الهدوئية واللاهوت: مساهمة في الحوار حول المجمع الكبير المقدس
جورج منتزاريذس
نقلها إلى العربية الأب أنطوان ملكي
بمناسبة انعقاد ’المجمع’ الكبير المقدس للكنيسة الأرثوذكسية، نُشر هذا النص للأستاذ جورج منتزاريذس، وهو يدور حول طريقة إنتاج اللاهوت الأرثوذكسي. إنه مساهمة في النقاش الأوسع الذي يسبق المناقشات التي كانت مُنتَظرة في المجمع
ليست الهدوئية مدرسة لاهوتية أو نظاماً كنسياً وحسب، إنها بالأحرى ظاهرة تسمو على المدارس والأنظمة المتعددة. لا بل من الأصح أن الهدوئية ليست محصورة بفترة محددة في تاريخ الرهبنة، كالقرن الرابع عشر، حين هاجم الراهب الجهبذ برلعام الكاليبري الرهبان الأثوسيين وأثار النزاع الهدوئي المعروف. الهدوئية هي صقل السكون الذي هو الصفة الراسخة للرهبنة الأرثوذكسية. لكن ما هو السكون ومما يتألف؟
بالمعنى العادي، “الهدوئية” (السكون) تتساوى مع عدم التنقّل، أي عكس الحركة؛ وتُعتبر قابلة للتحديد بالراحة في تضاد مع العمل والانشغال. بتعابير أخرى، يُفهَم السكون على أنه خارجي وبالأساس حالة جسدية، من دون أي محتوى روحي أو ارتباط مباشر بحياة الناس الداخلية. إنه يتطابق مع ما يسميه الآباء الهمود [+]
لكن في التقليد الأرثوذكسي، للسكون معنى مختلف كلياً. إنه لا يتساوى مع عدم الحركة، ولا مع الراحة. ولا هو يُعامَل كنوع من أنواع التحول المتمسك بالعرف أو الفضيلة. السكون هو أرقى أشكال عدم الاهتمام والفضيلة الأكثر كمالاً. إنه الطريق نحو معرفة الله التي تُتوّج بمعاينة الله. الفضائل الأخرى، التي تُنجَز بالعمل، أي بإتمام الوصايا، هي المرحلة الأولى، وهي شرط مطلوب إن أردنا أن نتابع تقدمنا نحو معاينة الله
القديس الهدوئي العظيم، القديس سمعان اللاهوتي الحديث يعبّر عن هذا الأمر بدقة في قوله: “لا يقدّم أي من الرسل أو الآباء الحاملون الله الهدوء على العمل، لكن في التزامهم بالوصايا يظهِرون عن معرفةٍ وإيمان محبة الله “[3]
لم يكن السكون في يوم من الأيام مفضلاً على الالتزام بالوصايا. عدم الالتزام الطوعي بالوصايا هو العكس تماماً للسكون. بسبب محبتهم لله، يلتزم الهدوئيون بأمانة بوصاياه وبالتالي يصيرون قادرين على إدراكه. إن رغبتهم بالبقاء معه هي ما يسمح لهم بعبور مرحلة الضطراب والقلق ولمعانقة نار السكون الإلهية، حتى “يستطيعوا أن يسمعوا سكون المسيح” [4]. لهذا السبب، نموذج السكون والحياة الهدوئية في الأرثوذكسية هو سيدتنا الفائقة القداسة التي تحمل النار الإلهية بين يديها [5]
من خلال الالتزام بالوصايا نظهِر محبتنا لله ونقارب معرفته. “اَلَّذِي عِنْدَهُ وَصَايَايَ وَيَحْفَظُهَا فَهُوَ الَّذِي يُحِبُّنِي، وَالَّذِي يُحِبُّنِي يُحِبُّهُ أَبِي، وَأَنَا أُحِبُّهُ، وَأُظْهِرُ لَهُ ذَاتِي” [6]. لكن حالة الصلاة القلبية تسمو على التزام الوصايا. فيما الالتزام بالوصايا الذي يسمى بشكل أعم ’العمل’ في التقليد النسكي، يقود إلى ’المعاينة’، فإن سكون الذهن هو الموضع حيث تتمّ المعاينة الإلهية
طبيعي أن الناس، قبل بلوغهم مستوى سكون الذهن، عليهم أن يجربوا تركيز عقلهم لتحريره من الاهتمامات وسحبه من الهموم الدنيوية. بهذه الطريقة، يتمّ تقديم الإعراض عن أشياء هذا العالم كطريقة للتطهر النسكي وعملية للارتقاء نحو سكون الذهن. لهذا السبب يضع القديس يوحنا السينائي، معلّم الهدوئية، الزهد على أنه عارضة السلم الأولى، في كتاب السلم الذي هو دليله إلى الهدوئية. فهو يقول أنه ما من أحد يدخل الخدر السماوي بإكليل إن لم يمارس الزهد المثلث: للأشياء وللآخرين، قطع المشيئة الذاتية، ورفض المجد الباطل [7]
اختبار السكون
إن اختبار السكون يتطلب بالطبع سلاماً خارجياً. لا يمكن تحقيقه في اضطراب الحياة المعاصرة وضجيجها، على الرغم من الوجود الدائم لشواذات لامعة تستطيع أن تحقق ما لا يتحقق. السكون هو حالة للنفس، أو بدقة أكثر، حالة للذهن. عندما يتوقف ذهننا عن استهلاك ذاته في الأمور الخارجية ويكفّ عن التشبّع بمحفزات هذا العالم، يعود إلى ذاته ومن خلال ذاته ’يصعد إلى فهم الله’ [8]. يُختَبَر السكون أولاً وقبل كل شيء في الصحراء، وكل الهدوئيون العظماء عبروا في الصحراء
في ما يتعلّق بالاقتراب من الله ومعرفته، فيُشار عادةً إلى الآية من المزامير ’كُفُّوا وَاعْلَمُوا أَنِّي أَنَا اللهُ’ [9]. هذه الآية تؤخذ غالباً على أنها تعني السكون الخارجي. بتعبير آخر، لا يُعتَبَر السكون سوى الامتناع عن العمل والراحة الخارجية. لكن سكون مثل هذا وراحة مثل هذه ليس فيهما أي فحوى إيجابية وبالطبع لا تقدمان أي معرفة لله. ’لأن معرفة الله لا تُعطى بالسكون من الخارج… بل بالحري يتحقق السكون في أولئك الذين جاهدوا شرعياً وحسناً’ [10]. إذا توقف الناس عن العمل، من باب احترام الوصايا، من دون أن يستغلّوا في العمل الروحي، يكونون كسالى على الجانبين وبالتالي هم يخطأون على الأكيد [11]
لا تأتي معرفة الله كنتيجة للسكون الخارجي، مع أن اكتسابه نافع. ولا الهدوئية هي حصراً في السكون الخارجي. إن سكون الهدوئية الأرثوذكسية ليست نظرية، بل هي حالة اختبارية بإفراط. إنها تفترض مسبقاً احترام الوصايا وتنمية الفضائل. عندما ينضج النسّاك في المرحلة، في العمل، أو بتعبير آخر عندما يجاهدون شرعياً وحسناً سعياً إلى الفضائل، يصيرون قادرين على الالتفات نحو المعاينة. والفرح الناتج عن هذه المعاينة الإلهية هو السكون الحقيقي، إنه سكون الذهن
في عرض شكلَي الحياة النسكية هذين، يكتب القديس غريغوريوس اللاهوتي أن شكلَي الحياة النسكية كلاهما حسن ومحبوب والناس مدعوون إلى اتّباع الشكل الذي يلائمهم. العمل هو لغالبية البشر، بينما المعاينة هي للكاملين [12]. القديس غريغوريوس فضّل المعاينة. هو لم يبلغ هذا التفضيل بسبب تركيبته النفسية بل بالأحرى بالمحبة الإلهية “للصلاح والسكون” المتشبّع منهما [13]
يظهر أن صديق القديس غريغوريوس الأقرب، القديس باسيليوس الكبير، فضّل العمل. هذا جعله أساس الحياة الرهبانية التي أسسها. لقد ذُكِر أنه استثنى حياة النسّاك بشكل كامل، على اعتبار أنها غير قابلة للمصالحة مع طبيعتنا الاجتماعية وربما لم يقبل النساك إلا نحو آخر حياته وعلى أنهم شواذات. هذه النظرة هي بالغالب تبسيطية. المظاهر تغش بالغالب. القديس باسيليوس الكبير اختبر السكونَ بقوة ولاحظ أهميته للحياة الروحية. لقد كان أيضاً الأساس الصحيح لعمله الرعائي والاجتماعي الذي ما من مساوٍ له. كيف لنا أن نفسر أجاباته للأسقف مودستوس أو فقره المُطْبِق بعد أن وزع كل خيراته الأرضية التي ورثها من أهله؟ـ
يشير القديس باسيليوس إلى أنه إذا كان فكرنا غافلاً “لا نستطيع أن نبلغ إلى محبة الله ولا محبة قريبنا” [14]. إن التشديد الذي يلجأ إليه عند الإضاءة على التنبيه الوارد في سِفْر تَثْنِيَةِ الاشْتِراع بأن “انتبه لنفسك” [15] نموذجي عن ما لديه للقول. في إحدى مواعظه حول هذا القول الكتابي يقول معلّقاً: “انتبه لنفسك، إذاً. أي لا أنت ولا عائلتك ولا المحيطين بك، بل لنفسك فقط” [16]
ليس السكون ملازماً للعمل وحسب بل هو بالحقيقة شرط مسبق للقيام الصحيح به. كل عمل صائب هو ثمر السكون. التقيّد الدقيق بوصية المحبة المزدوجة تفترض توحيد الشخص البشري الكسير، تنظيم الفكر، وسكون العقل. لم يشجع القديس باسيليوس تأسيس مراكز للنسّاك، وهو ما كان ممكناً أن يكون سهلاً، على ضوء عدد الجماعات النصف-نسكية التي كان قد أسسها المؤمنون في أيامه. هو لم يقم بذلك لأنه نفسه قد عاش ونشأ في السكون، وأُعطي له معاينة الله، كما يكشف في إحدى الرسائل [17]
لقد فضّل القديس باسيليوس دير الشركة لأنه أراد أن يتلافى الخطر الكبير الناتج عن الانقسام والرضا عن النفس الذي قد يصِل إليه الكثيرون إذا اتّبعوا حياة غير منظّمة [18]. ولكن لتنظيم الدير على أساس جيد وللحفاظ على منظورها الهدوئي المواهبي مفتوحاً فقد حدد الزهد شرطاً شدد عليه وحدده على أنه “تحويل القلب البشري إلى المجال السماوي” [19]. هذه النظرة للمؤسسة الرهبانية والحياة المسيحية طورها لاحقاً أخو باسيل الروحي والفعلي، أي القديس غريغوريوس النيصّي، في كتاباته الجميلة الروحية الهدوئية
الرهبنة الأرثوذكسية: نصيب مريم الصالح (لوقا 42:10)
من بداياتها، كانت الرهبنة الأرثوذكسية هدوئية. الرهبان الأولون، في عيشهم بعيداً عن العالم وممارستهم الصلاة المستمرة كانوا بالجوهر هدوئيين [20]. لقد أحسّوا بأن عليهم اللجوء إلى السكون “لكي يتحدّثوا إلى الله بوضوح” [21]. هذا كان ما زال مطلباً بديهياً لكل مؤمن حقيقي. وهكذا يكون السكون صفة أساسية لهيئة الكنيسة. إنه نصيب مريم الصالح الذي ثبّته المسيح بشخصه والذي يشدد عليه كل التقليد الأرثوذكسي ويمدحه. إنه يفسّر أيضاً الإلفة الموجودة دائماً بين جسم الكنيسة الأرثوذكسية بأكمله والتقليد النسكي، كما تظهر في الفيلوكاليا ونصوص القديسين إسحق السرياني وأفرام السرياني ويوحنا السلمي ونيقوديموس الأثوسي وغيرهم
بالنسبة لكل المسيحيين، السكون هو طريقة للنسك وأسلوب حياة. على منوال الأخلاق، حياة المؤمنة الروحية لا تُوصَف بشكل مضخّم ولا بشكل مجتزأ، بل هي تنفرد بشكل ديناميكي من خلال التخلي عن الذات للمشيئة الإلهية. في الرهبنة، يتحقق هذا بالطاعة. بعبور مرحلة التطهر من الأهواء والالتزام بالوصايا، يحقق الرهبان تنقية العقل والقلب من خلال الطاعة. بهذه الطريقة، هم يختبرون السكون كحالة سكون للعقل أو القلب. إنهم يختبرونها كحالة اتحاد بين العقل والقلب أو كتأمّل بإنسان القلب المختبئ [22]، حيث يصير ممكناً رؤية انعكاس حقيقة الله. هنا لا يعود السكون نسكياً بل فوق كل شيء مواهبياً. إنه حالة من طهارة النفس فيها يتحرر الناس من كل تشوش وفوضى داخليين، إلى نقطة يتخطون فيها ذواتهم ويستسلمون إلى معاينة الله. في حالة السكون هذه يصير الناس شفافين أمام الله، معروفين منه، لأنه يريدهم وهم يعرفون الله لأنهم ملتزمون بإرادته. لهذا السبب، كما يكتب الشيخ (القديس) صوفروني أن لا نسك في هذه الحياة المواهبية الأصيلة [23]. في هذه الحياة، يكون قد تمّ تخطي الأهواء التي النسك هو سلاح ضروري ضدها
في حقل اللاهوت الأكاديمي، أحياناً يُثار السؤال: “ما الأساس الكتابي للهدوئية، ما الهدف الذي تخدمه وإلى أي وصية يستند، فيما كما هو معروف جيداً، كل وصايا الإنجيل تُختَصَر بوصية المحبة المزدوجة؟”ـ
بالطبع هناك مادة في هذه الأسئلة، لكن في الوقت نفسه تبقى بلا إجابة من اللاهوت الأكاديمي. هناك بالطبع سند كتابي للسكون الهدوئي في نص من المزامير: “كُفُّوا وَاعْلَمُوا أَنِّي أَنَا اللهُ” [24]. هذا قد تمّ فهمه بمعنى عملي من دون أي استفاضة أو تعمّق بالمعنى. على الأقل هذا ما فهمه الإنسانويون البيزنطيون المعاصرون للقديس سمعان اللاهوتي الحديث. هناك أيضاً أمثلة عملية من الكتاب المقدس مع النبي إيليا على جبل الكرمل، يوحنا المعمدان في الصحراء، ويسوع نفسه الذي انسحب ليصلّي في سكون الصحراء [26]. لكن حتى هذه ليست كافية لتبرير الهدوئية. كثيرون يؤمنون بأن السكون يفوق على العمل. ما ليس مفهوماً بشكل صحيح هو أن من دون السكون يتقوّض العمل نفسه. من دون السكون، كل خلاص الجنس البشري يكون منقوصاً لأننا لسنا “مخلَّصين” بل ما زلنا مهشّمين
بشكل عام، لا يجد كلا اللاهوت التنزيهي واللاهوت العقائدي (الإيجابي) أيَّ تبرير للسكون والهدوئية. يجب السعي إلى الإجابة على سؤال اللاهوت الأكاديمي في نوع من اللاهوت السامي غير المعروف في نطاق خبرة الكنيسة. يمكننا أن نجد جواباً على هذا السؤال فقط حيث يمكن أن نختبر ونثبّت العلاقة الأساسية بين السكون واختبار ماهيّة المسيحية، خاصةً تطبيق وصية المحبة المزدوجة. هناك، تتقدّم خبرة السكون والهدوئية كحقل لتأسيس اللاهوت المسيحي في اللاهوت السامي
الهدف الأساسي للاهوت هو معرفة الله
إذا كان الهدف الأساسي للاهوت هو معرفة الله وإذا كان هذا يتمّ كنتيجة لشركة المحبة بين الله والناس، الهدوئية والسكون، كوسيلة عملية لمعرفة الله وكثمرة لها، فهذا يثبّت أصالة هذه المعرفة بحسب اللاهوت السامي، أي اختبارياً ووجودياً. إن عمق العقائد لا يُقاس، بحسب معلّم الهدوئية القديس يوحنا السلمي. إن عقل الهدوئي قادر على اختبار هذه الأمور من دون أي خطر. تبقى كل مقاربة لهذه الأمور لا يسبقها التحرر من الأهواء محفوفة بالمخاطر [27]
هذا الخطر أشار إليه أيضاً القديس غريغوريوس اللاهوتي [28]. اللاهوت يفترض مسبقاً الطهارة في العلاقة والشركة مع أقنوم كلمة الله. هذا يوضحه القديس يوحنا السلمي بكلامه عن عدم تطهر الحواس واتحادها بالله “الحوار مع الله هو أمر خطِر”. كلّ مَن ينطق باللاهوت في حالة كهذه “ينطق بتخميناته” [29]. إن أحد مقتضيات اللاهوت، وهو أيضاً حالة أصيلة، هو السكون مع الطهارة: “فليتمم عمل اللاهوتي المتدرّج في الطهارة” [30]. واللاهوت كحالة يتمّ اختباره في سكون الفكر وسكون القلب. يكتب الرسول بولس أن الناس الروحيين يحكمون في كل شيء ولا يحكم فيهم أحد [31]. يمنح سكون الفكر صفاءً لعقل الناسك ويسمح له بالتآلف مع المسيح. مع هذه الموهبة، التي تعمل دوماً ضمن جسد المسيح أي الكنيسة، يشهد اللاهوت الاختباري على حقيقة الروح القدس السامية بالرغم من أنه يستعمل دوماً الخطاب البشري المناسب
من المميز بشكل خاص أن القديس سمعان اللاهوتي الحديث في عظته عن السكون يحدّ نفسه بشكل شبه حصري في الحديث عن خبرة أشخاص تخلّوا عن العالم واهتماماته وكرّسوا أنفسهم للمسيح ومواهبه. وهكذا، هو يشير إلى الزانية التي غسلت قدمي المسيح بدموعها، مركزاّ بشكل كامل على ذلك القادر على غفران خطاياها. إنه يستذكر حالة التلاميذ الثلاثة الذين صعدوا مع المسيح على طور ثابور واختبروا عجب تجليه، وانذهال التلاميذ الذين كانوا مختبئين في غرفة “خوفاً من اليهود” عندما رأوا معلمهم القائم من الموت، وما إليه
يقول القديس أنه ليس على النساك أن يأخذوا هذه الأمثلة كمجرد روايات، بل عليهم أن يروها تتحقق فيهم. إن لم يتحقق ذلك وابتعد النساك عن الوصايا وتوقفوا عن ممارسة الأعمال الجسدية فيما هم يجهلون كيف يعملون روحياً فهم يفشلون في كلا الحقلين ويخطأون. إن الذين يعرفون العمل الروحي جيداً لا تمنعهم معرفتهم عن إتمام الوصايا عملياً من خلال الجهد الجسدي. بالواقع، قد يجدونه أكثر سهولة. لكن إذا توقف الناس الذين تكرّسوا للجهد النسكي عن ممارسته فهم يصيرون عاجزين عن العمل الروحي [32]. يطبّق القديس غريغوريوس بالاماس التمييز بين معرفتي الله العقلية والتجريبية باستعمال عبارتي “لاهوت” و”معاينة”. يقول القديس أن اللاهوت بعيد عن معاينة الله، التي تتحقق في النور، بُعدَ معرفة الشيء عن اقتنائه: “الكلام عن الله ليس نفس الأمر كالشركة معه”. يحتاج اللاهوت للكلام المنطوق، وحتّى لفن الكلام، كما لاستعمال الحجج المنطقية والبراهين، لتمرير المعرفة إلى الآخرين. هذا يمكن أن يعمله أناس أصحاب حكمة دنيوية حتى ولو لم يكونوا أنقياء روحياً. لكن لكي يكتسب الناس الله ويتآلفوا مع نوره الفائق الطهارة، بقدر ما تستطيع الطبيعة البشرية، فهذا يستحيل تحقيقه من دون خروجهم من ذواتهم أو تخطيها. وهذا يتطلب مسبقاً التطهر الذي يأتي عِبر ممارسة الفضائل [33]
هذه الصفة الوجدانية لمعرفة الله (بمعنى تخطي الذات دون أن تعني نوبة عاطفية) تنسجم بشكل كامل مع الطبيعة النسكية للنظرة المسيحية إلى الشخص البشري. لا يحقق الناس إمكانيتهم إلا إذا تخطوا ما هم عليه. نحن لم نُخلَق من الله لنبقى كما نحن. نحن مخلوقون بشراً لكي نصير آلهة بالنعمة. إن شبه الله هو المتغيّر الوجداني الممنوح لنا منذ أن تكوّنت طبيعتنا، لكمالنا كأشخاص وتحقيق هدف وجودنا
عمل اللاهوت الأكاديمي مهم عندما يخدم الكنيسة بتواضع
إن إمكانية التسامي الوجداني هي من الطبيعة البشرية قلباً وقالباً. الطبيعة البشرية هي تصوير لصورة الله. هذا لا يعني أنها ليست حقيقية. على العكس هذا يعني أنها حقيقية جداً ومتحرّكة بالواقع. لمزيد من الدقة، هذا يعني أنها شخصية؛ وبتعبير آخر، أن حقيقتها ويقينها يكمنان في العلاقة المباشرة مع النموذج الأعلى المطلَق، الذي يتجاوز نسبيتها. إنها مرتبطة بالكائن الحقيقي الذي تصوّره
البشر لا متناهون وزهيدون في آن معاً. نحن لامتناهون عندما نبقى أنقياء ونعكس في داخلنا الكائن الحقيقي أي الله. الله لا متناهٍ بالطبيعة ونحن صورته لا متناهون بالنعمة. ولكن عندما نتلطخ، أي نُظلِم، لا نعود نساوي شيئاً. نكون ظلاميين بشكل مطلق وزهيدين لأننا نجعل النموذج الذي فينا باهتاً ونخدشه، وهو المطلَق واللامتناهي
كتب القديس إغناطيوس المتوشّح بالله: “اللاهوت الهدوئي يسمَع سكونَ الله. إنه يتابع عمل مريم التي جلست عند قدمي يسوع وأنصتت إلى تعليمه” [35]. هناك ايضاً لاهوت أكاديمي يعمل عمل أختها مرثا، التي كانت مغمورة بالتهيئة لعشاء المسيح [36]. من دون عمل مرثا الدؤوب، ما كان العشاء ليتهيأ. كمثل مريم، مارثا أحبّت المسيح. لقد امتدح المسيح موقف مريم، لكنه قال أن النصيب الصالح لن يؤخذ منها [37]
لطالما كان اللاهوت الأكاديمي موجّهاً نحو العالم ومُرهقاً بخدمة كثيرة [38]. إنه يربط اللاهوت بفقه اللغة والتاريخ والفلسفة وعلم الاجتماع وكل ما يعتبره نافعاً كعلمٍ. إنه يعمل دائماً باهتمام دنيوي عظيم للتهيئة لعشاء الكنيسة وأحياناً بالفعل مثل مارثا يعبّر عن الهلع من أولئك الذين تبنّوا موقف مريم، متناسين مديح المسيح لها. ولكن مع أنه يعمل عمل مرثا، غالباً ما يسرق من حصة مريم. وهذا يخلق ظروفاً خطرة على الكنيسة والمؤمنين
عمل اللاهوت الأكاديمي نافع ومهمّ عندما يخدم بتواضع، مفتّشاً ومظهِراً حياة الكنيسة وتقليدها. لكنه يصير أقل أماناً، وحتّى خطيراً، عندما يذعِن للزهو والتلوّن البشريَين. إن تحويل اللاهوت غير التجريبي إلى شكل خطير من أشكال الكلام الفارغ هو أمر ذو أهمية كبرى. يشير القديس سمعان اللاهوتي الحديث إلى أن الكلام البطّال ليس كلاماً غير نافع وحسب، كما قد يفترض البعض، بل هو كلام تمّت صياغته من دون وعي مستند إلى التجربة لما يُقال. مثلاً، عندما يعلّم البعض مقتَ المجد العالمي فيما هم أنفسهم لا يزدرونه كمسبب للضرر وسبباً لخسارة “المجد الذي من فوق” يكونون ناطقين عبثاً وكاذبين [39]
يقوم اللاهوت الأكاديمي على المعرفة. وهو يكون على حق عندما يقوم على معرفة صحيحة. اللاهوت الاختباري لا يقوم على المعرفة بل أساسه هو النور. المعرفة ليست نوراً، بينما النور هو معرفة [40]. يكون اللاهوت الأكاديمي مؤسَّساً بشكل صحيح عندما يتأسس في معرفة النور. هذا الأساس يُغني اللاهوت الأكاديمي. واللاهوتيون الأكاديميون ملزَمون بمهمة إغناء فكرهم ولاهوتهم بلاهوت النور الذي يتضمّن بعض اشكال الاحتكاك مع اللاهوت التجريبي، وبعض أنواع ممارسة إخلاء الذات والطاعة لكي يكون لاهوتهم مثمراً. من دون هذه المستَلزَمة، يصير اللاهوت الأكاديمي كلاماً فارغاً لا بل كلاماً كاذباً. بحسب القديس ذياذوخوس أسقف فوتيكي “ما من شيء اكثر فقراً من فكر يتأمّل بالله من دون الله” [41]. في النهاية، في الإشارة إلى طبيعة اللاهوت السردية، يكتب الشيخ (القديس) صوفروني أن اللاهوت الحقيقي ليس نتاج العقل البشري ولا نتاج الدراسات النقدية بل هو إعلان يتعلّق بالكائن الأسمى يدخل الناس فيه من خلال عمل الروح القدس [42]. لهذا السبب، المقاربة الحقيقية لتعليم الكنيسة العقائدي تكون من خلال “ضد العقائد (anti-dogmatics)” أي من خلال الخبرة الشخصية
يمكن تحديد اتجاهَين ضمن اللاهوت الأكاديمي: المحافِظ والتقدمي. اللاهوتيون المحافِظون، برعونتهم وعقمهم، يتكلّمون من دون أن يكونوا ما يصفون. إنهم عاجزون عن تشجيع أو إعاقة أي تحرّك نحو نار السكون الإلهية. اللاهوتيون التقدميون بمخيلتهم الجَسورة واستبصارهم يحاولون أن يكونوا دوماً على توافق إبداعي مع المجتمع الدهري. لكن، بهذه الطريقة، لا يُحافَظ على اللاهوت الحقيقي ولا يتمّ أي تقدّم. إن محور المحافَظَة الحقيقية والتقدمية الحقيقية في اللاهوت الحقيقي تبقى دائماً نار السكون الذي يكتفي بموقف مريم. إن حامل شعلة النار هذه هو الهدوئية الأرثوذكسية التي حُفِظَت عبر السنين ويمكن تحسسها تجريبياً في كلٍ من مراحل التجديد في الكنيسة الأرثوذكسية. ولهذا تبقى الهدوئية المصدر الأمين لكل تجديد في الكنيسة الأرثوذكسية
+الهمود (inaction – αργία)
[1] See Gregory the Theologian, Λόγος εις εαυτόν 26,7, PG 35,1237B.
[2] See Symeon the New Theologian, Ηθικά 15,1, ed. J. Darrouzès, Syméon le Nouveau Théologien, Traités Théologiques et Éthiques, Sources Chrétiennes, vol. 129, Paris 1967, p. 444.
[3] ibid. pp. 454-6.
[4] Ignatios of Antioch Προς Εφεσίους 15, 2.
[5] Dismissal Hymn of Our Lady the Consolation.
[6] Jn. 14, 21.
[7] John the Sinaïte, Ladder 2,14, PG 88, 657Α.
[8] Basil the Great Επιστολή 2, 2, PG 32, 228A
[9] Ps. 45, 11
[10] Symeon the New Theologian, op. cit. p. 454.
[11] ibid. p. 452.
[12] Gregory the Theologian, Έπη ηθικά 33, PG 37, 928A.
[13] See idem, Απολογητικός της εις Πόντον φυγής 6, PG 35, 413Β.
[14] Basil the Great, Όροι κατά πλάτος 5,1, PG 31, 920Β.
[15] Deut. 15, 9.
[16] Basil the Great, Ομιλία εις το «πρόσεχε σεαυτώ» 2, PG 31, 201Α.
[17] idem, Επιστολή Αμφιλοχίω Επισκόπω 233,1, PG 32, 865D.
[18] idem, Όροι κατά πλάτος 7,1-2, PG 31, 929A- 932A.
[19] ibid. 7,3, PG 31,940CD.
[20] See John Meyendorff, «Ησυχασμός», Θρησκευτική και Ηθική Εγκυκλοπαιδεία, vol. 6, Athens 1965, col. 83.
[21] See Gregory the Theologian, Λόγος εις εαυτόν 26,7, PG 35, 1237Α.
[22] See I Peter, 3, 4.
[23] Archimandrite Sophrony (Sakharov), We shall see Him as He is, Stavropegic Monastery of Saint John the Baptist, Essex 1988.
[24] Ps. 45, 11.
[25] See Symeon the New Theologian, op. cit. 15,135-138, p. 454.
[26] See Matth. 4, 1; 14, 13. Mk. 1, 12-13; 1, 35. Lk. 4, 1; 5, 16.
[27] See John the Sinaïte, op. cit., 27, 9, PG 88,1097C.
[28] See Gregory the Theologian Λόγος 27 (Θεολογικός 1) ,7, PG 36,13D.
[29] See John the Sinaïte, op. cit., 30,12-13, PG 88,1157C.
[30] ibid.
[31] See I Cor. 2, 15.
[32] See Symeon the New Theologian, op. cit., 15, 94 ff., and p. 450 ff.
[33] See Gregory Palamas Υπέρ των ιερώς ησυχαζόντων 1, 3, 42, ed. P. Christou, Γρηγορίου του Παλαμά, Συγγράμματα, vol. 1, Thessaloniki 1962, p.453.
[34] Ignatios of Antioch, op. cit. 15, 2.
[35] See Lk. 10, 39.
[36] See Lk. 10, 40.
[37] See Archimandrite Sophrony (Sakharov) Building the Temple of God within us and to our Brothers, Stavropegic Monastery of Saint John the Baptist, Essex 2013.
[38] Lk. 10, 40.
[39] See Symeon the New Theologian, op. cit. 1, 461-8, ed. J. Darrouzès, Syméon le Nouveau Théologien, Traités Théologiques et Éthiques, Sources Chrétiennes, vol. 122, Paris 1966, p. 306.
[40] idem. Κατηχήσεις 28, Sources Chrétiennes, vol. 118, p. 146.
[41] Diadokhos of Fotiki, Κεφάλαια γνωστικά 7, ed. J. E. Weis- Liebersdorf, p. 10.
[42] See Archimandrite Sophrony (Sakharov) The Monk of Mount Athos.
* أستاذ شرف في مدرسة اللاهوت في جامعة أريستو في تسالونيكي ـ