وأن نكون رحومين ورؤوفين على إخوتنا، لكي يؤهّلنا للبركة الأبدية بالمسيح نفسه، الإله الحقيقي الذي له المجد إلى الأبد. آمين.
* لا يعني كلام القديس هنا أن المسيحين لا يخطئون بل واضح تعليمه في عظاته بأن المسيحي لا يخطئ طالما النعمة مفعّلة فيه. فالمسيحيون يبقون خطأة أمام الله بقدر ما لا يفعّلون النعمة. فعندما يخطأ المسيحي تطون خطيئته علامة على توقف عمل النعمة فيه. فبحسب تعليم القديس، كل الجهاد في حياة المسيحي هو للحفاظ على هذه النعمة ناشطة وفعّالة ولاكتسابها مجدداً عندما نحسّ بأننا نخسرها. (المترجم)