آريك هايد
نقلته إلى العربية أسرة التراث الأرثوذكسي
بالنسبة لبعض المسيحيين، هذه الأفكار قديمة وربما بلا معنى. الشعور الشعبي الذي يطلقه الكثيرون اليوم هو أن المسيحية هي انتصار مستمر في معركة لم نخضها أبدًا، معركة لم نكن بحاجة لخوضها أبدًا، لأن المسيح دفع ثمن المعاناة عنّا. مهمتنا هي ببساطة أن نستلقي في النِعَم ونحاول ألا نسمَن.ـ
إنها لفكرة جذابة، خاصة بعد مرور عقود من السلام والازدهار دون أي تقطّع خطير: لا أوبئة، لا حرب وطنية، لا انهيارات في سوق الأسهم، لا مجاعة واسعة النطاق، وما إلى ذلك. بشكل عام (باستثناء قضايا الصحة الشخصية) أكثر ما يُقلق المرء في مكان كالولايات المتحدة الأمريكية هو الحفاظ على الرفاهية. ففي هذه الثقافة، دليل البرَكَة ليس مَن يستطيع أن يتحمل المعاناة أكثر، بل من يستطيع أن يتجنب قدراً أكبر من المعاناة.ـ
ليس من النادر سماع المسيحيين يلومون الصعوبات على نقصِ الإيمان. غالبًا ما يشيرون إلى المسيح على أنه المثال النهائي للحياة التي تعيش بوفرة وصحة – فهو يعِد بأن “يعطي الحياة، وتكون حياة أوفر”. لذلك، إذا كانت حياة المرء مليئة بالمشاكل، لا بدّ أن هذا بسبب نقص الإيمان.ـ
إذا لم تُوضع هذه العقلية في سياق أكثر اكتمالًا، فهي تستدعي إنكارًا بعيد المدى أو جهلًا تامًا لما يعنيه المسيح بقوله “احمل صليبك واتبعني” مع الوعود الإضافية بالمحاكمات والاضطهاد من أجل العيش ببِرّ.ـ
بالنسبة للكثيرين منا، الفيروس التاجي هو أول لقاء واجهنا فيه تهديدًا وجوديًا فوريًا وعالميًا؛ تهديد كبير بما يكفي للكشف عن الضعف الفعلي للبشرية. يكتشف الكثيرون لأول مرة أن الموت والمصيبة أمران ممكنان بالرغم من أن المسيح عانى عنّا. هذا أمر محزن بالنظر إلى أن المسيحيين يجب أن يكونوا الأكثر معرفة بالحياة الحقيقية، مع الطبيعة الحقيقية لوجودنا في العالم.ـ
في كثير من الأحيان يسمع المرء الملحدين يسخرون من المسيحية على أنها عكاز الضعفاء، وراحة المحدودين فكرياً. وأن المسيحيين يؤمنون بالقصص الخيالية ويعيشون في واقع بديل وهمي. إذا أزلنا قلب المسيحية الحقيقي يصير هذا الاستهزاء صحيحاً تماماً. إذا كان المرء يعتقد أن المسيحية هي إنقاذ من المعاناة ويقظة أخلاقية، أو حفل كوكتيل روحي أبدي، أو مجرد تبديل حراس في صباح يوم أحد، فهو بالحقيقة يؤمن بالقصص الخيالية. لقد كانت المسيحية ودائماً طريق الوحدة والسكون والخبرة والمعاناة – بأفضل طريقة ممكنة.ـ
الاعتزال ـ
عندما نعود إلى سيرة إبراهيم ورحلته من أرضه، إلى موسى والأربعين سنة في الصحراء، إلى إيليا وأليشع واعتزالهما النسكي على جبل الكرمل، إلى يوحنا المعمدان وعيشه على الجراد والعسل في البرية، أو أي عدد من الآباء القديسين وحياتهم في النسك، نكتشف بسرعة أن الاعتزال والإيمان هما أخوان بالدم من البداية إلى النهاية.ـ
وضع المسيح معايير الاعتزال ليس فقط خلال تجربته، بل في حياته اليومية العادية، إذ كان يقضي كل المساءات وحيداً في الصلاة. نتذكر أنه قبل آلامه مباشرة صلّى وحيداً لساعات عديدة، فيما كان انتظار تلاميذه الأكثر ورعاً وصلابة طويلاً. عندما عجز تلاميذه عن طرد الشياطين علّمهم المسيح “أن هذا الجنس لا يخرج إلا بالصلاة والصوم”.ـ
إن المؤمن الذي لا إلفة له مع الاعتزال قد لا يجد الإيمان الأصيل الذي اختبره قطيع المسيح عبر الأجيال. إن حالة العالم اليوم تقدّم إلى حد كبير فرصة إلزامية لهذا اللقاء، لكن على المرء أن يستعمله طوعياً ويتلافى صرف النظر الشائع عندما يبدأ الضجر الذي يصعب تلافيه.ـ
السكون ـ
السكون وأخته التوأم اليقظة هو نتيجة الاعتزال بالشكل الصحيح. السكون، كما يحدده التقليد الأرثوذكسي، هو الحالة الداخلية من “الهدوء أو الطمأنينة العقلية والتركيز الذي ينشأ بالتلازم ويتعمق مع ممارسة الصلاة النقية وحفظ القلب والفكر. إنه ليس الصمت وحسب، بل هو موقف من الإصغاء لله والانفتاح عليه” (الفيلوكاليا).ـ
إن السكون واليقظة حاسمان جداً حتّى أن المسيح نفسه برهن ضرورتهما خلال تجربته في البرية. على خلاف آدم الذي استعمل اعتزاله بشكل يفتقر للحكمة، المسيح استعمله لينمّي السكون ما سمح له أن يغلب كل تجارب الشيطان. لم يستدعِ المسيح قوى فائقة من فوق، بل بالأحرى هو احتمل كل الخدع الشيطانية باليقظة الساهرة والصلاة.ـ
الخبرةـ
الإيمان المسيحي ليس مجرد مجموعة عقائد أو قوائم تدقيق موضوعية في الأرثوذكسية والابتداع ولا هو علم روحي. الإيمان هو الدخول، الاشتراك، “المشاركة في الطبيعة الإلهية” (2بطرس 5:1). وهناك طريقة واحدة للمشاركة في طبيعة الله، وهي الحضور. لا يستطيع الإنسان أن يشترك في الله من خلال تأملات وحسب، ولا بتحليل مفاهيم مجردة عن الله، ولا بتركيز الفكر في الماضي أو المستقبل. إن المشاركة ممكنة فقط في خبرة الحاضر. هل سمع أحد أن إنساناً امتلأت معدته من فكرة السندويش، أو دفئ من مفهوم النار؟ تماماً كما النَفَس يؤخَذ في الآن، المشاركة في الله تتطلب نوعاً من الحضور الذي لا يمنحه سوى الاعتزال والسكون.ـ
الألم ـ
قد يكون الألم أحد أوجه الإيمان المُساء فهمها بشكل كبير. كيف يتصرف المسيحي المعاصر المتكيّف مع التسلط العلمي على الطبيعة والإشباع الفوري، مع إيمان لا يُعلي الألم المتأتي عن السلوك الصالح وحسب، بل ويشجعه؟ هنا يوجد خياران: أ) إنكار الألم وتطوير عقيدة تعِد بالعكس، أو ب) تثمينه كوسيلة للخلاص. الفكرة الأخيرة هي بعيدة عن حيّز القبول اليوم وكثيرون يعتبرونها دليلاً على الاختلال العقلي.ـ
لكن من دون هذه النظرة الصحيحة للألم يضيع الإيمان. فهم الرسول بطرس أن المؤمن يكمل ويثبت ويتقوى إذ “يتألّم يسيراً” (1بطرس 10:5)؛ وأن إيمانه يتأصّل ويصير “أثمن من الذهب” لأنه حزن “يسيراً بتجارب متنوعة” (1بطرس 10:6-11). آمن بطرس بأن على المرء أن يفرح “كما اشتركتم في آلام المسيح” كدليل على أن “روح المجد والله يحل عليكم” (1بطرس 12:4-14).ـ
الرسول بولس تباهى بأنه لا يفتخر إلا بأنه يعرف المسيح “وَقُوَّةَ قِيَامَتِهِ، وَشَرِكَةَ آلاَمِهِ، مُتَشَبِّهًا بِمَوْتِهِ”، “الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ خَسِرْتُ كُلَّ الأَشْيَاءِ” (فيليبي 8:3-10). وبالطبع في العبرانيين يعلّم أن المسيح نفسه تكمّل بالآلام (10:2). ما هذا إلا مثال بسيط عن التعليم الكتابي عن الألم، وبعد الكتاب هناك فعلياً تعليم وأمثلة لا تنتهي من الآباء القديسين.ـ
إذا فكّر المرء بالأمر كرياضة، مَن يستطيع أن يقلل من ضرورة الألم؟ كل رياضيٍ يحتمل التمرين القاسي، والضغط، وامتحان العضلات والتقرّح الناتج؟ يفهم الرياضي أنه بقدر ما يفتت العضلة ويبنيها، ثم يعيد تفتيتها وبناءها مجدداً، ومجدداً، يصير أكثر قوة، وبالتالي تزداد فرص ربح الجائزة. إن الألم الذي يحتمله خلال بناء الجسد مفهوم على أنه إنتاج للقوة عند الرياضي الجدّي. وهذا بالطبع سبب استعمال الرسول بولس للرياضيين كتمثيل للحياة الروحية.ـ
من جديد، جرثومة الكورونا ألزمت العالم بحالة من الاعتزال. يمكن أن يكون الاعتزال مرعِباً ويرافقه عذابات طبيعية، وإلا لما كنا نستعمل الاعتزال لمعاقبة المجرمين، لكن تحويل العزلة إلى وحدة هو تعديل بسيط بالمقاربة. وبما أن الكثير من الإيمان لا يمكن الوصول إليه من دون الوحدة، فإن هذا التعديل يمكن أن يؤدي إلى انبعاث رائع عند الكثيرين من ابناء الله.ـ