الأبوة الروحية
المتقدّم في الكهنة باسيليوس كالياكمانيس
نقلها إلى العربية الأب أنطوان ملكي
1. مدخل
في هذه الأيام، عندما نتحدث عن أب روحي، فإننا نعني عادةً كاهناً معرّفاً. ولكن في تقليد الكنيسة، فإن معنى الأبوة الروحية أوسع بكثير. الله وحده هو الآب [1]. المسيح، الذي هو ابن الله، يظهر أيضًا كأبينا، بإظهار محبة الآب للعالم. إن المسيح بصفته الأبوية أكثر وضوحا عند الصعود. لقد هجس تلاميذه باليتم الروحي وغمرهم ألم لا يوصف. لكن الرب لا يتركهم يتامى، بل أرسل الروح القدس، الذي يقودهم إلى “كل الحق” [2]
بالروح القدس، ولد الرسل أولاداً روحdين ونقلوا مواهبهم إلى الأساقفة، الذين نقلوها بدورهم إلى خلفائهم. نسمّي العديد من هؤلاء آباءً. الكنيسة الأرثوذكسية رسولية، لكنها أيضًا كنيسة الآباء [3]. في الآونة الأخيرة، لم يستخدم مصطلح “الأب الروحي” كثيرًا بمعنى شخص مستنير بالروح القدس، يساهم في تنمية النعمة ويؤسس الحياة الروحية للمسيحيين في شخص المسيح. عادة، يُنظر إلى الأب الروحي على أنه دليل للسلوك الخارجي، أو مستشار، أو “طبيب نفساني ديني”، أو وصي على القوانين والشرائع، أو مجرد معترف يمنح مغفرة الخطايا
2. الأبوة الروحية
ولكن فلننظر إلى المعنى الأعمق للأبوة الروحية، في التقليد الإنجيلي الكنسي. يكتب القديس بولس: “وأِنْ كَانَ لَكُمْ رَبَوَاتٌ مِنَ الْمُرْشِدِينَ فِي الْمَسِيحِ، لكِنْ لَيْسَ آبَاءٌ كَثِيرُونَ. لأَنِّي أَنَا وَلَدْتُكُمْ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ بِالإِنْجِيلِ” [4]. في نقطة أخرى يشدد: “يَا أَوْلاَدِي الَّذِينَ أَتَمَخَّضُ بِكُمْ أَيْضًا إِلَى أَنْ يَتَصَوَّرَ الْمَسِيحُ فِيكُمْ” [5]. إذًا، يلد القديس بولس الأولاد بالإنجيل وبألم يرى المسيح يتكوّن في الإنسان
بحسب قوانين الرسل (القرن الرابع) أن الله يمنح التبني الإلهي عِبر الأساقفة. لهذا السبب، ينبغي محبة الآباء الروحيين كمحسنين وسفراء لدى الله، إذ هم أعادوا تكوينكم بالماء [المعمودية]، وأشبعوكم بملء الروح القدس [الميرون ووضع الأيدي]، وأطعموكم بالكلمة كما بالحليب، وغذّوكم بالعقيدة [التعليم]، وثبّتوكم بوصاياهم [التعليم الشخصي]، ونقلوا إليكم جسد المسيح المخلص ودمه الثمين، وحلّوكم من خطاياكم [التوبة والغفران]، وجعلوكم شركاء في الإفخارستيا الإلهية المقدسة [الشركة] “[6]
نجد مواقف مشابهة في نصوص إغناطيوس الأنطاكي. لذا ينسب كل من النص الرسولي وما بعد الرسولي الطابع الكنسي إلى الأبوة الروحية. الأسقف هو “صورة الآب” [7]. إنه ليس مسؤولاً فقط عن “ربط الخطايا وحلّها”، ولكنه يعيد التوليد بالمعمودية؛ يغذّي بتعليمه ووعظه؛ ويقدم سر الافخارستيا. في تلك السنوات، كانت التوبة، في الغالب، تسبق المعمودية
يمكننا أن نرى تطورًا متناسبًا للأبوة الروحية ترافق مع ازدهار الرهبنة. صارت تُستخدَم كلمة “أبّا” المأخوذة من اللغة السنسكريتية والتي كانت تعبّر عن العلاقة الجديدة بين المسيحيين والله، بالاقتران مع مصطلح “الشيخ”، خاصةً للنساك والرهبان أصحاب الموهبة. في التقليد الرهباني، “الأب” هو راهب اقتنى التمييز، يتعلّم من الله، هو شيخ ، أبّا، أو ستاريتز. هو شخص أُعطي الاستنارة الإلهية والتمجيد من خلال التطهّر. لا تنبع هذه الأبوة من أي وظيفة تراتبية بل هي مواهبية وبالعادةِ ذات طبيعة شخصية. إلى هذا، تتطوّر هذه الموهبة داخل الكنيسة. ليس غريباً أن يتوجه الأساقفة إلى هؤلاء الرهبان لطلب مساعدتهم ونصيحتهم [8]. وينطبق الشيء نفسه على النساء اللواتي كنّ أمهات في البريّة متميّزات بمواهبهن الروحية. لقد ساعد سكان الصحراء الآخرين على سلوك حياة في المسيح وكانوا يُعرَفون بـ “أبّا” أو “أمّا”
في القرن الرابع كان البعض يعتقدون أن الأسقف والكاهن متساويين من جهة الأبوة الروحية. في الرد على هذا الوهم وإدانته، كتب إبيفانيوس القبرصي أن “رتبة” الأسقف هي “نظام تولّيد الآباء”. الأسقف مكرّس، “لأنه يولد في الكنيسة”، في حين أن تكليف الكاهن، حيث أنه لا يستطيع أن يلد الآباء، هو “توليد أبناءً للكنيسة بإعادة الولادة في الجرن”[10]. وبعبارة أخرى، الكهنة يعمّدون المسيحيين ويجعلونهم أبناء الله. في ظروف استثنائية، كأثناء اضطهاد ديسيوس، أدخَل الأساقفة عملية “التوبة إلى كاهن” (عن الخطايا العقائدية، كالارتداد، والتي تُحال إلى الأسقف في الظروف العادية] مع أن هذا سقط من الممارسة بعد ذلك
يقول القديس سمعان اللاهوتي الحديث (956-1036) أن السلطة الروحية للربط والحلّ أعطاها الرسل القديسون أولاً إلى الأساقفة. مع مرور الوقت، انتقلت من الأساقفة إلى الكهنة الذين تميزوا بقداسة حياتهم، وبعد ذلك، إلى الرهبان. عاملان مهمّان ساهما في انتقال النعمة إلى الرهبان: أولاً، الانتشار السريع للمسيحية وازدياد عدد المسيحيين. وثانياً، التراجع والتهاون في حياة الأساقفة والكهنة. ولكن بحسب القديس سمعان، فإن المرض نفسه أصاب الرهبان وأصبحوا “إجمالاً رهبانًا غير رهبانيين”[11]. إن الانتقاد القاسي من جانب القديس سمعان اللاهوتي الحديث وأوساط تلاميذه لا يعني أي تحدًّ أو انتقاص للبعد المؤسسي للكنيسة. الهدف منه كان تجديد الحياة الرهبانية وحياة الكنيسة بشكل عام، وتنمية الأبوة الروحية كما يمنحها الروح القدس
مواقف القديس سمعان اللاهوتي الحديث حول قدرة الرهبان على ممارسة الأبوة الروحية تعرّضت للانتقاد، خاصةً فيما يتعلق بـالربط والحلّ. وهكذا، بعد قرن من الزمان، وضع فالسامون [ثيودوروس فالسامون، بطريرك أنطاكية وأحد أوائل الخبراء البيزنطييين بالشرع الكنسي] تمييزاً واضحاً بين الرهبان الذين يستمعون إلى أفكار الآخرين من ناحية ويقدّمون الإرشاد، ومن ناحية أخرى سلطة حلّ الخطايا، التي يمنحها الأساقفة فقط للكهنة المأذون لهم [12]. سمعان التسالونيكي (1429) كان أكثر صرامة: “إلى هذا، لا ينبغي منح رتبة الأبوة الروحية للرهبان العاديين غير المُسامين. هذا لأن الأمر مقدس لدرجة أن القوانين تحدد أنها مهمة خاصة بالأساقفة، وليس الكهنة. يمارس الكهنة هذا الخدمة عند الضرورة فقط وعندما لا يكون الأسقف حاضرًا بل غائباً. في الواقع، يجب إحالة أكبر الخطايا، أي إنكار الإيمان والقتل وتعدّي الكهنة، إلى الأسقف، وكذلك كل ما هو خارج معرفة المعرّف. يجب أن يتمّ كل شيء بموافقة الأسقف، لأن التوبة تقع ضمن مجاله الخاص، أي مجال الأسقف. هذا واضح من نشر رسالة وعظية “[13]
على الرغم من ذلك، تشدد مجموعة القوانين البدائية من زمن الحكم التركي على الأساقفة أن يصدروا كتب تفويض للرهبان للقيام بخدمة الأب الروحي. يختلف القديس نيقوديموس الأثوسي مع وجهة النظر أعلاه. مستشهدًا بالتقليد الكنسي السابق، فيكتب ما يلي: “لا ينبغي أن يعترف العلمانيون عند الرهبان، ولا الراهبات، لأن هذا يتعارض مع القوانين” [14]. إلى جانب ذلك، يشير “دليل الاعتراف” الذي وضعه القديس نيقوديموس بشكل مفصّل إلى مهمة الأب الروحي، في ما يتعلق بالامتثال للقوانين المقدسة وتطبيقها. يجب الاضطلاع بممارسة الأبوة الروحية وممارستها فقط من قبل أولئك الذين بلغوا اللاهوى من خلال جهادات النسك. هذه هي السياسة الصارمة في الكنيسة. ولكن في الوقت نفسه، لأن القديس نيقوديموس يعرف احتياجات عصره وأوجه قُصوره، يوصي الأساقفة على الأقل بتكليف الكهنة الأكثر خبرة من كبار السن وجعلهم آباء روحيين، لأنهم، بسبب العمر، أكثر خبرة في المعرفة وبطريقة ما قد روّضوا الأهواء”[15]. إنه لا يستبعد الكهنة الأصغر سنا إذا كانوا فاضلين وقد اقتنوا فكر الشيوخ. حتى أنه يطرح فكرة أن “إلى جانب الكهنة المتبتّلين وغير المتزوجين، فإن المتزوجين الذين يستحقون ذلك” يجب أن يصيروا آباء روحيين [16]
[1] “وَلاَ تَدْعُوا لَكُمْ أَبًا عَلَى الأَرْضِ، لأَنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ” (متى 9:23)
[2] أنظر يوحنا 13:16
[3] أنظر جورج فلوروفسكي: “الكتاب المقدس والتقليد: نظرة أرثوذكسية”
[4] 1كورنثوس 14:4
[5] غلاطية 19:4
[6] قوانين الرسل 33:2
[7] إغناطيوس الأنطاكي، الرسالة إلى أهل مغنيسية، 1،6، PG 5, 669AB؛ إلى تراليان 3، PG 5, 677AB
[8] P. Evdokimoff, Le monachisme intériorisé.
[9] Palladios, Lausaic History, vol. 1
[10] Against Heresies, 3, 1 55, 4 PG 42, 508CD
[11] V. Christoforidis, Ἡ πνευματικὴ πατρότης κατὰ Συμεὼν τὸν Νέον Θεολόγον, Thessaloniki 1977, pp. 52-53.
[12] Ibid, p. 57.
[13] On Repentance [Περὶ μετανοίας, μτφρ. Ἰ. Φουντούλη, Τὸ ἱερὸν μυστήριον τῆς μετανοίας, Εἰσηγήσεις-Πορίσματα Ἱερατικοῦ Συνεδρίου τῆς Ἱερᾶς Μητροπόλεως Δράμας ἔτους 2002, Drama 2002, p. 407].
[14] البيذاليون [Πηδάλιον, p. 313].
[15] دليل الاعتراف، ص. 12
[16] Ibid, p. 13.