واقع “المجموعات” في الكنيسة الأنطاكية
الأب أنطوان ملكي
عرفت الكنيسة الأنطاكية مؤخراً، وبخاصة بعد انتشار شبكات التواصل الاجتماعي ومنصاته، ظهور “مجموعات” عديدة. غالباً ما يترافق ظهور هذه المجموعات مع صفحة أو صفحات على شبكات التواصل الاجتماعي دون أن تتقدم المجموعة بطلب بركة من مجمع أو من أسقف. الواقع الرعائي يتيح لهذه المجموعات أن تعمل، فتستمر طالما قضيتها قائمة، كمثل غيارى البلمند أو مجموعات الدعم التي نشأت حول أزمة حماطورة، ومن ثم إما تندثر أو تتحوّل إلى صفحة. لكن، مع البيان الذي أصدرته “مجموعة أرثوذكسيون” في مطلع حزيران 2020، صار من الضروري الانتباه إلى ظاهرة المجموعات وتقييمها رعائياً
لم يعرف التقليد الأرثوذكسي إلى النصف الثاني من القرن التاسع عشر أيّ تجمعات قانونية للمؤمنين إلا بشكلين: الرعية والدير. وبحسب التقليد أيضاً، يخضع هذان الشكلان للأسقف الذي يسوسهما قاطعاً باستقامة كلمة حق. على مدى هذه السنين، لم تكن العلاقات بين المطارنة والرعايا وكهنتها والأديار ورهبانها دائماً سلامية وبنّاءة، ما استدعى أن تتطرق المجامع، المسكونية والمحلية، إلى تنظيم هذه العلاقات من خلال قوانين هي علاجات أكثر منها دساتير.
إلا أن منذ منتصف القرن التاسع عشر، وبتأثّر مباشر بالغرب، بدأت تظهر في الكنيسة الأرثوذكسية جمعيات وأخويات. هذه الجمعيات قد تضمّ إكليريكيين وعلمانيين وتكون ذات أهداف محددة تعمل على تحقيقها. الأهمّ في الأمر هو أن هذه الجمعيات تعمل من ضمن الكنيسة ومن خلال بناها القائمة وبالتنسيق مع المطارنة والكهنة في الرعايا. علاقات هذه الجمعيات بالرئاسات الكنسية، شأن علاقات الأديار والرعايا، لم تكن دوماً على قلب الله ولا كما هو مخطط لها. فبعض الجمعيات كانت تتخطى حدودها حيناً والرئاسات تتخطّى حدودها أحياناً.
أنطاكية ليست شواذاً عن غيرها من شقيقاتها من الكنائس. أهمّ الجمعيات التي ظهرت في أنطاكية هي حركة الشبيبة الأرثوذكسية التي أخذت الإذن والبركة من المجمع الأنطاكي من خلال ما يُعرَف بالطرس البطريركي. ومثلها الجمعيات الأخرى التي أخذت شرعيتها من أهدافها التي وافق عليها إما المجمع، للجمعيات التي تعمل على مستوى الكرسي الأنطاكي، أو المطران المعني، للجمعيات التي تعمل على مستوى الأبرشية أو بعض الرعايا، وفي كل الأحوال تتخذ هذه الجمعيات صفة قانونية في وجه السلطات عن طريق علم وخبر صادر عن الدولة. لا يخلو التاريخ من توترات حدثت لأن أحد الطرفين تخطى حدوده، لكن الأمور لم تصل يوماً إلى حدِّ أن يدين أحد المطارنة أيّاً من الجمعيات أو أن تتطاول إحدى هذه الجمعيات على أحد الرؤساء استعلاءً أو إدانة. عمل هذه الجمعيات أظهرها شريكة في تكميل الكرسي الأنطاكي وحفظ لها موقعاً واضحاً في القانون الكنسي بشكل يجعل عملها يتكامل مع عمل الرعاة
المجموعات التي تتكاثر في هذه الأيام تختلف، كحالة في الكنيسة عن جمعيات الماضي. الأكيد أن وجود كل هذه المجموعات اليوم ليس طبيعياً، لأنه ببساطة لا يتّفق مع التقليد، لا من حيث الكيان ولا من حيث السلوك. فالسمة العامة أن يكون أعضاء المجموعات مجمّعين من رعايا مختلفة وأحياناً من أديار. ما يجمع هذه المجموعات في أغلب الأحيان، من دون تعميم مطلَق، هو وحدة هدف مصحوبة بعدم التزام بالرعايا وخلاف مع كهنتها. طبعاً، هذا صار متاحاً بسبب توفر وسائل النقل، حيث صار كلّ مَن لا يعجبه كاهن رعيته، عن حق أو عن تشبّث، حراً في اختيار رعية أخرى أو دير يصلي فيهما أو يتنقل بينها. من نتائج هذا التفكك في الرعايا أن صار للأديار أبناء ورعايا، وصار الدير يفتقد هؤلاء إذا تغيبوا ويسائلهم. ليس أكيداً أن كل الأديار تطلب من الذين يلتزمون بها أن يعيدوا النظر في علاقاتهم برعيتهم
كون المجموعات كيانات غير تقليدية يستدعي التأمّل في تأثيرها على حياة الكنيسة. ما يلي نموذج من عمل إحدى هذه المجموعات، وهي تُدعى “أرثوذكسيون”. سبب اختيارها هو بيان أصدرته من دون تاريخ، وفيه توجّه انتقادات للكهنة والمطران في أبرشية طرابلس والكورة انطلاقاً من مقالين نُشرا في الكرمة، نشرة المطرانية
واضح أن المجموعة تنتقد في بيانها، كمَن له سلطان، وتعطي نفسها صلاحية أن تسمّي راعي الأبرشية، الذي تصدر النشرة على مسؤوليته، بشكل يفتقد للياقة العامة والبنوية بشكل خاص. فمن القواعد المعروفة أن كلّ ما يصدر في نشرة الكرمة يكون بلا توقيع ما عدا كلمة الراعي، وهذا نمط متّبع في كل الأبرشيات في أنطاكية وغيرها. لذا كلام المجموعة عن تردد في الرد مردود خاصةً عند الإشارة إلى “الكثيرين”. فإن كانت المجموعة أو الكثيرون يرون أنهم من أبناء الكنيسة، فاللياقة والترتيب يقتديان أن يتوجّهوا إلى المطران بملاحظاتهم إذ لا موقع شرعي يتيح لهم التقييم خارج هذا الإطار. والمطران له أن يقبل هذه الملاحظات أبوياً، والأمثلة كثيرة عن صدور تصحيح أو إيضاح في عدد لاحق من النشرة، يضع الأمور في نصابها التعليمي الصحيح. لكن الواضح من نصّ البيان غياب اللياقة حتى أن يصف كاتب البيان أو ممليه راعي الأبرشية بأنه راهب سابق. مَن هي هذه المجموعة ومن أين أخذت التكليف للحكم بأن المطران راهب سابق؟ هل في المجموعة رهبان مختَبَرون يعرفون الرهبنة حقاً ليحكموا بتجريد رمز الرهبنة الأنطاكية من نفسه؟ إن إلحاق هذا القول بأنه “مشهود له بالإيمان الصّحيح والتقوى” هو تذاكٍ في غير مكانه لأنه أيضاً صادر عن جهة غير مخوّلة الحكم في الأمر
للمجموعة الحرية في أن ترى فكراً بروتستانتياً في أي مقال يصدر في نشرة الكرمة أو غيرها، لكن ليس لها أن ترى نفسها في موقع الحسيب والرقيب حيث يصحّ التساؤل: مَن عيّنها؟ قد تكون المجموعة على الغيرة التي تحاول إظهارها لكنها ليست على مستوى المعرفة الذي يتيح لها محاسبة أحد، وإلا كانت تفضلت إلى المجمع وقدّمت شكواها على المطران، بما يكون أكثر تهذيباً وأقلّ بلبالاً في الشعب
أهم ما في التعبير عن الرأي في الكنيسة، كما خارجها، هو البقاء في حدود الأدب بشكل يؤول إلى بناء السامعين من المؤمنين. أن تتيح المجموعة لنفسها أن تقول أي كلام يعني أن عليها أن تتيح لغيرها أن يقول ما لديه وتحاوره. المطران هو مطرانها ومطران غيرها أيضاً، إلا إن كانت ترى أنها تحتكر كل النعَم التي في الكنيسة. من هنا يكون سؤال المجموعة < أين كهنتنا من “مسيحِنا وتعاليمه”:> سؤال خارج إطاره. الكاهن أبٌ يطالبه ابناؤه الذين في الرعية أو يطالبه المطران الذي هو أبوه. أن يطالبه غيرهما هو إنتاج للفوضى. وعليه يكون بيان “أرثوذكسيون” زرعاً للفوضى. خاصةً أن الكلام بدأ عن مقالتين وانتقل إلى سلوك رعائي، فهل يعرف “أرثوذكسيون” ما يريدون؟ واضح جداً في تكرارهم تسمية صاحب السيادة باسمه بين مزدوجين أن من بين أهداف البيان التجريح بالمطران، وبالتالي بمَن يمثّل من كنيسة أنطاكية وكهنته وأبرشيته، وهذا ما تؤكّده مجموعة الأسئلة التي تلي التسمية
ختام البيان يشير إلى أن كاتبه أو ممليه انتبه إلى أنه استرسل في التصويب على المطران وتذكّر أن المدى الذي يتحرّك فيه هو الكنيسة فوجد المخرج في سرد كلام له شكل التقوى. الانطباع الذي يتولّد لدى قارئ البيان هو أن كاتبيه ينطبق عليهم وصف الرسول بولس في رسالته الثانية إلى تيموثاوس (13:3) بأنهم: “مُضِلّونَ وَمُضَلّونَ”
كما ذُكِر في مطلع المقال، بيان “أرثوذكسيون” هو نموذج عن فوضى يرعى وجودها في الكنيسة احترام حرية التعبير التي يكفلها هذا الزمن. قد تكون مجانبة آباء الكنيسة التعرض لهذه الفوضى عن احترام لهذه الحرية أو تردد أو طول أناة أو كسل. لكن الأكيد أن غالبية الأبناء، من المجموعات والأفراد، لا تحترم هذا الأمر ولا تقدّر السوء الذي ينتج عن تخطيها له