الأب أنطوان ملكي
لم يعرف المسيحيون طريقةً للمناولة منذ إنشاء الكنيسة إلى منتصف القرن التاسع عشر، إلا الكأس المشتركة. تعددت استعمالات هذه الكأس: فالأرثوذكس والشرقيون يناولون منها بالملعقة، الكاثوليك يغمّسون القربان فيها، ومجموعات كبيرة من الأنكليكان والبروتستانت يشربون منها بالتداول. مع انتصاف القرن التاسع عشر، عرف العالم نظرية الجراثيم، وقد كانت غالبية الميتات في ذلك الحين بسبب الأمراض المُعدية، فاشتهرت هذه النظرية وانتشرت حتى وصلت إلى الكنائس. بدأت الأسئلة تُطرَح حول صوابية المناولة من الكأس المشتركة خاصةً حيث تواجد أصحاب الغايات. ففي أميركا مثلاً، أخذ الأمر بعداً آخراً لأن في غالبية الكنائس الكاثوليكية والأنكليكانية والبروتستانتية كان على السود أن ينتظروا إلى أن ينتهي الكاهن من مناولة البيض. لهذا انضمّ المطالبون بالمساواة إلى المطالبين بإلغاء الكأس المشتركة. ولم يكن هذا الأمر قد انتهى في أيام مارتن لوثر كينغ الذي وصف الساعة الحادية عشرة من يوم الأحد على أنها قمة العزل في المسيحية الأميركية. النتيجة كانت أن المناولة صارت في أقداح فردية، أي لكل متناوِلٍ قدح.ـ
لم تتأثر الكنيسة الأرثوذكسية بهذه التغيرات بل بقيت المناولة كما كانت لألفي سنة. من بعد التغيير في الغرب، صارت تظهر في الكنيسة بعض الأصوات المنادية باستبدال الملعقة والكأس لكنها لم تصل إلى حد التأثير على الكنيسة بشكل أدّى إلى مناقشتها في أي من مجامع الكنائس. في الربع قرن الأخير، عرف العالم يعرف عدة موجات صنفتها وكالة الصحة العالمية كأوبئة، تقريباً كل سنتين: انفلونزا الطيور وأنفلونزا الخنازير وغيرها من عائلةال(H) والإيبولا والسارس. في القرن العشرين عرف العالم موجات قاتلة كثيرة من الرشح الإسباني الذي حصد خمسين مليون إنسان، والملاريا التي حصدت الملايين، والسل والآيدز وغيرها.ـ
في كل مرة كان العالم يواجه هذا النوع من الأمراض كانت ترتفع أصوات من داخل الكنيسة الأرثوذكسية تتساءل حول صحة المناولة بالملعقة الواحدة من الكأس الواحد، لتنتهي منادية إلى ضرورة تغيير هذه الطريقة استناداً إلى ضرورة مواكبة العصر والتكيّف مع العلوم الحديثة وغيرها. وكانت تمضي هذه الموجات وتخفت هذه الأصوات وكأنها لم تكن، ليس لأنها أصوات غير مسموعة ولا لأن الكنيسة الأرثوذكسية حقل سلطة الإكليروس ولا لأن التقليديين يسيطرون على الكنيسة. السبب المنطقي والعلمي الوحيد الذي يجعل هذه الأصوات نحاساً يطن هو أنها لم تثبت علمياً، أي أنه وخلال كل هذه الموجات الوبائية وقبلها الكثير مما عرفته الكنيسة في الألفي سنة الماضية، لم يُسجَّل أي حالة انتقال لعدوى بالمناولة لا إلى علماني ولا إلى كاهن، مع التأكيد على أن الإكليريكيين أكثر عرضة من العلمانيين بحكم أنهم “يتلمذون” الكأس بعد القداس. وهنا لا بدّ من الإشارة إلى أنّ الكهنة يختبرون في كل قداس، حتى في أصغر الرعايا، حالات عديدة تثير التساؤل “العلمي”. ولو أن الكهنة يقعون في تجربة التعاطي مع ما يعاينون بمنطق المجهر، لأُغلِقَت الكنائس من زمان.ـ
لكن الواضح هو أن ما تطرحه الكورونا اليوم أوسع بكثير مما سبق الإشارة إليه. فالكنيسة اليوم عرضة لضغوط خارجية قوية من الحكومات التي تريد تلافي الأسوأ وبالتالي تعتبر أن الكنائس كتجمعات قد تكون مكاناً مناسباً لانتقال العدوى وانتشار المرض. هذا الكلام يصعب رفضه بالعقل العلمي، ولهذا أعلنت بعض الكنائس توقفها عن إقامة الخدَم العامة لفترات مختلفة. طبعاً بمقابل هذا الكلام هناك موقف في الكنيسة يرفض التوقف عن إقامة الخدم التي هي عمل الكنيسة وهويتها. من هنا اختلفت المواقف بين مرجع وآخر في كنيسة وأخرى، لكن ما ينبغي التنبيه إليه هو أن الخطر في التجمع والازدحام وليس في المناولة. من هنا أن موقفاً ثالثاً برز في بعض الكنائس بأن الحضور أصلاً اختياري، كما عبّر رئيس اساقفة اليونان بقوله أننا لا نحفظ سجلات حضور في الكنيسة، وفي دعوة بطريرك الكرج إلى تكثيف الصلوات. والفكر نفسه يظهر في موقف كنيسة أنطاكية التي عبّرت في بيانها: “يقيم الكاهن في الرعايا الصلوات والقداديس بمشاركة المرتّل وخادم الكنيسة، دون ما يمنع مشاركة أيٍ من المؤمنين”.ـ
يدّعي أبناء الكنيسة المطالِبون باستبدال الملعقة أو الكأس بأن كلامهم علمي. تتلخّص حججهم بأن على الكنيسة أن تغيّر مواكبة للعصر، وأن الخبز والخمر بعد تحولهما لا يفقدان طبيعتهما الأصلية ويبقيا مادة قابلة لنقل المرض، وأن التغيير ضروري لكسر التسلط التاريخي للإكليروس، وأن التغيير ممكن لأن الملعقة والكأس ليسا منزَلين… إذا قُبِل هذا الكلام على أنه علمي، لا بدّ من أن نسأل عن المنهجية العلمية. لا يكون الكلام علمياً لمجرد أنه يتبع تركيبة منطقية، بل يكون علمياً إذا اقترن بالوقائع والبراهين المستندة إلى الاختبار المتكرر. لم نصل إلى دراسة واحدة تحدّثت عن انتقال عدوى من الكأس المشتركة، عند أي من الطوائف المسيحية. في المقابل، ممكن توثيق ما لا يقلّ عن دزينة من المقالات التي تقول أن لا إثبات علمياً على انتقال أي عدوى في الكأس المشتركة، وكلها أوراق علمية صادرة إما في مجلات محكمة أو في مؤتمرات مختصّة. لم يؤدِّ البحث عن مقالات تقول عكس ذلك إلى أي نتيجة. يوجد عدد من المقالات التي تشكك بانتقال العدوى في الكأس أو الملعقة، لكنها ليست من أصحاب اختصاص، وللأسف أن غالبيتها للاهوطيين (عبارة لاهوطي هي تسمية أطلقها الميتروبوليت بولس المغيّب مطران حلب على الكتّاب اللاهوتيين حين يخرجون عن تقليد الكنيسة، وكان يحذّر طلاب اللاهوت من تحويل اللاهوت إلى لهط، واللهط في تاج العروس هو “ما يُسمع ولا يُعتقد ولا يُكذّب”، أي الكلام الذي لا معنى له).ـ
في الختام، عندما شفى الرب مخلع كفرناحوم قال له “مغفورة لك خطاياك”، أما “قم واحمل سريرك وامشِ” فجاءت “على البَيعة” كما نقول في العامية. غفران الخطايا هو العمل الإلهي، المعجزة، أما المشي فهو عمل مواكب. وتعليم الكنيسة الأرثوذكسية يقول أننا في كل قداس نشهد معجزة تحوّل الخبز والخمر إلى جسد الرب يسوع، سواء احتفظت المادة بخصائصها أو لا، وبغض النظر عن مادة الكأس والملعقة، وحتّى عن حاملهما ومدى طهارته أو تسلطه. لهذا نحن نؤمن بأن عدم نقل العدوى يأتينا “على البَيعة”. مَن يرى غير ذلك فليأتِنا ببراهين أو فليبقَ نحاساً يطنّ إلى أن يتوب أو يتعب أو يموت.ـ